شبكة ذي قار
عـاجـل










بين ابتذال الأدب، ونخاسة المثقف :  في عمى التمييز بين بناة المشروع النهضوي العربي والطغاة هل يبقى للموضوعية مكان !


في إحدى المقابلات التلفزيونية التي أُجريت معها، قبل رحيلها بسنوات، وتعقيباً على العظات الدينية والأخلاقية التي كانت تعم الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة، من قبل الراقصات المعتزلات بعدما لبسن الحجاب، طالبت الفنانة الراحلة تحية كاريوكا أولئك الراقصات بعدم المبالغة في مواعظهن وإثبات حسن نواياهن بالتبرع بكل ما جمعن من مال "حرام" للمؤسسات والجمعيات الخيرية، بدل الاستمرار في التنعم بهذا المال بما يتنافى مع توباتهن النصوح المعلنة منهن على الملأ.


بالمقارنة مع الراقصات التائبات، يخرج علينا في هذه الأيام بعض المثقفين "المنتفعين" لركوب موجات التغيير الثوري الحاصل على طول وعرض ساحة الوطن العربي، بتنصلهم من كتاباتهم في الماضي لصالح أنظمة وحكام يكشفون اليوم ما هو مستور وما هو غير مستور من ارتكاباتهم بحق شعوبهم، دون القيام ولو بنقد ذاتي، لكل مراحل التسكع والاستجداء على أبواب قصور هؤلاء الحكام ورموزهم، تعظيماً وتكبيراً بالتزلف والصنيع الأدبي المبتذل الذي لم يكن يسجل إبداعاً فنياً في يوم من الأيام، بقدر ما شكل امتهاناً لكرامة الأديب واسترخاصاً للمواهب الفنية وعلوم البيان.


ومع التجذر المستمر للحراك الشعبي المطالب بالتغيير في أوساط المجتمع العربي ونخبه الفكرية والثقافية والإعلامية، ومنه المجتمع المصري بشكل خاص،


لا بد أن تطال عمليات التغيير والتطهير الحاصلة اليوم على المستوى السياسي، كل الحلقات الثقافية والإعلامية المرتبطة بتلك المرحلة المرذولة، ولاسيما المؤسسات الصحافية المصرية المعروفة بالصحف القومية وما يصدر عنها من ملاحق وإصدارات متعددة التوجه والتوجيه، ومن هذه المؤسسات، الأهرام والجمهورية والأخبار وأخبار اليوم وبالتحديد بعض الإصدارات الأدبية الموقعة من قبل كتاب وأدباء، عملوا مؤخراً على توجيه بوصلات أقلامهم، مع تبدل الظروف والسياسات، فلم يفلحوا كثيراً في انعطافاتهم الجديدة، حيث إنه حتى في حالات تغيير الجلود، لا تنفع الصبغات بدون إعادة التأهيل الفكري والسياسي من جديد.


في ملحق (أخبار الأدب) الصادر عن مؤسسة أخبار اليوم، وفي تحقيق طويل تحت مسمى (البستان) حمله العدد المؤرخ في السابع عشر من شهر أبريل من العام 2011، خصص له الكاتب د. أحمد إبراهيم الفقيه، ثلاثة عشر صفحة كاملة من صفحات الملحق، مسهباً في توصيف وتشريح الطغيان، "لكي لا يظهر طاغية جديد" كما شاء الكاتب أن يعنون موضوعه الطويل مستعيناً ببعض الكتب المتخصصة بالمرض "السايكوباتي"، مقتبساً النقاط الأساسية من الكتاب الأهم فيها وهو كتاب The Psychopath, by James Blair, Dereck Mitchell and Karina Blair الذي يتناول "شخصية المريض السايكوباتي التي يتميز بها أغلب طغاة العالم" كما يرى المؤلف، مسقطاً هذه الشخصية على عدد من القيادات والشخصيات العالمية والعربية، منهم من رحل ومنهم من هو على قيد الحياة وما زال يمارس مهامه الرئاسية والقيادية داخل البلدان التي يحكمها.


ومع كل ما تم تقديمه وقع الكاتب في تناقضات ومفارقات جعلت مقالته "الإسقاطية" تغرق بدورها في كل ما له علاقة بالانتقائية والخروج عن الحيادية والموضوعية المطلوبتين في موضوع شيق العنوان والتسويق، يتطلب خاتمة يفتقدها المقال وخلاصتها: كيف نضع حداً للطغيان بعد أن أشبعنا هذا الموضوع توصيفاً وتشخيصاً وتكراراً لم يخرج عن نطاق الترجمة الحرفية لكتاب كان من الأفضل إصداره مترجماً كما هو، ثم ينكب الكاتب أو غيره ممن يتناولون مسألة الطغيان، إلى دراسة هذه الحالة وخلفياتها الاجتماعية والسياسية وكيفية إيجاد الحلول لمعالجتها أو للتخلص منها في المستقبل، لأن في ذلك مصلحة وطنية وقومية عليا أكبر من اهتمامات فرد بعينه أو كاتب ومؤلف.


من المفارقات والتناقضات التي وقع فيها الكاتب، أنه يحصر "طغاته" اليوم في الثورات التي تقوم في كل من ليبيا واليمن وسوريا والجزائر والسودان ويعتبر أن شعوب هذه الدول تحسد "الشعوب العربية الأخرى التي تحكمها أنظمة تقليدية عشائرية"، وكأن الأنظمة التقليدية العشائرية تعيش اليوم حالاً أفضل مما تعيشه الأنظمة الأخرى، متجاهلاً الكاتب أننا كأمة عربية نعيش كلنا في الهموم مع الاستبداد سواء. متناسياً أيضاً ما يجري على ساحات "الأنظمة العشائرية" في المغرب ومسقط وعُمان والأردن والبحرين كما في العراق "الديمقراطي"، وحتى داخل النظام السعودي، القائد المفترض لهذه الأنظمة، الذي ضخ مؤخراً عشرات المليارات من عملته البترو –دولار من أجل إخماد ما يمكن إخماده من ثورات، داخل هذه الساحات، منها من لم تخمد جذوتها بعد، ومنها من يستعر لهيباً وتأججاً لم تصل شراراتها على ما يبدو إلى "أساطين" الإعلام المرئي الجديد الممول خليجياً والموجه أميركياً في آن. ولعمري إنها اللحظة المناسبة المطلوبة لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد، المضي في تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ من أقطار الأمة العربية في ظل كل ما نشهد اليوم من "بروباغندا" إعلامية يصفق الصهاينة على أدائها المدروس جيداً، معوِّلين على أخذ إجازة طويلة من الاستراحة، بعد إغراقنا كعرب في متاهات الاقتتال الداخلي المذهبي والطائفي والعشائري وغيره.


فبالإضافة إلى تعمد الكاتب، تحييد حكام الخليج العربي عن كل ما له علاقة بالطغاة والطغيان، نراه يمارس حقداً موتوراً على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، دون أن يجرأ على تسميته، غير أنه تجرأ على التقرب من مرحلة حكم حسني مبارك ليعتبرها مرحلة عانى منها الشعب المصري على مدى ستين عاماً، بأسلوب خبيث متذاك،


أما الشهيد صدام حسين، الذي لم يخجل الكاتب من كراهيته الشديدة له، فقد اعتبره من جملة "الطغاة العرب الذين يكرهون الثقافة ويحاربون أهلها"، جاعلاً منه مجرماً بأشكال متعددة بزَّ فيها كل ما تناولته به الأقلام الأجنبية، الأميركية والصهيونية بشكل خاص، بهدف "شيطنته" وصولاً إلى شن أشرس حرب عالمية ثالثة في التاريخ الحديث على بلده العراق وغزوه واحتلاله وتخريب بناه التحتية ومؤسساته، الأمر الذي يبدو محبباً إلى قلب الكاتب، وكان الأحرى به أن يرجع إلى أي إحصائية متواضعة عن مستوى العلم الذي تحقق في عراق صدام حسين وعشرات آلاف العلماء والمبدعين الذين خرَّجتهم الجامعات والمعاهد العراقية العليا. وليسأل الكاتب، أهل مصر الكنانة ونُخبها الفكرية والثقافية، عن الملايين من المصريين الذين أسكنوا في العراق مع توفير أفضل وسائل العمل لهم داخل هذا البلد والتحصيل المالي للادخار وإرسال العملات الصعبة للأهل في سبيل إعمار مصر الشقيقة وازدهارها، كما أنه ليس سوى عديم الوفاء الذي يتنكر للدور الذي لعبه العراق في إيواء الشرائح العظمى من الكتاب والمثقفين المصريين المضطهدين في عصر أنور السادات، دون أن نغفل آلاف المنح الدراسية التي وفرها العراق للأشقاء العرب من مختلف الأقطار من مشرق الوطن العربي إلى مغربه. أما بخصوص الحرب مع إيران التي استمرت ثماني سنوات، من العام 1980-1988، فلقد كنا نتمنى على الكاتب المذكوران يتحفنا بما كانت ستتمخض عنه عبقريته فيما لو جعل العراق يخضع لتهديدات الخميني في بداية الحرب، بقدرته على احتلال بغداد بنصف ساعة من الزمن. وعليه أن يرجع إلى سجلات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ليتبين من الذي أطلق الرصاصة الأولى في الحرب وأشعلها، ومن الذي ما زالت أطماعه مستمرة في العراق، حتى بعد غزوه واحتلاله. وهل هو راض عما يجري من تقسيم فعلي ميداني على أرض العراق اليوم، وأين هو من المقاومة العراقية التي هندسها وأنشأها صدام قبل رحيله، لتواجه أعتى وأشرس قوة استعمارية في العالم، وهي على أبواب الانتصار الحتمي عليها، لأن في انتصارها انتصار للعرب وللعالم وفي هزيمتها هزيمة لنا جميعاً.


ألم يتناهى إلى مسامع الكاتب، أن الجماهير العربية الثائرة اليوم على حكامها الطغاة وأنظمتها الاستبدادية، هي ذات الجماهير المؤمنة والوفية التي نزلت إلى الشوارع تبكي صدام حسين، وتدعو رفاقه للاستمرار بالمقاومة والصمود والانتصار، ذلك البطل الذي واجه مقصلة الموت بكل جرأه وشجاعة وإباء، تلك الوقفة ستبقى قدوة ونبراساً للأجيال القادمة وعنواناً لانتصار المبادئ والقيم على الجحافل العسكرية وترساناتها ومخططاتها الإجرامية.


فهل يعتقد الأديب الفقيه أن شخصاً مريضاً، يقف أمام جلاديه، بكل تلك الرباطة العالية من الجأش والإيمان بالخالق عز وجل؟


وهل شاهد كل مداخلات الرئيس الشهيد التي بثها الاحتلال وعملاؤه على شاشات التلفزة إبان المحاكمات الصورية المعروفة، كاشفاً حقيقة حادثة الدجيل وغيرها، وهل بكل هذه السطحية والخفة يطلق الكاتب أحكاماً ثبت زيفها وتوليفها أمام أعين العالم أجمع؟


كل ذلك، يدفعنا إلى مطالبة الأجيال العربية إلى إعادة قراءة تاريخ أمتهم من جديد، وكتابة هذا التاريخ أيضاً بكل موضوعية وحياد، فمن حقها أن تطلق ما تريد إطلاقه على الرئيس صدام حسين من أحكام وأوصاف، غير أن الأكيد، وهذا ما تؤكده الحقيقة والتاريخ، أن أعداء صدام حسين لم يواجهوه بكل تلك الخسة والتحشيد لأنه ديكتاتور ظالم. ولو لم يكن لديه مشروع الأمة القومي النهضوي الحديث والتحرري، لسكتوا عنه كما يسكتون اليوم عن حكام مجرمين تجاوزوا كل حدود العدالة والإنسانية والديمقراطية مع شعوبهم.


أخيراً، وبعد كل حملات الافتراء والتشويه والشيطنة التي تعرض لها صدام حسين في حياته، كما في مماته، ما تراه يقول اليوم الدكتور الفقيه وأقرانه من جوقة المفترين، عن التسجيل الصوتي الذي بثته وسائل الإعلام مجتمعة مؤخراً ومنسوباً للرئيس الراحل صدام حسين، يخاطب أحدهم بأنه ليس الشخص الذي استشهد مؤخراً على أيدي الاحتلال وعملائه وإنما "الرفيق ميخائيل"، المفترض أنه شبيهه كما تروج وسائل الإعلام، أليس في ذلك انتقاماً من رجولة صدام حسين وشهامته، ميتاً، بعد أن عجزوا عن الانتقام منه حياً يرزق!


وأليس في ذلك أيضاً إساءة لموضوعية الرسالة الإعلامية، بالقدر الذي يساء فيه إلى الأدباء والمثقفين بابتذال الأدب ونخاسة الثقافة!


وإلى متى سيتطاول أقزام الأحداث الطارئة، على تاريخ الأمة المديد وقممها وكبارها؟


إنها مسؤولية الأجيال القادمة والشباب العربي الثائر الذي يحتل اليوم شوارع وساحات الوطن العربي برمته، من العراق إلى مراكش، أن يفرزوا الغث من الثمين في تاريخهم الحديث والمعاصر فيلفظون كل "إسرائيليات" القرن الواحد والعشرين المدسوسة اليوم في كتبنا وصحفنا وإعلامنا وكل ما يفرض علينا من أدب مبتذل بأقلام نخاسة المثقفين الذين نتمنى على مؤسساتنا الإعلامية والثقافية والصحافية التقصي عن سيرهم المهنية والذاتية، بدل تضييع وقت القارئ بكتابات تافهة مردودة على كاتبها أو مؤلفها وحسب.

 

 





السبت١١ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٤ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة