شبكة ذي قار
عـاجـل










بين الالتزام والإلزام .. مسافة ليست شاسعة .
الالتزام له شروطه .. والإلزام له شروطه أيضا .
العمل الثوري .. يشترط الحصانة المبدئية .
الحصانة المبدئية .. هي الضمانة، وصمام الأمان !!


المقدمة :
البعث تحكمه مبادئ وقيم وأهداف، وكلها في ترابط موضوعي لا تناقض يعتريه مهما كانت المسيرة شاقة والتحولات صعبة والصراع شرساً في كل أبعاده على أرض الواقع .


والمبادئ في جوهرها وطبيعتها واقعية أو أن منبعها واقعاً موضوعياً يتصارع في ذاته بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، في وحدة الصراع والتناقض من جهة، فيما يتصارع الواقع ذاته، ليس بكليته، مع واقع آخر يحمل من أدوات التغريب والتخريب ما يضع جوهر الوجود القيَمي لواقع الأمة على المحك في صراع محتدم من جهة أخرى .


البعث يعيش صراعين محتدمين، أحدهما يكمن في واقع الأمة، والآخر مع خارجها ، فهو صراع مستمر سواء كان الحزب على رأس السلطة السياسية أو بدونها، في أوقات السلم أو في أوقات الحرب .. وسبب الصراع هذا هو مشروعه القومي المُوَحِدْ لعناصر قوة الأمة، الذي يسعى إلى تحقيقه في وحدة الأمة وحريتها وعدالتها الاجتماعية .. وهي أهداف في حقيقتها تتقاطع وتتناقض مع مشروع الخارج، الذي يعمل على النقيض تماماً ، يريد أن تبقى الأمة مجزئة ومقسمة ولا تمتلك حريتها كباقي الأمم في قرارها السياسي والاقتصادي، متخلفة ومستهلكة وتابعة وليس لها الحق في أن تطالب بحقوقها .


البعث ومنذ تكوينه ونهوضه في عقد الأربعينيات من القرن المنصرم هو ذاته يدرك أن لا مجال لحركته الثورية أن تتوقف، ويدرك أن هذه الحركة دائبة في سعيها ومنفتحة في الفكر والسلوك والتصرف، ويرفض حالة التضخيم وحالة التجريبية والحلول الجاهزة، ويؤمن بالتجديد المحسوب والتصرف على وفق حالة التطور في المجتمع ، ويحسب للواقع تغيراته وتحولاته، ويراعي الزمان، فهو بهذا لم يكن جامداً أو منغلقاً أو مؤطراً تقليدي .. لأن أحد أهم مبادئه الثورية الانفتاح، الذي أكسبه حرية الحركة وديمومة العمل الثوري والقدرة على التفاعل مع كافة القوى الوطنية والقومية والإنسانية، بالرغم من كثرة الصعاب وبالرغم من الضربات التي تلقاها عبر مسيرته الرائدة، وبالرغم من كثرة الأعداء وحالات الانشقاقات ( الفقاعية ) ، التي حلت في بنيته التنظيمية والتي ما لبثت أن تبددت وظل الحزب كالنهر العظيم يشق طريقه الخالد نحو أهدافه السامية، وهو يجرف معه الشوائب الطافية، والتي يتساقط بعضها على الطريق والبعض الآخر يعجز عن مواصلة الشوط، وآخر يحاول أن يحبس مجرى النهر أو يُحَرِفَ اتجاهه صوب أهدافه بدعاوى ( الواقعية، والانحناء للأقوى والتأقلم ، والرضوخ لسياسة الأمر الواقع .. إلخ ) .. ويظل النهر العظيم جارياً يقوى حين يتخلص من شوائبه، ويقوى حين يقوي صلته بمنابعه الصافية، ويُجَسِر صلاته بالجماهير، ويرسم علاقاته بحكمة ويبنيها على أساس الأخلاق والمبادئ .


الإشكالية في هذا المرمى، تكمن في الذاتية البعثية كيف ترى الواقع وكيف تتفاعل معه، وكيف ترى الأمور وتبدأ بتصريفه .. هل من منظار الواقعية الشاملة، أم من واقع التصورات الذاتية، التي تعكس فهماً قاصراً لحركة الواقع، أم من تصورات ذاتية محضة تصل حد التضخيم دون أن تساورها ماهية المنطلق الفكري للبعث أو بعيدة عن فهمه بحكم التضخيم الأناني المتحكم ؟!


الأن .. في مسيرة النضال تذوب وتشكل أمام ( النحن ) رقماً نسبياً لا يذوب، كما يذوب في الحركات الأممية كلياً، إنما يظل متفاعلاً يعطي ولا ينتظر أن يأخذ شيئاً، يدفع بالأمور نحو الأحسن، يتجاوز ذاته نحو ( النحن ) مبدئياً ولا ينسى أخلاقية التعامل مهما كان التعامل محدوداً أو واسعاً ، حتى قد يرتقي إلى أن يكون ( الأن ) و ( النحن ) مع حيز بسيط لواقع الأنا الإنسانية عند التعامل في الحياة الاجتماعية .


وبالرغم من صعوبة بلوغ هذه القمة، لأنها قد تكون مثالية مفرطة ولكنها ممكنة حين تتحول المبادئ والأخلاق في الأقوال والأفعال إلى ( غائية ) تخدم الجماهير ومسيرتها وليس ( الأن ) ، هدفاً مركزاً صادقاً ونقياً يحدد خطواته الرصينة الواثقة دون إبطاء أو تسرع أو تراجع غير محسوب، ويقيس حركته صوب أهدافه على وفق مبدأ الأولويات لكي يتحاشى التحرك العشوائي !!


والحقيقة الموضوعية القائمة بين الالتزام والإلزام ، تعكسها طبيعة الترابط الكائن بين ( الأن ) والمبادئ، من حيث الترشح وبالقدر الذي يلبي فيه الموقف حقيقة الالتزام المبدئي ( نفذ ثم ناقش ) ، تتجسد في مركزية ديمقراطية لا انفصال فيها ولا تضخيم . ولأن تضخيم هامش المركزية ، كما حصل ، يضعف هامش الديمقراطية الموضوعية المتوازنة، فأن تضخيم الديمقراطية يفضي إلى إضعاف المركزية .. والضعف في كلا الحالتين لا ينمي الفعل الثوري المبدئي ولا يدفع به نحو البناء في مسيرة متوازنة .. ومن هنا ، تنشأ العلاقة العضوية بين الالتزام والإلزام صوب فلسفة إلتزامية قادرة على ضبط الحركة في فعلها المبدئي والأخلاقي في آن واحد .


والعلاقة كما نراها بين المبادئ والأخلاق علاقة عضوية ( أفردت لها عدداً من الحلقات الخاصة ) لا فكاك منها، ويبدو لي أن الأخلاق تتصدر الخط المبدئي حسب كلام الله سبحانه وتعالى حين خاطب رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلة الله عليه وسلَمْ .. ( وإنكَ لعلى خُلُقٍ عَظيمْ ) .. والمعنى في هذا الرصد الحكيم، يضع المعادلة كما هي : لا مبادئ بدون أخلاق أو أخلاقية أو أخلاقيات، ولا أخلاق قادرة على أن تحكم تعاملاتها بدون مبادئ تسترشد بها على طريق التحقيق والتنفيذ .. فإذا ما غادرت أخلاقيات التعامل تلاشت روحية المبادئ وهبطت قدرتها على التواصل المقنع، لأن ضلعها المهم الأخلاق قد انخلع، وتلك حالة تضعف أمامها العناوين مهما برزت وعلت وتطاولت، لأن العلو يكون بالأخلاق والعلم والمبادئ السامية معاً !!


قد يقول أحدهم .. إن المواطن قد لا يكون منتمياً فليست لديه مبادئ يسعى إلى تحقيقها، ولكنه يحمل أخلاقاً تضعه في المقدمة .. نعم ، ولكنه يمتلك منظومة القيم الاجتماعية، التي تعزز موقع هذا المواطن وهي ( الرجولة والشهامة والصدق والإخلاص وحب الوطن وحب الانتماء إلى الأمة والكرم والشجاعة والوفاء بالعهد .. إلخ ) .. ولا أظن أن هذا المواطن منفصل عن مبادئ البعث أبداً !!


منظومة القيم هذه تشكل القاعدة الأساسية المتينة للمنتمي .. وإذا تمسك بالأخلاق عزز روح المبدئية لديه في تعامله السياسي والاجتماعي والإنساني .. الأنا ، وعوامل الإحباط والضعف والتردد والجهل القابع فيها، ينبغي فحصها وتشخيصها ومعالجتها والتغلب عليها أولاً في انقلابية ثورية تبدأ ب ( الأن ) الفرد إلى ال ( نحن ) المجتمع في عملية ثورية ترتقي لتكون قادرة على التصدي للأعداء الذين يسعون إلى فرض أجندتهم في الإذلال والاستعباد والإبقاء على التجزئة والتخلف وفرض سياسة الأمر الواقع المهينة .. بمعنى ( أن نبدأ الانقلابية في ذاتنا أولاً لنكون قادرين على الفعل الانقلابي للواقع الفاسد الراهن وتحدياته التاريخية ) !!


البعث هو في حقيقته استجابة تاريخية لإرادة الأمة من أجل النهوض والثورة والتجدد .. وعلى هذا الأساس فقد تكالبت قوى الشر كلها على الأمة وعلى البعث، الذي يحمل رسالتها السامية ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) .. فحاكوا المؤامرات، وشنوا الحروب، ودمروا البلاد والعباد ونهبوا وشردوا وما زالوا في جرائهم غارقون !!


والكل يعلم .. إن الحركة النضالية في ظل أجواء السلم والسلام والرفاهية، هي تختلف عن طبيعة الحركة في ظل انعدام الاستقرار وانعدام الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الذي تجسد في صيغ متنوعة يقع أخطرها اجتثاث الفكر واجتثاث الهوية واجتثاث الانتماء القومي الأصيل، واجتثاث القيم الاجتماعية والموروث الحضاري، وقطع الصلة بين العراق وشعبه العظيم وبين الأمة العربية.


ففي ظل السلم والرفاهية، تتضخم الأشياء وتتمدد وتتداخل بعضها ببعض، وكان لها أن لا تتضخم ولا تتداخل .. وفي ظل انعدام السلم والرفاهية ينبغي أن تكون المسافات واضحة في ( الكم ) و ( النوع ) ، ولا ينبغي أن يسود ( الكم ) على النوع بأي حال، كما حصل في ظل ظروف السلم والرفاهية الاجتماعية، حيث تحول المناضل إلى موظف مرهق انغمس في إدارة الدولة دون أن يعي ابتعاده عن قيادة الجماهير باعتباره مناضل .. وما ينبغي الإشارة إليه أن هذا الخلل من أخطر ما تتعرض له حركة البعث في كل حياتها النضالية، حتى يكاد أن يكون السبب الجوهري للانكفاء والتراجع حتى الكارثة ولسببين، الأول : إن الكم المترهل الذي أمسك بمفاصل غاية في الأهمية والخطورة لا يرتقي إلى مستوى ( النوع ) القادر على إدارة الأزمات والظروف الصعبة. والثاني : إن هذا الكم المترهل يفتقر إلى الإيمان بالقضية الوطنية والقومية من زاوية ترجيحه الذات وتضخيمها على حساب ال ( نحن ) الذي يمثل الجمع الثوري المؤمن بقضية البناء والدفاع عن المكتسبات والقيم، التي طالما تمثل جوهر الانتماء للوطن والأمة .. والنتيجة ابتلعت الدولة الحزب وصيرته جزءاً منها متلقي عاجز ويفتقر إلى الشجاعة الثورية في تشخيص السلبيات والأخطاء المرافقة لمسيرة العمل اليومي، والعمل على معالجتها ومنع تفاقمها واتساعها حد الابتعاد عن الجماهير وقيادتها وتثقيفها بما يعزز جوهر المواطنة الحقيقية في حب الوطن والدفاع عنه، ويعالج بحكمة قوالب الولاءات التي تتقاطع مع الولاء الوطني وتتناقض مع جوهر المواطنة الحقة.


الصدمة .. ليست سهلة، فقد فككت ما هو متراص على مقاسات زمن السلم، وبعثرت ما هو مترابط ، وعسَرتْ الحركة صوب لملمة الحالة .. وبعد امتصاص الصدمة، وكما هو شأن الحركة النقية للبعث عاد الجمع المؤمن، وعاد النوع يتكثف، ولكن مع هذه العودة ظلت شوائب ( الكم ) تأخذ مسارها غير الفاعل بدواعي ( التحرك ) ، وظلت شوائب بعض ( العناويين ) في هذا الكم تتربع قمة المفاصل .. ومن هنا بات الافتراق عويصاً يعطي انعكاساً سائداً ماثلاً وكأن الأمر هو القائم والكائن في ظل السلم أو الحرب - الاحتلال حرب مستمرة- في ظل النضال السلمي أو في ظل النضال السري !!


الظرف يشترط أن يكون النوع هو الذي يتسيد عملية النضال في المكان المناسب ليعيد ترتيب الأولويات على وفق قياسات التحولات الجذرية التي طالت الحركة والشعب والأمة .. الركون إلى مقاسات الاستثناء في الحركة يحولها إلى مقاسات فيها كقاعدة عامة .. وإن تغيير مجرى الحقائق وتحويل الاستثناء إلى قاعدة عامة ، سيبقي الحركة النضالية محدودة ومحجمة يصعب رؤيتها على خط الأهداف المرسومة .


أمام حركة البعث، ومنذ ولادته، حالة تحرر، فلا وحدة عربية بدون تحرير ، كما أن الحديث عن الحرية يصبح عقيماً بدون خطوات واضحة ودقيقة وجدية على طريق التحرير- وهكذا فعلت المقاومة الوطنية العراقية الباسلة وما زالت تفعل- لأن المسؤولية التاريخية حمل ثقيل لا تقتصر على ساحة عربية واحدة إنما تشمل الوطن العربي، لأن معظم أقطاره محتل، والاحتلال كما نعرف إما أن يكون عسكرياً مباشراً أو من خلال قواعد عسكرية ثابتة ومتحركة أو نفوذ سياسي واقتصادي واستخباري تعززه اتفاقيات أمنية وسياسية مهينه .


وفي ضوء ما تقدم .. والأساس المراد تثويره في هذه الحقبة لا خيار أما حركة البعث سوى الشعب العربي في كل مكان طالما هو الخيار النضالي الوحيد .. فكيف " يغمض للمناضل والمجاهد جفن والعدو ما يزال بستبيح أرض العراق وينتهك حرماته ويدنس مقدساته ويقتل أبناءه ورجاله وينهب خيراته ويروع حرائره ؟! )


ومن هذا التساؤل الكبير تظهر جملة من المفردات، التي تجسد ما هو مرفوض، وتتمثل بالمتردد والمتخوف والمتحجج والمبرر والمعتذر .. وكل هذه المفردات تتعارض مع الضرورة الحتمية التي يفرزها الموقف في خلق الحالة التحررية أو على طريق الفعل التحرري في صيغ حمل السلاح أو المشاركة في تظاهرة سلمية أو الاعتصام السلمي أو العصيان المدني أو توزيع بيان أو الانغماس في الحشد الجماهيري .. فيما تشكل العلاقة بين القاعدة والقمة محطة لها معنيين اثنين :


الأول- معرفة ما لدى القمة من آراء وتوجيهات . والثاني - رفد القمة بما لدى القاعدة من معلومات وآراء واستنتاجات وتوصيات .. فالحالة هنا ، تأخذ شكل ( النسغ الصاعد والنسغ النازل ) ، ومن دون ذلك يصعب الحديث عن تفاعل حقيقي بين القاعدة والقمة أو بالعكس تماماً ، الأمر الذي يعد من البديهيات أن يتعزز ترابط العلاقة في العمل النضالي، بكل معطياته ومتطلباته الموضوعية .. فهنالك مبادئ وإستراتيجية سياسية وإعلامية وبرامج وخطط للتحرك كيف نفهمها ، وكيف نتعاطى معها في ظروف هي غير ظروف السلم والرفاهية، إنما في ظروف حرب وتحرير متشابكة ومعقدة إذا لم نخطو ونمارس البديهية الأولى في الإتقان والعمل الجدي المثابر؟!


إن حركة الجماهير قد بلغت مرحلة باتت فيها من النضج ما يجعلها تصطدم مع الاحتلال وسلطته العميلة سلمياً، وهي حركة شعبية عامة ليست موسومة بأي عنوان خاص أو جهة سياسية ، فأين موقع المناضلين من هذه الحركة وزخمها المتواصل بعد أن كسرت حاجز الخوف ، وهي على أعتاب مرحلة الحسم ؟ّ!

 

 





الخميس٢٨ رجـــب ١٤٣٢  هـ   ۞۞۞  الموافق ٣٠ / حــزيــران / ٢٠١١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة