شبكة ذي قار
عـاجـل










( الانتفاضة السلمية في ليبيا قد اختطفت عسكريا والانتفاضة الوطنية قد اختطفت دوليا بحيث لم يعد في وسع أي انسان منطقي صادق مع نفسه أن يصف ما يحدث في ليبيا اليوم بأنه احتجاج سلمي ومظاهرات شعبية لاصلة لها بالخارج )

 

منذ أيامها الأولى، بدا أن نظام العقيد معمر القذافي بحديثه عن "القاعدة" كمحرك للانتفاضة السلمية ضد نظامه وبمسارعته إلى اللجوء للوسائل العسكرية لفض حشودها الشعبية المدنية كان حريصا على عسكرة انتفاضة شبابية سلمية بدأت كما بدأت مثيلاتها في تونس ومصر المجاورتين، فالتقى في ذلك مع المصالح الغربية التي اتخذت من لجوئه إلى العسكرة ذريعة للمسارعة إلى حشد التأييد الدولي للتدخل العسكري الأجنبي.


ويتضح الآن أن عسكرة الصراع بين الشعب الليبي وبين نظام فردي وعائلي احتكر السلطة والثروة وتعامل مع ليبيا طيلة ما يزيد على أربعة عقود من الزمن باعتبارها إقطاعية أعمال خاصة تماما مثل النظام الملكي السنوسي الذي أطاح به عام 1969 هي التي قادت إلى الوضع الراهن الذي حول الانتفاضة الشعبية السلمية إلى حرب أهلية يرجح التدخل العسكري الأجنبي كفة الحسم فيها ويهدد توازن القوى العسكري الذي تتسم به الحرب الآن بتقسيم ليبيا عمليا بالرغم من رطانة كل الأطراف التي تخوضها التي تدعي الحرص على وحدة الأراضي الإقليمية للدولة الليبية، ناهيك عن مفارقة تسليح وتجييش المدنيين الذين حدث التدخل الخارجي باسم الدفاع عنهم باعتبارهم مدنيين.


وفي خضم الحرب المستعرة لا يعود مستغربا أن يفتقد المراقب حركة شباب 17 شباط/فبراير و"المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية" اللذين كانا واجهة الانتفاضة في بنغازي والمهمشان تماما الآن، ولا يعود مستغربا أن ينتقل مركز صنع القرار بشأن مستقبل ليبيا وشعبها من الشارع الشعبي في الداخل إلى دوائر المصالح غير الوطنية في الخارج.


ومن الواضح أن الانتفاضة السلمية قد اختطفت عسكريا وأن الانتفاضة الوطنية قد اختطفت دوليا بحيث لم يعد في وسع أي انسان منطقي صادق مع نفسه أن يصف ما يحدث في ليبيا اليوم بأنه احتجاج سلمي ومظاهرات شعبية لا صلة لها بالخارج، بغض النظر عن استمرار المجلس الوطني الانتقالي - الذي اعترفت به فرنسا وقطر رسميا واعترفت به عمليا (43) دولة غيرهما عندما اعتمدته ممثلا لليبيا وشعبها في مؤتمر لندن الأخير - في نفي أن يكون ما يحدث هو حرب أهلية، وبالرغم من تعيين المجلس منذ أكثر من شهر لقائد عسكري ورئيس أركان يقودان اليوم "المعارك" ضد "كتائب القذافي" حسب مصطلحات المجلس، وبالرغم من طلبات التسلح التي يكرر المجلس توجيهها إلى المجتمع الدولي.


إن الدول العربية التي اختارت أيضا تدويل صراع أهلي في ليبيا عن طريق الحل العسكري باسم الأمم المتحدة عندما اعطت الضوء الأخضر للتدخل العسكري الأجنبي تحت الأعلام الأميركية والبريطانية والفرنسية والكندية قبل أن تعمل جميعها تحت علم حلف شمال الأطلسي "الناتو" منذ يوم الخميس الماضي تتحمل المسؤولية أيضا عن الوضع الراهن الذي آلت إليه الأمور.


وفي هذا السياق لا بد من التدقيق في ادعاء دول التدخل العسكري الغربي بانها اشترطت وجود "غطاء عربي" لتدخلها ثم حصلت فعلا على هذا "الغطاء". فاستمرار القول إن جامعة الدول العربية هي التي طلبت من مجلس الأمن الدولي فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا لمنع سلاح جو القذافي من مهاجمة المدنيين في المدن الليبية ليس دقيقا، إذ لم تحضر اجتماع الجامعة الذي اتخذ هذا القرار سوى (11) دولة فقط منها سوريا والجزائر اللتان عارضتا القرار، مما يعني أن تسع دول عربية فقط هي التي طلبت التدخل الغربي في إطار قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي امتنعت عن التصويت عليه روسيا والصين وألمانيا والهند والبرازيل، مما يذكر ب"الغطاء العربي" المماثل للتدخل العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الذي استبعد أي حل عربي أو سلمي للاجتياح العراقي للكويت عام 1990.


وكان من المتوقع أن تقود عسكرة الصراع الأهلي في ليبيا إلى تدويله وأمركته. ويلفت النظر هنا الحرص الشديد الذي تظهره الولايات المتحدة للتنصل من المسؤولية القيادية عن تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1973، خصوصا بعد أن تولاها حلف الناتو، فرئيس هيئة الأركان المشتركة مايك مولن يقول إن الطائرات الحربية الأميركية لن تحلق مع قوات الناتو بعد الثاني من نيسان/أبريل الجاري إلا إذا طلب الحلف منها ذلك، ووزير الدفاع روبرت غيتس يقول للكونغرس – الذي لم يعد إليه الرئيس باراك أوباما عندما قرر فرض منطقة حظر الطيران فوق ليبيا – إن المساهمة الحربية لبلاده سوف تقتصر على الحرب الالكترونية وتزويد الوقود في الجو والمراقبة، وأوباما نفسه كرر القول إنه لن يكرر خطأ سلفه جورج بوش في العراق وأفغانستان بنشر قوات أميركية برية في ليبيا مع أنه أصدر أمرا رئاسيا بنشر عملاء وكالة المخابرات المركزية "سي إيه إيه" فيها (النيويورك تايمز والواشنطن بوست) إلخ.


ولا يوجد تعليق على هذا "التنصل" الأميركي أفضل من قول سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتن، لفوكس نيوز مؤخرا: قد يكون باراك أوباما هو الانسان الوحيد في كل العالم الذي لا يعرف بأننا، نحن الولايات المتحدة، الذين ندير الناتو !


إن ظهور فكرة وقف إطلاق النار بقوة بعد حوالي ستة أسابيع من القتال هو دليل دامغ على عسكرة الصراع الأهلي على السلطة في ليبيا، وقبول "المتمردين" حسب الإعلام الغربي و"الثوار" حسب الإعلام العربي لوقف إطلاق النار بشروط هو قبول له من حيث المبدأ واعتراف ضمني في الوقت ذاته بخطأ تجييش الانتفاضة الشعبية وعسكرتها.


وبعد زيارة لطبرق قبل عشرة أيام، كان وزير الخارجية الأردني السابق عبد الإله الخطيب في بنغازي يوم الجمعة الماضي، بعد أن زار طرابلس في اليوم السابق، بصفته مبعوثا خاصا للأمم المتحدة لتقييم الوضع والتحقق من الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، وضمن الجهود الدبلوماسية التي يبذلها الأمين العام بان كي- مون بحثا عن حل للأزمة، في متابعة لمؤتمر لندن. لكن التوصل إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار شرط لا بد منه لأي "تسوية سلمية" للأزمة الليبية قال كي - مون عشية توجه الخطيب إلى ليبيا إن الأمم المتحدة تسعى إليها.


إن الطلبات المتكررة من المجلس الوطني الانتقالي للتسلح والتوجه العسكري المتزايد للمجلس وحثه على عدم وقف عمليات التدخل العسكري الغربي ضد دفاعات القذافي ومراكز قيادته وقواته الضاربة هي عوامل لا تترك المجال للكثير من الشك في أن أي وقف لإطلاق النار قد يوافق عليه هذا المجلس لا يعدو كونه مجرد هدنة يستجمع خلالها قواه ويعيد تنظيم قواته بانتظار أن يحصل على أسلحة أفضل كما ونوعا. وهذه العوامل يدركها القذافي جيدا ولذلك لم يكن مستغربا أن يسارع إلى رفض أي فكرة لوقف لإطلاق النار قاد التوازن العسكري الأخير إلى ظهورها بقوة خلال الأسبوع الماضي.


فقد دعا الرئيس الصيني هو جينتاو بعد لقائه مع نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي في بيجين آخر الشهر الماضي إلى "وقف فوري لإطلاق النار" من أجل "إعطاء فرصة للسلام" في ليبيا وقد اتفق جينتاو في دعوته مع نظيره الاندونيسي سوسيلو بامبانغ يودهويونو الذي اعتبر وقف إطلاق النار مقدمة موضوعية لل"بحث عن حل سلمي" واتفق كذلك مع وزير الخارجية الألماني غويدو فيسترفيله على عدم وجود حل عسكري للأزمة في ليبيا لأن "التاريخ قد أثبت تكرارا بأن استعمال القوة ليس جوابا لأية مشكلة" كما قال جينتاو.


إن "شكاوى" المجلس الوطني الانتقالي من توقف عمليات التدخل العسكري الغربي الذي أتاح لقوات القذافي أخذ زمام المبادرة العسكرية لتعيد دفع خط جبهة القتال مسافة (400) كيلومتر باتجاه الشرق أواسط الأسبوع الماضي يسوغ الشكوك التي أثارها كثير من المحللين العرب والأجانب في أن دول هذا التدخل إنما تستهدف انتزاع تنازلات سياسية واقتصادية من المجلس الوطني الانتقالي كثمن لتسهيل تسليحه ومواصلة دعمه بقوة كافية كي يحسم الصراع عسكريا لصالحه.


ولم يعد خافيا أن عسكرة الانتفاضة الشعبية ضد نظام القذافي قادت إلى اعتماد قيادة المجلس الوطني الانتقالي على الغرب اعتمادا يكاد يكون حصريا، سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا، مما سوف يجعل من المستحيل على أي نظام جديد يقوده هذا المجلس أن يتخلص من الارتهان للغرب، ولو في الأقل "امتنانا وعرفانا بالجميل"، قبل مضي فترة طويلة ليس من السهل رؤية نهاية لها، بكل ما يعنيه ذلك من مضاعفات سلبية على كل القضايا العربية الساخنة بدءا من الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ومرورا بالاحتلال الأميركي للعراق وإلى الهيمنة الأميركية التي تحكم قبضتها على صنع القرار العربي.


لقد استبدلت عسكرة الانتفاضة الليبية الإرادة الشعبية التي فرضت أجندتها الديموقراطية وأثبتت نجاعتها كأسلوب وطني عربي في حسم الصراع ضد أنظمة مماثلة في مصر وتونس، وربما في غيرهما قريبا، بالسلاح والاستقواء بالأجنبي كأسلوب آخر لتغيير الأنظمة ما زال العرب يدفعون غاليا ثمن سابقته الأميركية في العراق ومحيط العراق، فقادت العسكرة إلى استبعاد تام للحوار والتسويات السلمية للصراع بين النظام وبين شعبه في ليبيا.


وربما تحول قعقعة السلاح في الوقت الحاضر دون تذكر أن العسكريين الذين انشقوا عن النظام قد سارعوا إلى العمل المسلح بعكس رفاقهم التونسيين والمصريين واليمنيين الذين إما انضموا إلى جماهير شعبهم دون سلاح أو حولوا قطعاتهم العسكرية إلى حراس للانتفاضات الشعبية، أو تذكر أن القذافي تحت ضغط المظاهرات السلمية الحاشدة في الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية عليه كان قد عرض إجراء محادثات مع ممثلين عنها قوبلت بالرفض القاطع والتعهد بالقتال مهما كان الثمن حتى يرحل القذافي أو يهزم عسكريا.


وكانوا في ذلك صدى للدول الغربية التي وجدت في تطور الأحداث فرصة سانحة لتصفية حساباتها مع نظام القذافي ومدخلا تاريخيا لدخول حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة وقيادة "افريكوم" الأميركية إلى القارة الإفريقية وشمالها العربي لأول مرة. فمن يتذكر الآن أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير رفض طلبا من طرابلس الغرب للتوسط في الأزمة في بداياتها، أو من يتذكر كيف أجهضت الدول التي قادت التدخل العسكري لاحقا اقتراحا من جنوب إفريقيا بوساطة الاتحاد الإفريقي لمنع اندلاع حرب أهلية في ليبيا، ناهيك عن اقتراحات مماثلة تركية وفنزويلية وغيرها.


لقد كانت عسكرة الانتفاضة السلمية الليبية هي المدخل الموضوعي لتدويل الأزمة الليبية، وباب التدويل هو المدخل الواقعي لتسلل العامل الإسرائيلي كطرف خفي يحرص على ألا يظهر في الصراع لأسباب غنية عن البيان.


فعلى سبيل المثال، ذكر تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية في 24 الشهر الماضي أن اليهودي الفرنسي المولود في الجزائر برنارد - هنري ليفي كان هو مهندس اعتراف فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي بعد زيارته لبنغازي أوائل آذار / مارس المنصرم.


كما أن هذا التدويل الذي أصبح أمرا واقعا الآن قد اختطف أيضا قيادة الانتفاضة من شبابها الذين فجروها، لتتسلل إلى قيادتها الحالية رموز كثيرة أميركية إما ثقافة أو رعاية أو ارتباطا استخباريا، والأمثلة لم تعد معنية حتى بالابتعاد عن الأضواء.


 

nicolanasser@yahoo.com

 

 





الثلاثاء٠١ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٥ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نقولا ناصر نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة