شبكة ذي قار
عـاجـل










( بدأ التدخل الأجنبي في ليبيا ببنغازي ويراد له أن يبدأ في سوريا بدرعا وانتهى في ليبيا بمصراتة التي يبحثون في بانياس الآن عن رديف سوري لها )


 

لا يحتاج المراقب إلى استطلاع رأي من "معهد غالوب" ليدرك بان الحكم والمعارضة والمحتجين والجيش والشرطة بل والأجهزة الأمنية أيضا في سوريا ليس لها مجتمعة أو منفردة مصلحة وطنية أو ذاتية في تكرار للسيناريو الليبي في سوريا يحول مدينة درعا إلى بنغازي سورية، يصول ويجول فيها الخبراء العسكريون وعملاء المخابرات الأميركية والغربية وبالتالي الإسرائيلية وتستقبل السيناتور الأميركي المتصهين والمدافع عن دولة الاحتلال الإسرائيلي ظالمة او مظلومة والكاره للعرب علنا وأحد أصحاب القرار الرئيسيين في احتلال العراق، جون ماكين، أو يحول مدينة بانياس إلى مصراتة سورية.


إن من يحملون السلاح في سوريا ثم يوجهون نيرانه عشوائيا إلى الطرف الآخر، سواء ضد العناصر المسلحة التي تتخذ من المتظاهرين السلميين دروعا بشرية لها لكن دون تمييز بين هذه العناصر وبين جماهير مسالمة طامحة إلى الاصلاح والتغيير، أو ضد قوى الجيش والشرطة دون تمييز بينها وبين عناصر الأجهزة الأمنية المنفلتة أو المأمورة، تغيب عنهم جميعا حقيقة أن الجماهير المتظاهرة هي خير حليف لمشروع الإصلاح الذي بدأه النظام وحقيقة أن تغول الأجهزة الأمنية على الجيش والشرطة كمؤسستين وطنيتين لا يقل عن تغولها على المجتمع المدني وبالتالي فإن استهداف المؤسستين بالسلاح إنما يمثل فقط استعداء مجانيا سوف تكون نتائجه عكسية بالتأكيد على القضية التي أخرجت هذه الجماهير إلى الشوارع لأنه يستعدي احتياطي استراتيجي لدعم الجماهير وحماية مشروع الإصلاح والتغيير الذي يحظى حاليا بإجماع وطني بين الجماهير المطالبة به وبين الحكم الذي تبناه، وقد أثبتت تجارب الثورات الشعبية السلمية المصرية والتونسية واليمنية أن جماهيرها وجيوشها وشرطتها كانت في خندق واحد دفاعا عن مشروع التغيير والإصلاح لأنهم جميعا أصحاب المصلحة الأساسية فيه.


وبغض النظر عمن يصدق أو لا يصدق الأرقام السورية الرسمية التي تفيد بأن عدد شهداء الجيش والشرطة يزيد على عدد الشهداء المدنيين الذين سقطوا ضحايا لهذه السلاح "الأعمى"، فإن الحقيقة تظل تصفع الوجه بقوة بأن الجهات التي تقف وراء استخدام السلاح في المقام الأول، ثم استخدامه بهذه العشوائية، إنما هي جهات تقف بوعي أو دون وعي في الخندق المعادي لكل من أجمعوا على الاستحقاق الذي تأخر اكثر من اللازم للتغيير والإصلاح.


وقد "أصبح واضحا أن هناك قوى مشبوهة تريد أن تركب موجة الاحتجاجات الشعبية، مستفيدة منها لحرفها عن مسارها باتجاه المزيد من إراقة الدماء وتهديد الوحدة الوطنية .. وصولا إلى إلغاء الدور الذي تلعبه سوريا تاريخيا في الصراع العربي الإسرائيلي"، كما قال بيان لرئاسة اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين في الحادي عشر من الشهر الماضي جاء فيه أيضا بأن "هذه القوى المشبوهة موجودة في كل مكان .. أحيانا في قوى الحراك الشعبي وتحاول دفعه في اتجاه استخدام السلاح .. وهي موجودة أيضا في بعض أجهزة الدولة"، ومن الصعب التشكيك في موضوعية هذا التقييم للأحداث المأساوية في سوريا، كون أغلبية الشيوعيين السوريين الباحثين مؤخرا عن وحدتهم كانت ضحية لهذه الأجهزة بالرغم من عضوية بعضهم في جبهة وطنية تقدمية مع الحزب الحاكم.


ولا تكمن الخطورة في هذا الاستخدام العشوائي للسلاح في كونه يتطاول على إرادة الشعب وكرامته وحريته ويتطاول كذلك على كرامة الجيش الوطني والشرطة ووطنية المنتسبين لهما، بل تكمن الخطورة أولا في النتائج العكسية لاستخدامه على قضية الإصلاح والتغيير التي يشهر باسمها.


غير أن الخطورة الأهم تكمن ثانيا في تكرار بائس لسيناريو خطف الثورة الشعبية السلمية في ليبيا وتسليحها كمدخل يتسلل منه التدخل الأجنبي بعد أن تم حرف الحراك الشعبي السلمي إلى حرب اهلية سرعان ما أصبح "حلف الناتو" عنوانا لقيادة أحد طرفيها والضامن الوحيد لبقائه في سوح القتال فيها.


ومن المؤكد أن جيران سوريا في الأردن والعراق وتركيا ولبنان يكفيهم ما لديهم من صداع أمني ليغنيهم عن مضاعفات أي تكرار للسيناريو الليبي على حدودهم المباشرة، ومن المؤكد أيضا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي في الغرب هي الوحيدة التي لها مصلحة حيوية في انكفاء سوريا داخليا بأزمة متطاولة أو بحرب أهلية والأفضل طبعا بتدخل أجنبي يقوده راعيها الأميركي حتى تتفرغ بدورها للانفراد بتصفية القضية الفلسطينية على الأرض، ولهذا السبب على الأرجح لم تتورط جامعة الدول العربية حتى الآن في تكرار خطيئتها في ليبيا بمنح غطاء عربي للتدخل الأجنبي في سوريا، حيث ما زال المشرق العربي يعاني من الاحتلال الأميركي للعراق حتى الآن، بينما ينشغل المغرب العربي بالتدخل الأجنبي في ليبيا الذي يراوح حاليا بين الغزو وبين الاحتلال.


إن وقوف مصر ثورة 25 يوليو إلى جانب الجهود الدبلوماسية السورية لمنع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال من تمرير مشروع قرار مقترح لها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف لإدانة موقف سوريا من المطالبين بالحريات الديموقراطية فيها، ومعارضة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الإفريقي لعقد جلسة خاصة للمجلس بهذا الشأن يوم الجمعة الماضي اقترحتها الولايات المتحدة واليابان والمكسيك وكوريا الجنوبية والسنغال وزامبيا وعشر دول أوروبية، ثم الموقف الحازم الذي وقفته روسيا والصين ولبنان في مجلس الأمن الدولي مؤخرا برفضها الادعاء الأميركي – الأوروبي بأن الوضع في سوريا يهدد السلم والأمن الدوليين تمهيدا لتكرار السيناريو الليبي في سوريا، إنما هي مؤشرات واضحة إلى أن المجتمع الدولي قد أدرك الآن الخطأ الفادح الذي وقع فيه عندما أضفى شرعية الأمم المتحدة على تدخل أميركي – أوروبي أجنبي سافر في ليبيا، مما دفع روسيا هذه المرة إلى تحذير الغرب من "التدخل الخارجي" في سوريا الذي يمكنه أن يشعل "حربا أهلية".


وإن من يراقب منظمة هيومان رايتس ووتش وهي تقترح عرض الوضع في سوريا على مجلس الأمن الدولي، ومنظمة العفو الدولية التي تدعو إلى تحويلها إلى محكمة الجنايات الدولية، وكيف تتخذ الولايات المتحدة عقوبات أميركية من جانب واحد ضد سوريا ويستعد الاتحاد الأوروبي لاتخاذ عقوبات مماثلة، لا يسعه إلا أن يرى تصعيدا ضد سوريا يستهدف استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدول شأنا داخليا محضا لدولة ذات سيادة عضو في الأمم المتحدة تمهيدا لانتهاك سيادتها بالغزو فالاحتلال ووضعها تحت الوصاية الأميركية الأوروبية، في تكرار للسيناريو الليبي بحذافيره تقريبا، الذي بدأ في ليبيا ببنغازي ويراد له أن يبدأ في سوريا بدرعا وانتهى في ليبيا بمصراتة التي يبحثون في بانياس الآن عن رديف سوري لها يكون مثلها مفتوحا على طرق الإمداد البحري الذي تصله بالدعم الأجنبي.


لقد كشفت الاحتجاجات الشعبية السلمية في تونس ومصر واليمن مدى عجز الدول الأجنبية الطامعة في التدخل عن إيجاد ثغرات تتسلل منها، وكان اللجوء إلى عسكرة الاحتجاجات المماثلة في ليبيا وسوريا شرطا مسبقا لفتح أبواب القطرين أمام التدخل الأجنبي.


إن تجربة الشعب اليمني تثبت أن لقوة الاستبداد حدودا لا يمكنه تجاوزها وأن تمسكها بسلمية الاحتجاج قد زادها قوة وعددا حد أن تجد في نفسها الثقة الكافية للقدرة على رفض الوساطة العربية التي عرضتها دول الخليج العربية الست، في بلد متخم بالسلاح ومشبع بثقافته باعتباره جزءا لا يتجزأ من الكرامة الشخصية، ربما أكثر من أي قطر عربي آخر، وبالرغم من سقوط أكثر من ثلاثمائة شهيد منهم فإنهم مع ذلك تركوا للنظام الحاكم وحده احتكار العنف واستخدام السلاح وبالتالي جردوه عمليا من حرية استخدام مصدر القوة الأهم في ترسانته، وأجبروه على محاولة الحوار معهم، وعرض الوساطات عليهم، فحاوروه وقبلوا الوساطات المحلية والإقليمية والدولية، دون أي تنازل عن مطلبهم الرئيسي بتغيير النظام ورحيل الرئيس، وإصرارهم على مواصلة الاعتصام والتظاهر بالرغم من إعلان حالة الطوارئ ومنع المظاهرات. وتشير كل الدلائل إلى أن عرب اليمن سوف يحققون إرادتهم الشعبية ليكونوا ثالث حالة عربية ناجحة للاحتجاج السلمي والتغيير والإصلاح سلميا بعد تونس ومصر.


أما التجربة الليبية في المقابل فقد أثبتت أن عسكرتها قد أضعفتها، وجعلتها تصم آذانها عن أي دعوة للحوار، وترفض الوساطات، وتثبت أن استخدامها للسلاح قد خلق فجوة واسعة بينها بين شعبها الذي فضل أن يتركها سمكا بلا ماء حتى في المدن التي يسيطر عليا "الثوار"، ومدينة أجدابيا التي يصفها الإعلام ب"مدينة الأشباح" خير مثال على ذلك، بينما لم يبق في المدن التي تحاصرها قوات النظام ويدور فيها أو حولها قتال مثل مصراتة ووازن ونالوت من أهاليها سوى من تقطعت بهم سبل النجاة بأنفسهم بعيدا عنها، لتتحول عمليا إلى مدن "مهجورة" كما قال المتحدث باسم المفوضية السامية للاجئين في الأمم المتحدة أندريه ماهيشيك في السادس والعشرين من الشهر الماضي، وليتحول حلف الناتو إلى حاضنة لهؤلاء "الثوار" بدل حاضنتهم الشعبية التي حولتها عسكرة الحراك الشعبي إلى أزمة لاجئين ليبيين وأزمة إنسانية ليبية.


وربما يكون "الثوار" الليبيون الذين تورطوا حتى آذانهم في الاستقواء بالتدخل الأجنبي إلى من يذكرهم بأن "من الهام فهم ذهنية الشعب العربي وتاريخ البلدان العربية .. فالتدخل العسكري الأجنبي غالبا ما تكون نتائجه عكسية" كما قال رئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس المخابرات الخارجية الروسي الأسبق يفجيني بريماكوف لنوفوستي في 28 شباط / فبراير الماضي.


في يوم الجمعة الماضي قال أمين عام حلف الناتو أندرس فوغ راسموسن لوزراء خارجية الحلف المجتمعين في برلين إن مهمة الحلف في ليبيا هي "حماية المدنيين" بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي فوض بإنشاء منطقة حظر طيران فوق ليبيا لهذا الغرض. لكن خلاصة التجربة الليبية تثبت اليوم الفشل في حماية المدنيين الذي أثبتته تجربة مماثلة لفرض منطقتي حظر طيران في شمال العراق وجنوبه قبل حوالي عشرين عاما، وتثبت أن مبدأ "مسؤولية الحماية" الذي تبنته الأمم المتحدة عام 2005 لتسويغ التدخل العسكري الانساني قد انتهك سيادة الدول بصورة انتقائية وكان مدخلا للهيمنة الغربية فحسب دون أن يحمي المدنيين. فالرئيس الأميركي باراك أوباما في مقاله الأخير المشترك مع نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون قد تعهدوا بمواصلة قصف ليبيا حتى يرحل نظام العقيد معمر القذافي، بغض النظر عن المدنيين الليبيين وحدود تفويض القرار 1973. وربما يكون الوقت قد حان الآن لاستعراض نتائج التدخل الأميركي – الأوروبي على المدنيين الليبيين.


فإعلام "الثوار" والدول الداعمة لهم يتحدث عن عشرة آلاف شهيد في "الحرب الأهلية". ويتحدث الإعلام الرسمي في طرابلس عن أكثر من (115) شهيدا من المدنيين نتيجة لغارات الناتو الجوية، وقد أضيف إليهم مساء الجمعة الماضي ابن القذافي سيف العرب وأحفاده الثلاثة اليافعين عندما اطلقت على منزلهم المكون من طابق واحد أربعة صواريخ لم ينفجر أحدها بعد مغادرة القذافي وعقيلته له، ليعلن قائد العمليات العسكرية لحلف الناتو الكندي شارلز باوتشارد عن "أسفنا لفقدان الأرواح، وبخاصة أرواح المدنيين الأبرياء" مضيفا: "نحن لا نستهدف الأفراد" !!


وحسب المفوضية السامية للاجئين في الأمم المتحدة في التاسع عشر من الشهر الماضي زاد عدد المدنيين الليبيين اللاجئين في البلدان المجاورة على (550) الف ليبي، منهم (200) ألف فروا شرقا إلى مصر و(240) ألفا تدفقوا غربا إلى تونس (فورين بوليسي في 25/4/2011) بينما هجر داخليا حوالي (35) ألف مدني. وطلبت حكومة النيجر مساعدة المجتمع الدولي لإيواء (60) ألف مدني ليبي لجأوا إليها في الجنوب. واستقبلت مالطا شمالا (12) ألف لاجئ مدني من ليبيا وإيطاليا أكثر من عشرين ألفا. وغادر ليبيا أكثر من مليون عامل أجنبي من جنسيات مختلفة منهم (300) ألف مصري. وفي الخامس من الشهر الماضي طلبت الأمم المتحدة ما لايقل عن (310) ملايين دولار أميركي لمساعدة اللاجئين الليبيين وهو تقريبا ضعف المبلغ الذي طلبته في الأصل.


إن من يدفعون بالسلاح والاستخدام العشوائي له، بوعي أو دون وعي، إلى سيناريو مماثل للمدنيين السوريين، باسم الاصلاح والتغيير، يجب أن يتوقفوا اليوم قبل غد، لأن المهمة الوحيدة الملحة التي ستبقى إن تحقق هذا السيناريو المشؤوم لن تكون بالتاكيد الاصلاح والتغيير، بل إعادة بناء البلاد وتعميرها من الصفر، تحت الوصاية الأجنبية غير المعنية أبدا لا بالبناء ولا بالإعمار كما تثبت التجربة العراقية في الشرق وكما ستثبت التجربة الليبية قريبا.


nicolanasser@yahoo.com

 

 





الثلاثاء٢٩ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نقولا ناصر نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة