شبكة ذي قار
عـاجـل










انبثقت حركة البعث من رحم الأمة ومن صميم حاجاتها, وهذا أحد أوجه أصالة البعث التي يتغنى بها مناضليه, أما وجهها الآخر فانه يتجلىّ بكون الولادة قد جاءت معبرة عن ذاتها لا تتعكز على أي فكر ولا على أية عقيدة لا شرقية ولا غربية ولا تشبه أية حركة أو حزب سياسي آخر، لا في الوطن العربي، ولا في سواه.. الأصالة عند البعث هي الولادة التي تفردت بسماتها وأهدافها وبشكلها ومضمونها. وأصالة البعث ليست سمة مقصودة بحد ذاتها على أهميتها, بل هي محصلة حاصل لطبيعة ولادته متمثلا لحاجات الأمة والجدل التاريخي للصيرورة الجديدة لها بعد أن تعرضت لعوامل التفكك والفقر والجهل والتخلف. فالبعث هو بعث للحضارة والقيم العربية والدور الإنساني الرائد، بعد أن غابت تحت أتربة أزمنة القهر والتفكك.


انتشرت الفكرة القومية العروبية الإنسانية البعثية على كامل جغرافية الوطن العربي الكبير فامتلكت بذلك مرتكزات حيوية واتصال عضوي يتماها مع وجود الأمة وخلودا مثل خلودها وتواصلا متصاعدا مع أجيالها حتى يشاء الله سبحانه في تحقيق رسالة الأمة في شقها المتعلق بأهدافها الإستراتيجية في الوحدة والحرية والاشتراكية وبأفق قابل للتواصل الإنساني الخلاق إلى ما بعد هذه اللحظة التاريخية معبرا عنه بخلود الرسالة.


لم يضع البعث أهدافه المقدسة انطلاقا من غرف المكاتب ولا من خلوات الفلاسفة والفنانين، بل من صميم تطلعات الإنسان العربي ومعاناته القاسية الموجعة. فالوحدة هدف ينطلق من حقيقة وحدة الأمة التاريخية وهي حقيقة ايجابية بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية والجغرافية وليس فقط كرد فعل على واقع التجزئة المقيت. هي حقيقة ايجابية تأسست على مقومات حياة اجتماعية موحدة ومتشابهة وإرث فكري وعلمي وثقافي وفني مشترك ووحدة أرض أراد لها الله سبحانه أن تمتد بلا حدود فاصلة ولا عوائق طبيعية تفرض تباينا بيئيا أو جغرافيا محددا. الوحدة العربية تعبر عن إرادة الأمة التي بها تحقق وجودها السامي والنبيل وتوفر مقومات الكيان القائم على الاقتدار والمنعة والرفعة. فشعار الوحدة ليس مجرد شعار سياسي، بل هو هدف رسالي سعى الحزب للاقتراب منه بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك مواقف وقرارات عملية أكلت من جرف الحزب الكثير بسبب التآمر والاستهداف الذي طال التجارب الوحدوية المختلفة للانقضاض عليها وإبعادها عن عالم الواقع توغلا في تيئيس جماهير الأمة مما أدى إلى خسارة الحالة التنظيمية وخسارة التجربة الوحدوية في آن معا.


واشتراكية البعث هي الأخرى وقفت على ركائز الهوية الوطنية والقومية وإرث الأمة الديني و الحضاري والثقافي والفكري وما يوجبه من خصوصيات. وبفضل روح الانفتاح العلمي والموضوعي الواقعي استطاعت فكرة الاشتراكية البعثية العربية أن توجد لنفسها قواعد ومنطلقات عملية في شتى ميادينها تبلورت بصورة لافته في تطبيقات البعث في العراق. ففي الوقت الذي تمكنت تجربة البعث في العراق من إنتاج تطورات نوعية وكمية في بناء الإنسان ومكونات التنمية البشرية مما جعل العراق بلدا متقدما في التربية والتعليم والبحث العلمي وفي التنمية الصناعية وصولا إلى ما هو ثقيل ويدخل حياة العرب لأول مرة، وفي التنمية الزراعية والاتصالات والمواصلات والنقل، وفي الصناعة العسكرية والطاقة النووية وما رافق ذلك كله من بناء للإنسان كهدف أول وكقيمة عليا.


الحرية عند البعث نحت بثقل واضح نحو تحرير الأمة من الاستعمار وشركات الاحتكار وتحقيق الاستقلال الناجز, السياسي والاقتصادي, وإطلاق طاقات الإنسان ليقود أمته المحررة ضمن أطر ومؤسسات وسبل حياة ديمقراطية تشتق من صميم واقع الأمة ومتناسقة مع التشكيل الثقافي ودرجة وعي الإنسان العربي والمنظومات الأخلاقية الدينية والاجتماعية التي تتمسك وتعتز بها الأمة.


تميز البعث بموقف فكري واضح من قضايا كانت ولازالت تمثل معضلات خلافية في خارطة السياسة العربية منها الموقف من الدين والموقف من الأقليات المتعايشة تاريخيا مع العرب. وسنتطرق إلى هذين الموقفين كلا على حدة نظرا لأهميتهما المترابطة جدليا مع أي حراك لتحقيق أهداف الأمة في التوحد والحرية وازدهار الحياة..


البعث والدين :
حيث إن أبناء الأمة العربية يعتنقون أديانا مختلفة لأن الأديان غير الإسلام تشكل أقليات تتعايش هنا وهناك بين العرب المسلمون, وحيث إن التحليل النهائي الذين انتهت إليه العقلية القومية العروبية هو أن يترك أمر الدين وتداوله إلى الإنسان الفرد, وان يكون رجل الدين متخصصا في هذا المنحى الحياتي الذي أراده لنفسه دون أن يكون داعية سياسي بعد أن اتضحت معالم التناقض المهلك في استخدام الدين في الاستقطابات السياسية العربية, فقد تأسست نظرة البعث على هذا الأساس ليكون عقيدة وضعية لا تعامل المواطن العربي في انتماءه إلى الأمة بناءا على تفضيل أو أرجحية حسمتها الأحكام السماوية وصارت بحكم البديهة في صلة الإنسان بربه وفي صلة دين بدين آخر، ولم يعد التعاطي بمجريات الصراع الكهنوتي أمرا يمكن أن ينتج غير المزيد من التمزق والتشرذم الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى. إن هذا الموقف العام وما يتفرع عنه من تفاصيل لم يأت ليضع البعثي المنتمي إلى عقيدته الوطنية والقومية الإنسانية أمام خيارين: إما الإيمان أو الإلحاد، فالبعث قد حسم أمر الصلة بقضية الوحدانية وعبادة الله سبحانه وتعالى بالانتماء إلى الإيمان انتماءا قاطعا لا لبس فيه. الإيمان بالله الذي يقرره الإنسان الفرد العربي طبقا للدين السماوي الذي يعتنقه. فالبعثي المسلم هو مسلم وبعثي بدون أي حرج لأن البعث ليس دينا، بل مشروع قومي لتحقيق غايات وأهداف ورسالة وضعية وما سوى ذلك لا يختلف في مضامين التوصيف الإيماني والوطني والقومي. والبعث لم ولن يتدخل في تفاصيل علاقة الإنسان العربي المسلم بربه، بل يرى إن المسلم الحقيقي المنفّذ لإرادة الله عبر الإسلام الحنيف والمنفّذ بعناية لمتطلبات الإيمان كمسلم، هو مَن يمكن أن ينتمي إلى البعث بروح مبدعه لان البعث وعقيدته تتطلب أن يكون الإنسان مؤمنا ثابت الجنان مستعدا للتضحية من اجل قضية نبيلة يؤمن بها، وأهداف البعث هي رسالة إنسانية تريد الوحدة والإسلام يدعو للوحدة ويريد الحرية والإسلام دين الحرية ويريد الاشتراكية والإسلام دين العدل والرخاء والتطور. وهذا هو الوصف الذي نركن إليه في وصف حال المؤمنون المعتنقون لأديان أخرى غير الإسلام. البعث حزب عقيدة والمؤمنون بالله ورسله وأنبياءه إيمانا حقيقيا هم الأجدر بتقديم النموذج العقائدي في الولاء للفكرة الخيرة التي هدفها خدمة الأمة العربية التي هي الرحم الطيب الذي ولدت منها كل الديانات السماوية والحاضنة والعقل الذي تعاطي بها وأمدها بالديمومة والنماء بإرادة الله سبحانه وتعالى.


البعث في موقفه من الدين تفهم بعمق وصدق حيثيتين مركزيتين في هذه الإشكالية: الأولى هي إن الدين قضية روحية وحياتية يعبر عنها بعبادات معروفة يمارسها الإنسان بمحبة خالصة لله سبحانه وتكون مصدرا لمنحه شخصية ايجابية صادقة مخلصة مُحبة للآخرين مُنتجة في العمل الذي تقوم به خيرة خالية من نوازع الشر وإيذاء الآخرين وتمنحه قوة إرادة خاصة في الانتماء إلى منظومته الاجتماعية وفي التعاطي مع القوانين والأنظمة والتعليمات المتداولة ضمن هذه المنظومة وفي الدفاع عن الكيان السياسي المشرّع والمنفّذ لهذه المنظومات وهو الدولة الوطنية أو القومية طبقا للتعريفات الحديثة للدولة. أما الوجه الآخر فهو الدين المسيّس الذي هو في جوهره حركة أو حركات سياسية وضعية تتعامل مع الدين ليس كعقيدة سماوية، بل على انه عقيدة وضعية يكون الدين فيها هو وسيلة الانتشار والكسب والتعبئة والتحشيد لتحقيق أهداف الحركة السياسية الوضعية التي عجزت عن اشتقاق أهداف وغايات وما يؤطر هذه الأهداف والغايات من فكر فاستخدمت الدين استخداما لا صلة له بالدين. إن اجتهاد الإنسان في تحويل الإسلام مثلا إلى طوائف ووجود أديان أخرى إلى جانب العديد من الطوائف الإسلامية قد وضع العرب أمام معضلة حقيقية هي إن تسييس الدين والطوائف سيكون, بل هو صار فعلا, عامل تمزيق وتفريق طبقا لعوامل الفرقة والتمزيق التي سقط بها الولاء السياسي للأديان والطوائف السياسية. تسييس الدين طبقا لفكر البعث وهذا الفهم المعبّر عنه إن شاء الله يضع الدين خارج منظومته وفلسفته وحقائقه الربانية الروحية والمادية ويحوله إلى محض وسيلة سياسية وضعية بكل إرهاصات نتائج التغيير الطبيعي الحاصل في حياة الإنسان تناسقا مع تطور منتجات العقل الإنساني المادية والفكرية، ولتحقيق أغراض الحزب السياسي الديني أو الطائفي. وإذا اتفقنا جدلا على إن الحزب الطائفي سين سيحقق شرع الله طبقا لما تحدده المنظومة الفكرية والعقائدية للطائفه سين غير انه لن يكون كذلك بالنسبة لما لا يقل عن عشرات التنظيمات السياسية الأخرى المنتمية إلى ص وع والخ من التنظيمات الدينية والطائفية هذا فضلا عن الصراعات المختلفة التي قد تصل إلى مستوى الصراع المسلح بين هذه الأحزاب والتيارات الطائفية وما يمكن أن ينتج عنها من صراع دموي أهلي ونموذج العراق ما بعد الاحتلال مازال يبرهن يوميا على هذه الحقائق المرة.


إن البعث قد أثبت انه بفكرة الوحدة العربية والنوق للحرية والاشتراكية بأنه حزب يجمع أبناء الأمة ويلغي عوامل التمزيق الدينية والطائفية ليس بالتخلي عن الإيمان عبر الدين، بل بالتخلي عن فكرة استخدام الدين في السياسة. فالبعث لا يتدخل في أي نص من نصوص عقيدته السياسية بأمور عبادة الإنسان لربه بل أجملها بالموقف المؤمن الموحد لله وترك التفاصيل للإنسان نفسه دون أن يمليها عليه. العبادات لا تملى، بل هي نتاج قناعات طبيعية ونتاج وعي خلاق. وهي ليست من اجل تسجيل مظاهر، بل جوهر يسمو فوق الشكليات. وبقدر تعلق الأمر من الإسلام الحنيف كأهم وأكبر الديانات في حياة العرب فلقد أعلن البعث عن علاقة روحية مبكرة وموقف عميق حافز للذات العربية لردم الهوة السحيقة بينها وبين حقها المستلب في كل تفاصيل حياتها. فالإسلام هو الذي وحد العرب فصارت الوحدة قانونا حياتيا وهو الذي حررهم فصارت الحرية نقيضا لعبودية مقيتة لا تقع بها الذات العربية والإسلام هو من بعث مقومات الاشتراكية عبر تشريعات واضحة وصريحة اقتصادية واجتماعية فصار هو منبع ومنطلق لأي تطوير لاحق في حياة العرب وهم يجاهدون من أجل تحقيق العدل والحياة المرفهة. بمعنى آخر إن الثورة التي بعثها الإسلام العظيم في حياة العرب بكل تفاصيلها هي ذات الثورة التي يناضل البعث من اجل تحقيقها والانقلاب على الذات هو الوسيلة الإنسانية الأنجع التي تضمن أخلاقية التغيير وتضمن سلامة أهدافه وسلامة وسائله. إن البعث يتحرك ويؤسس وينمو وينتج على انه نبض من الإسلام الحنيف وروح الإيمان بإطاره الشامل ويجد اتصالا عضويا بديهيا وطبيعيا تلقائيا بين روحه الثائرة وبين روح الإسلام الثائرة. وموقف البعث من الدين يؤكد قدسية الدين من حيث التفريق المطلوب بين الارتباط بالذات الإلهية المقدسة وبين التطلع إلى برامج وضعية تخص نظام الحكم وتكييف القانون لروح الحداثة وتنوع وتجدد المتطلبات المختلفة للإنسان، التي يرى البعث إن انغماس الدين فيها يمس بقدسيته وينزل به إلى قواعد الإسفاف السياسي ومتغيرات التعاطي والتعامل بالسياسة والطبيعة الخدمية للدولة.


إن مَن يكفرون البعث أو يشككون بمنهجه المؤمن يخطئون مرتين, مرة بحق الفهم السليم للإيمان وطبيعة العلاقة التي أرادها الله سبحانه لتكون صلة الوصل بين الإنسان الفرد و ربه, ومرة باتخاذ قرار ليس لهم الحق في اتخاذه.


البعث والأقليات :

مثلما أدرك البعث خطر تسييس الدين والطوائف على وحدة العرب الاجتماعية والسياسية وعلى تطلعهم الوحدوي وطموحهم في تأسيس دولة على وطنهم الكبير تضمن لنفسها الحماية والتطور والازدهار والتقدم والمنعة والرفعة, فقد تعامل مع حقيقة وجود أقليات متآخية مع العرب على إنها وضع طبيعي تزدهر به حياة العرب ويمنحهم الفرصة للتعبير عن انسايتهم وإنسانية الفكرة القومية ونظريتها. وتعامل البعث فكريا وميدانيا مع الأقليات على إنها جزء لا يتجزأ من تشكيلة الأمة ويتمتع أبناؤها بذات الحقوق الاجتماعية والسياسية فضلا عن الحقوق الثقافية الخاصة بهم. وقد برهن البعث على مصداقيته وعلى إيمانه بهذه النظرة الرفيعة الراقية في تجربة الحكم الذاتي ومنح الحقوق القومية كاملة لأكراد العراق وللتركمان والكلدان والآشوريين. وكان من بين تطورات نظرية العمل البعثية ميدانيا هو انتماء آلاف من أبناء هذه الأقليات إلى الحزب وتسلمهم مهام قيادية ومواقع قيادية في البعث كأعضاء قيادات فروع وأعضاء مكاتب وأعضاء قيادة قومية.


إن التعاطي والتعامل مع مشكلة الأقليات في الوطن العربي هي جزء لا يتجزأ من إيمان البعث بوحدة الأمة وبإنسانية الفكرة القومية ونظريتها. واليقين إن ملمحا مهما من ملامح نظرية البعث وأصالتها يكمن في هذا المجال والتطبيقات الخاصة به.


البعث حركة رسالية تتبنى النضال والجهاد دربا لبلوغ الأهداف السامية للأمة وجماهيرها. وهو الحزب الذي اثبت انه يواجه ببسالة كل التحديات التي يتصدى لها العرب من استعمار واحتلال واغتصاب واحتكار وبرهن باستمرار انه ليس حزب متهالك من اجل السلطة التقليدية الفارغة، بل إن السلطة بالنسبة له ولمناضليه محض وسيلة لبلوغ غايات الأمة. لذلك كانت دولة البعث في العراق هي دولة الأمة العربية بكل الأبعاد والتطبيقات والمعاني.


ولعل من البديهي أن ننتهز الفرصة لنبارك للبعث قيادات وقواعد في ذكرى تأسيسه الرابعة والستين المجيدة. وان نرفع هامات الفخار بقيادته الشهيدة وفي مقدمتها القائد الخالد صدام حسين رحمه الله وتحت راية القائد المقدام المجاهد الضرغام عزة إبراهيم حماه الله وأيده ورفاقه حملة سلاح المقاومة بنصر مبين.



aarabnation@yahoo.com

 

 





الاربعاء٠٢ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٦ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. كاظم عبد الحسين عباس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة