شبكة ذي قار
عـاجـل










نُشِر هذا المقال في مجلة دراسات عربية التي تصدر في بيروت عن دار الطليعة بتاريخ أيلول - تشرين الأول/ سبتمبر - أوكتوبر 1998 م : العدد 11/12.

 

بين أن نجلد الذات، أو أن نجلد الآخر، مسافة المحاكمة التي نجريها على الإثنين معاً؛


يقوم بأودها قاضٍ ليس هو بالخصم والحكم في آنٍ واحد، كما أنه ليس بالمتعصِّب  المتقوقع  المتشرنق، أو الحاقد  الأعمى، أو أن يكون القاضي / الأخ الذي ينصر أخاه ظالماً كان أو مظلوما.

 

نحن نخوض صراعاً فيه طرفان اثنان خصمان: ظالم ومظلوم، مستَعْبَد ومُسْتَعْبِد، مُستَضْعَف ومُستَضْعِف؛ هما، إذاً، الذات والآخر، وليس بينهما ثالث.

 

من حق المظلوم/ المُستَعْبَد / المُستَضْعَف أن يتحرَّر. فقوَّة حقِّه في ذاته، وأولى درجات تحرير الحق واستعادته هي في أن يتعرَّف المظلوم على حقِّه. أما الدرجة الثانية، فهي أن يعرف كيف يسعى إلى استعادة هذا الحق. وبين معرفة الحق ومعرفة تحريره مسافة؛ وهذه المسافة ليست فراغاً وإنما هي حقل تعرف فيه الذات أين تبدأ الحقوق وأين تنتهي. ذلك حتى لا يصبح المظلوم ظالماً حتى في الافتراء على حقوق ظالمه. وبين حق الذات وحق الآخر مسافة أخرى، وهي أيضاً ليست فراغاً، وإنما هي حقل مملوء تعرف فيه الذات أين قصَّرت فتنازلت عن الحق، وأين ابتدأ اعتداء الآخر فسطا ثم نهب وسرق.

 

في مقالنا، هذا، سوف نعمل على إلقاء الضوء على المسافة التي تنازلت فيه الذات عن حقوقها أولاً، وعن المسافة التي بقيت فراغاً في وسائل المواجهة ثانياً، و في توضيح الحدود بين  حق الذات وحق الآخر ثالثاً؛ أي بالإجمال كيف يمكن أن نجعل من أنفسنا، في ظل غياب الطرف الثالث بين الذات والآخر، قاضياً يُصدِر حكماً بجلد الذات حيثما قصَّرت و أخطأت وتنازلت، وحكماً بالجلد على الآخر حيثما اعتدى وسطا ونهب.

 

ولأن جلد الآخر قد مارسناه كثيراً، وقد يكون  هو الحكم  الوحيد الذي قمنا بتنفيذه، فمن الأَولى، إذاً، أن نحاول استطلاع ما نستحق من أحكام على أنفسنا وذواتنا.

نعاني نحن العرب، في أزماتنا الراهنة، من مأزقين: مأزق الذات/ الداخل، ومأزق الآخر/ الخارج.

 

حسب العُرف السائد، درج خطابنا التاريخي والراهن، على المستويين: السياسي - الديني والسياسي - الوضعي، على قاعدة اتهام الآخر وتحميله مسؤولية كل ما يواجهنا من محن وآلام وإشكاليات و تخلُّف.

 

فالمسافة بين الذات والآخر في ذاكرة تاريخنا، كما في ذاكرة البنيان المعرفي الذاتي، مزروعة بالعداء المُستحكِم الذي أصبح يشكِّل قانوناً يسكن تاريخنا القديم والحديث والمعاصر. هذا العداء محكوم بسلفية لا تقبل النقاش والجدال، ويحكمها الجمود والسكون وليست الجدلية والتفاعل (*).

 

فالذات المعرفية عندنا، حتى الآن وإلى لإشعار آخر، هي الدائرة المتراصة المغلقَة التي تدَّعي امتلاك الحقيقة المُطلَقة؛ تتقوقع على نفسها، وتحرص على أن تمنع أن يتسلَّل إلى داخلها أي نسق معرفي إنساني من الآخر خوفاً من التلوث الذي يحمله هذا الآخر. وهي لن تقنع إلاَّ بأن مصدر التلوث خارجي، فالخارج متآمر يحمل التلوث إلى داخل دوائرنا المعرفية تارة، وهو يعمل على منع انتقال نسقنا المعرفي إلى دوائره خوفاً منه تارة أخرى. فالخارج المحكوم بهواجس الخوف منا، أصبح هو "الآخر" الذي لا يستطيع أن يبني ذاته، أي ذات الآخر، ويحقِّقها ويُحصِّنها ويحافظ على بنائها إلا بالتآمر علينا و تهديم ما لدينا.

 

فالذات التي نقصدها، ليست ذاتاً  محدَّدَةً  تماماً، و إنما  هي  الذات الداخلية، التي تعني الديني أو القومي، أما الآخر فهو تلك الكتلة المعروفة بالخارج الاستعماري، الثقافي والاقتصادي والعسكري…

 

فالذات، في قوانين معرفتنا السائدة الآن، ليست موحَّدَة المضمون، وإنما هي مسألة نسبية لا تعني الاجتماعي-السياسي ككل متماسك، وإنما قد تكون الديني بشموليته أو قد تعني القومي بشموليته، وهي ليست في مطلق الأحوال شمولية موحَّدَة للديني والقومي معاً. فيصبح الديني هو الذات، مثلاً، أما القومي فهو الآخر، والعكس بالعكس.

 

فتناقض الذات مع الآخر، كما هو سائد نظرياً، يكون فيه طرفا الصراع: الديني - القومي هو الذات الداخلية من جهة، والاستعماري هو الآخر الخارجي من جهة  أخرى. أما واقع التناقضات السائد حالياً، فقد يكون طرفا الصراع فيه هما الذات والآخر، وكلاهما داخليان.

 

ففي المجموعة الجزئية، مثل المذاهب الدينية ( كأجزاء) في داخل البناء الديني (ككل)، يصبح كل جزءٍ / مذهب هو الذات وهو الآخر في الوقت عينه، وتندرج في السياق ذاته الأحزاب السياسية كأجزاء في داخل البناء الوطني أو القومي (ككل)، إذ  يصبح كل حزب هو الذات وهو الآخر معاً. وقياساً عليه يصبح كل قطر / دولة في داخل البناء القومي ذاتاً وآخر أيضاً.

 

أما الآخر، فقد يكون فرداً أو جماعة أو دولة أو مجموعة من الدول/ الأقطار، وقد يكون تياراً ثقافياً أو سياسياً أو فكرياً أو أيديولوجياً. فالوحدة في داخل الكيان الوطني أو القومي تصبح وحدات متفرقة متناقضة بين بعضها البعض، على الرغم من أنها تحافظ على وحدتها الداخلية، لكنها تنغلق أمام الوحدات الأخرى وتتصارع معها فتتولَّد إشكاليات عديدة، ومنها إشكالية التفتيت في داخل الكلِّ الجامع الشامل، وإشكالية الحصار الذي تمارسه الواحدة ضد الأخرى.

 

قد لا يعني هذا التعدد، الذي هو تنوع ديموقراطي، شيئاً سوى إظهار الوجه الإيجابي في تعدد الرؤى الذي هو إغناء للتجربة، وهو يؤدي إلى المزيد من إنتاج الآراء والأفكار والمعرفة. لكن هل الواقع الموجود يخدم الهدف المنشود؟ من هنا تبدأ إشكالية التفتيت الداخلي/ الذاتي.

 

لو كانت التعددية في داخل دائرة استراتيجية مُوحَّدَة و مُوحِّدَة، قانونها التفاعل والتأثُّر والتأثير، يُنتِج كل ما يصبُّ في وحدة الجماعة الكبرى/ الشاملة، لكانت التعددية ضرورة وحاجة طالما هي وحدوية في اتجاهاتها وأهدافها، فهي تتضمَّن الهدف الوحدوي من خلال تنوُّعها.

 

لكن الأمر يختلف في الجانب الآخر من الرؤية، فالتعددية السائدة اليوم، تدفع بالأجزاء إلى حماية أنفسها بالتقوقع في داخل شرانقها بممارسة الحصار الذاتي. وهي تستند في وسائلها إلى محاربة الآخر كأفضل طريقة لحماية الذات. فقانون الحركة بينها، كأجزاء، محكوم بمفهوم تسميك شرانقها الذاتية وتكليسها في وجه الآخر، وهي تعمل على قاعدة (من ليس معي فهو ضدي). فهذه التعددية، إذاُ، تتضمَّن التفتيت، وتعمل لأجله، من خلال التعدد.

 

فالتفتيت، الآن، قانون سائد في حركة القوى العاملة في سبيل صعود الأمة؛ وهو تفتيت ذاتي يُمارَس من الداخل قبل أن يكون هدفاً خارجياً؛ فالداخلي/ الذاتي، هو، إذاً، بحسن نية أم بسوئها، مساعد أساسي لكل هدف تفتيتي يأتي من الخارج/ الآخر.

 

1 - التفتيت في داخل الذات الدينية / الإسلامية الشاملة

 

إذا لم يكن بالإمكان، في هذا المقال، الإلمام بشكل شامل بكل مظاهر التفتيت الذي تعاني منه الأمة على الصعيد الإسلامي، وهذا واجب القيام به بدراسات متخصِّصة، فإن نظرة شاملة نلقيها على الواقع الراهن، نعتبرها مساهمة متواضعة، ولكنها ضرورية. فماذا نرى؟

 

- تسود النظرة القائمة على ضرورة ثنائية الصراع بين معسكري الإيمان و الكفر. فثنائية الإيمان والكفر، تشكِّل ثنائية دينية - أيديولوجية، يتداخل المنتسبون إليها تحت ظل أنظمة جغراسية موحَّدَة. فليست هناك أنظمة جغراسية تُمثِّل تمثيلاً صافياً معسكر الإيمان، كما أنه ليست هناك أنظمة سياسية تُمثِّل معسكر الكفر؛ فقد تقود هذه الثنائية إلى حقيقة حتمية، هي تقاتل أبناء نظام جغراسي واحد، وقلَّما استطاع مثل هذا الصراع أو التقاتل أن يعقد لواء النصر لهذا الطرف أو ذاك.

 

- وسواء كانت هذه النظرة نابعة من أسباب دينية أيديولوجية، أو من أسباب سياسية تحرُّرية، فإن التقاتل الداخلي سوف يسبق ويعيق الصراع ضد الخارج. فثنائية هذا الشعار لن تؤدِّي إلاَّ أغراضاً تفتيتية ذاتية.

 

- النظرة الإيمانية السائدة تستند إلى الذات الدينية، على المستويين الأخروي والدنيوي، وهي تدَّعي أنها تمتلك الحقيقة المطلَقَة، وكل من يقف في خارج دائرتها فهو يختار دائرة الباطل؛ فلا حلَّ بين الحقيقة والباطل إلاَّ أن يترك الآخر دائرته ويلجأ إلى حيث الحقيقة موجودة. وهل هذا إلاَّ استحالة عقيدية وسياسية؟

 

- ثنائية الإيمان والكفر، كما ثنائية الحقيقة والباطل، هما دائرتان مُغلَقتان متناقضتان على الصعيد النظري، وهما لن تكونا إلاَّ كذلك على الصعيد العملي، ولن ينتهي الصراع بينهما إلاَّ بإلغاء أحدهما الآخر. وهذا، أيضاً، يشكِّل استحالة جديدة. لماذا؟

 

فإما أن تكون القوى متوازنة وهذا يشكِّل عنواناً لصراع لن ينتهي، وإما أن يختلَّ التوازن لصالح أحدهما. فالأقوى يدفع بالآخر إلى الرضوخ والتراجع، والمتراجع سوف يعمل لاستجماع إمكانياته على المدى الطويل أو القصير ليخوض معركة الثأر. فحركية الصراع هنا تتميَّز بالسكون والجمود إلاَّ في حالة واحدة هي أن تتكسَّر دوائر الثنائيات بمفاهيمها الثنائية المُغْلَقَة لصالح التطوير والتطور في هذه المفاهيم.

 

- تتميَّز تلك الثنائيات بسكونية الحركة، أي بمعنى افتقادها لإمكانيات التطوير لأنها خالية من جدلية الصراع، أي أن طرفي المعادلة لا يحملان إمكانية التأثير والتأثُّر، أي إمكانية التفاعل المتبادل.

 

كانت سكونية الحركة من سمات التاريخ الإسلامي بسبب غياب العلاقة الواضحة بين الديني و السياسي، هذه العلاقة قائمة على القاعدة التبريرية. فالسياسي يُبرِّر ذاته بشرعية الغطاء الديني، أما الديني فيُبرِّر علاقته السلبية أو الإيجابية مع السياسي بمقدار ما يرتدي السياسي الغطاء الديني أو يخلعه، سيان أكان هذا الغطاء إسمياً أم فعلياً، وقلَّما ارتدى سلطان أو ملك، باستثناء مرحلة الراشدين، هذا الرداء فعلياً.

 

- إن المسألة الإيمانية، وفي الوقت الذي نرغب فيه أن تشكِّل محوراً وحدوياً، فإننا نجهل أين تبدأ حدودها وأين تنتهي. ما هي شروط تأمين هذه الوحدة؟ وهل لها مضامين واتجاهات واحدة على صعيد الأنظمة السياسية الإسلامية؟ فحتى الأنظمة التي تنصُّ دساتيرها على أن دين الدولة هو الإسلام، فلأي مذهب من مذاهبه يكون هذا الانتساب؟ وهل لمجموعة هذه الدول نظرة موَحَّدة في أشكال العلاقة مع الآخر؟ بل هل تمتلك رؤية موَحَّدَة على طريق وحدة سياسية؟

 

أَوَ ليست دول المجموعة الإسلامية، سواء التي تلتقي في مؤتمرات إسلامية رسمية أو شعبية، لها ارتباطات هنا و هناك قد تُرضي أمثالها أو تغضبهم؟ أًوَ ليست هناك دولة إسلامية ترتبط مع هذا المحور السياسي أو الاقتصادي أو العسكري بما يتعارض بل ويتناقض مع مواقف وارتباطات دولة إسلامية أخرى؟

 

أَوَ ليست هناك جاليات/ أقليات إسلامية، في دول أكثريتها غير إسلامية، أو دين الدولة فيها غير الإسلام، كاليهودية والمسيحية والبوذية والبراهمانية…؟ فما هي مواقف هذه الأقليات، أهي إلى جانب الدول/ الأوطان، أم إلى جانب هذه أوتلك من الدول الإسلامية؟ فإذا كانت مواقفها إلى جانب الإسلام، فهل تقف الموقف ذاته في تأييد جميع الدول الإسلامية؟

 

فإذا اختصرنا دائرة التعميم، من مجموعة الدول الإسلامية في العالم، نزولاً إلى التخصيص، أي إلى مجموعة  الدول العربية التي تنص دساتيرها على الإسلام كدين رسمي للدولة، هل نجد إشكاليات بينها أقل من تلك التي نجدها عند مجموعة الدول الإسلامية في العالم؟

 

- لو افترضنا، كما تعتقد بعض الحركات الإسلامية، انه يجب التمييز بين الإسلام وبين السلطات/الدول الإسلامية؛ لأن الدول، كسلطة سياسية، لا تطبِّق الشريعة الإسلامية حتى لو نصَّت دساتيرها على الإسلام كدين رسمي، فإنه  لا بد من أن نلفت  النظر إلى مستويين من العلاقة بين السلطة السياسية والهيئات/السلطات الدينية:

­الأول وهو الذي يُعبِّر عن بعض مذاهب أهل السُنَّة، التي أقرَّت بشرعية السلطان، حتى وإن لم تنطبق عليه شروط التكليف وأهمها قرشيَّته، بحجة حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام المدنية.

 

­ الثاني: و تعبِّر عنه الشيعة الذين ينظرون إلى أية دولة إسلامية بعين الارتياب والمعارضة، على الرغم من أنهم لا يقاومون هذه السلطة بانتظار ظهور الإمام المنتظر، الذي من حقه وحده أن يقيم الدولة الإسلامية.

 

فعلى العموم ليست الثغرة تكمن في إشكالية ممارسة السلطة من قِبَل الدول الإسلامية في مدى قربها أو بعدها عن الشريعة الإسلامية، بالقدر الذي تظهر فيه الثغرة في تفاوت المواقف والمذاهب الإسلامية ورؤيتها لطبيعة النظام الديني - السياسي.

 

استناداً إليه، وإذا استثنينا وحدة الرؤية النظرية الإيمانية في الجوانب الماورائية والأخلاقية، نرى أن التمزُّق والتجزئة في الرؤى السياسية للأنظمة والحركات الإسلامية هي السمة السائدة؛ وقد تكون هذه الثنائية - وحدة إيمانية وتفتيت سياسي -نابعةً من سكونية الحركة في فكر بعض الأصوليين الإسلاميين عندما تشرنقوا في داخل الدوائر التي اعتقدوا فيها  أنهم امتلكوا الحقيقة المطلقة دون غيرهم، فأغلقوا الأبواب في وجه عقيدتهم في ثنائيات لا تقبل الجدل والتفاعل.

 

في المقابل، وفي الوقت الذي حُكِم فيه على الذات الإسلامية الشاملة بالحالة السكونية، فإن الآخر، الذي هو الطرف الاستعماري (الكافر، الشيطان الأكبر…) يتميَّز بالدينامية والحركة.

 

خلافاً لما يعتقده كثيرون، خاصة ممن اعتقدوا بثنائية الإيمان والكفر، فإن الطرف الاستعماري، وإن حاول أن يثير أحياناً النعرات الطائفية المسيحية، فإنه يستخدمها ليس لأهداف تبشيرية دينية، وإنما لهدف تفتيتي يمنع فيه أي توجه وحدوي قومي أو إسلامي، وهو بالتالي لا يسكنه هاجس إلغاء الآخر على القاعدة الدينية، لأنه لن يستطيع ذلك، وإنما يغذِّي عوامل التفتيت الداخلي لكي يمنع الوحدة السياسية مما يسمح له أن يواجه خصماً مفكَّك القوى و الإمكانيات، ومما يسمح له أيضاً أن يصبَّ كل جهوده في سبيل الهيمنة على ذلك المجتمع المفكك مما يُسهِّل أمامه استنزاف الخيرات والموارد الاقتصادية.

 

فما يتميَّز به الطرف الآخر/ الاستعمار هو أنه لا يُجهِد نفسه كثيراً في سبيل فرض حصار، أو اختراع تفتيت في مجتمع ما، لكنه يعمِّق فيه الثغرات، وهي موجودة ومنتشرة في زوايا الحياة الفكرية والعقيدية والسياسية للإسلاميين والأنظمة الإسلامية.

 

إن الخطاب الإسلامي الداخلي، مع الداخل بالذات، يدلُّ على الكثير من عوامل و وقائع الحصار الذاتي الذي يمارسه تيار إسلامي ضد تيار إسلامي آخر؛ كما يدل على الكثير من عوامل التفتيت، ومن أجلى مظاهرها  تلك الشرانق التي تنسجها  التيارات الإسلامية، كل في دائرته، وفي شتى الميادين التي توزِّع عليها اتجاهاتها وتياراتها الدينية الأيديولوجية، والفكرية السياسية، سواء على صعيد الدول أم على صعيد الحركات والفرق، أو على مستوى الجماهير.

 

2 - التفتيت في داخل الذات القومية / العربية الشاملة

 

جاءت اتفاقية سايكس-بيكو في العام 1916م لترسم في داخل المنطقة العربية حدوداً جغرافية دولية، ولتكرِّس حالة التقسيم الذاتي الذي كان العرب والمسلمون يمارسونه على أنفسهم.

 

نعتقد أن هذا القول قد يثير بعض المشاعر الوجدانية، أو بعض القناعات الموضوعية،إذ إنه لا يجوز أن نجلد الذات بينما يقضي الواجب أن نجلد الآخر.

بين مقولة " إما جلد الذات وإما جلد الآخر"، تبعاً لرؤية قوانين الثنائية المغلقة في الوعي المعرفي السائد، نعتقد أنها ترتبط بخيط رفيع يجب أن لا ينقطع.

 

فإذا كان جلد الآخر هو المطلوب على قاعدة تحميله بعض المسؤوليات التي لا يجوز إلاَّ تحميلها للذات، فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وبالتالي فإنه لا يفيد الذات شيئاً إلاَّ عند الذات / النعامة التي تهرب من طريق الصياد بأن تدفن رأسها في الرمال.

 

ولا شك أن للآخر مصلحة في أن يبقى المُتخلِّف مُتخلِّفاً، تبعاً لقوانين العلاقات الدولية السائدة الآن، وهو لن يعمل على إنقاذه، ولن يضيره هذا الاتهام شيئاً طالما بقي صاحب الحق في دائرة توجيه الاتهام الخطابي، فقط، لخصمه.

 

عود على بدء، هل كانت الأمة الإسلامية، أو الأمة العربية، مُوَحَّدةً قبل اتفاقية سايكس - بيكو، عندما جاءت هذه لتُقسِّم تلك أو تفتِّتها؟ وهل كانت مُتقدِّمة لكي تؤخِّرها؟ وهل كانت مُتحرِّرَةً لكي تستعبدها؟ وهل كانت غنيَّةً لكي تفقرها؟ وهل كانت مؤمنة لكي تجرَّها إلى الكفر؟

 

يقول البعض إن الأمة كانت سياسياً تحت حكم نظام إسلامي، فجاء الآخر/ الاستعمار بنظرياته المُستَوْرَدَة في القومية والديموقراطية والعلمانية لكي يحارب الإسلام ويقضي عليه، وذلك بأن يفتِّت الأمة الإسلامية إلى قوميات، ويُلغي الشريعة الإسلامية ليستبدل العلمانية بها، ويلغي نظام الشورى ويُحِلَّ مكانه مفاهيم الديموقراطية الغربية.

 

لا ننكر بأن ما يقوله البعض صحيح لجهة الاستهدافات الاستعمارية، و لكننا لا نتَّفق معه لجهة وسائل هذه الاستهدافات. ومن هنا نتساءل: هل كانت الأمة الإسلامية مُوَحَّدَةً  فعلاً تحت راية الأتراك العثمانيين؟ وهل كانت الشريعة الإسلامية هي القانون السائد، فعلاً، والذي على أساسه تحدَّدت أسس النظام السياسي، ومنها مهمات السلطان وصلاحياته وحدود سلطته؟ بل هل كانت الشريعة هي السيف الفاصل في علاقة السلطة مع رعاياها؟ وهل كان نظام الشورى، وفصل القضايا بين الناس بالعدل والمساواة هو السائد؟ بل هل كانت الرعية، في عهد السلطة العثمانية، تشعر بأن لها حقوقها السياسية والاجتماعية والدينية؟

 

بالعودة إلى تاريخ تلك المرحلة، التي سبقت اتفاقية سايكس - بيكو، وقد كُتِب عنها الشيء الكثير والوافي في أكثر جوانبه، لوجدنا أن الواقع كان مأساوياً بالفعل، يشهد على ذلك ما كتبه رجال دين، ورجال علمانيون، مسيحيون ومسلمون.

 

من هنا كان اعتقادنا قائماً على أن ما جاء به الاستعمار الأوروبي، الطرف الآخر في تلك المرحلة، هو تكريس لما كان حاصلاً. وكان هذا التكريس مستنداً إلى مصلحة استعمارية لأسباب جُلُّها اقتصادي، وتتجدَّد وسائل الهيمنة الاستعمارية في إبقاء حالة التخلُّف والتجزئة سائدة مما يسهِّل عليه السيطرة وسرعة الاستنزاف ووفرة عطائه.

 

إن تشخيص الداء هو الخطوة الصحيحة الأولى لوصف الدواء: ما كان مصدر جراثيمه خارجياً يتم ردم بؤره، وما كان مصدره داخلياً يتم السيطرة عليه ومداواته بما يتناسب مع نوعه وحجم خطورته.

 

إن الخصم، وهذا سائد في الميكيافيلية السياسية للقوى الكبرى، من غير مصلحته أن يساعد على الشفاء، بل يعمل لكي يستفحل المرض في الجسم الضعيف، كما أن اتهامه وصبَّ اللعنة عليه بأكثر مما تستدعيه خطط التعبئة الداخلية لن يؤمِّنا  الحاجة للشفاء. فالأحرى أن يتمَّ العمل على معالجة  الذات بما يتيسَّر، على أن  يُبْذَل الجهد لاستكمال أو تأمين ما ليس موجوداً.

 

فالواقع الذي تعيش أمتنا في وحوله اليوم، هو ما كرَّسته اتفاقية سايكس-بيكو منذ سبعة أجيال ونيِّف، وهو واقع التفتيت والتجزئة بمظاهره الجغرافية - السياسية، ومضامينها الأساسية في التجزئة الفكرية والأيديولوجية. فداؤنا، إذاً، هو التجزئة ودواؤنا هو الوحدة.

 

فبدلاً من أن نلعن الظلام / الاستعمار، وقد لعنَّاه كثيراً، وخطابنا السياسي والأيديولوجي، دينياً وقومياً، لم يوفر حتى أدق التفاصيل في جسد الاستعمار وجسد أمه وأخته إلا وأحاطه بالشتيمة من جهة، فيما امتلأت مكتباتنا بكثير من الدراسات الموضوعية والعلمية حول هذا الجانب، وأصبح لدينا تشخيص علمي وافٍ له من جهة أخرى…علينا أن نشعل شمعة في داخل الذات، وذلك بأن نخطو خطوة عملية اتجاه الوحدة، ولتكن هذه الخطوة سلحفاتية فهي أفضل من واقع التفتيت الذي ما زال يلفَّنا ويشملنا بسلبياته.

 

فإذا ما دققنا النظر بالخارطة السياسية للأقطار العربية، لاتَّضحت أمامنا الأسباب الذاتية التي تؤخِّر بلوغ الوحدة، أو حتى لا تكاد تلامسها. فكلما نشأت ظاهرة متقدِّمة تحمل في أحشائها جنين الوحدة، أو كلما نبتت مؤسسة تلبس نظارات وحدوية، يتعاون الخارج مع الداخل في سبيل إجهاض الجنين أو تحطيم النظارات؛ والهدف من كل ذلك واضح وهو تفريغ أية ظاهرة أو أية مؤسسة من أهدافها وتطلعاتها واتجاهاتها أو حتى من أحلامها الوحدوية.

 

إن نظرة سريعة على تاريخ أمتنا المعاصر، منذ ثورة الثالث والعشرين من تموز/ يوليو في العام 1952م في مصر، والوحدة السورية - المصرية في العام 1958م، وحرب الخليج الثانية في العام 1991م، مروراً بظاهرة الثورة الفلسطينية وانتفاضتها في الأرض المحتلَّة، وصولاً إلى فرض الحصار على ليبيا، و العمل على إذلال الصومال شعباً وانتماءً، كافية لتعطينا الجواب على ذلك.

 

ففي كل زوايا التاريخ لهذه المحطات الرئيسة في حياة أمتنا العربية، نجد التحالف الخارجي مع الداخلي أداة رئيسة لإجهاض تلك المحطات. ومن هنا نعتقد أن إرادة الآخر ليست هي القوة الكافية للاجهاض والتحطيم والتفريغ، وإنما تفتُّت الذات التي ينجرُّ قسم منها إلى التحالف مع الخارج هو ركيزة أساسية سلبية في حياة أمتنا.

 

3 - التفتيت في داخل الذات العربيـة الإسلاميـة الشاملـة

 

إن إلقاء نظرة كليَّة على عاملي القومية والإسلام تشمل مساحة الوطن العربي بمنظار الاعتقاد بأن كليهما يُشكِّلان ثنائية طرفاها متناقضان، لكافٍ لتلمُّس مظاهر التفتيت في داخل ذات حضارية واحدة.

 

فمنذ أن أخذ الإسلام العربي، بعد وفاة الرسول، بالتوسُع والسيطرة على مساحات جغرافية واسعة، وضمِّ قوميات متعددة ومتنافرة، وحضارات راسخة ومُتَجذِّرة، استفحلت حالة الانقسام المذهبي الديني/السياسي، وأخذت حالة التناقض بين الإسلام والعروبة تتصاعد. إذ ذاك تواجهت الأمة، منذ تلك اللحظة، بإشكاليتين أساسيتين:

- التفتيت المذهبي الديني/السياسي وتشرنقه.

 

- التناحر بين العرب و العناصر الأخرى، و تسابقهما على السيطرة على الشرعية السياسية الإسلامية.

 

إن هاتين الإشكاليتين، كل في سياقها التاريخي، وجدت لها مكاناً في التاريخ العربي  الإسلامي، وكانت تزداد حدَّةً وتأزماً كلما ابتعد الإسلام صعوداً عن زمن بدء التبشير بالرسالة الإسلامية. استكانت هاتان الإشكاليتان، بشكل نسبي، في العصرين المملوكي والعثماني، لكنهما بقيتا ناراً تحت الرماد إلى ما بعد انهيار العصر التركي العثماني.

 

كان للمسألة القومية العربية، ولظروف المرحلة الخاصة: الفشل التركي في بناء دولة العدل و المساواة، ووفادة الفكر القومي من الغرب الأوروبي، قصب السبق في الظهور، احتلَّت فيه مساحات واسعة في التاريخ العربي، وكانت هي الأبرز في اهتمامات المفكرين، من علماء دين وسياسيين، على مستوى النخبة و مستوى الجماهير، و حِيكَت من حولها المؤامرات ووُضِعَت في طريقها العوائق وهي لمَّا تزل بعد وليدة في المهد تحبو باتجاه الوقوف النظري الصلب، وتعاون على إعاقة تقدُّمها كل من الذات / الداخلي والآخر / الخارجي معاً.

 

فعلى الرغم من قوة الإمكانيات التي امتلكها تحالف قسم من الذاتي مع الآخر من جهة، وحداثة الولادة من جهة أخرى، فإن تيار الوحدة، سواء تعمَّق في الوعي النخبوي أو لامس الوجدان العام وأثَّر فيه تأثيراً، وعلى الرغم  من الانتكاسات التي أُصيب بها، فإنه كان يتعمَّق ويتجذَّر شيئاً فشيئاً على مستوى الوعي والوجدان في خطوات بطيئة لكنها ثابتة وواثقة، مع أن مظاهر الانتكاسات كانت توحي بالعكس عند غير المتعمِّقين في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية.

 

برزت هذه الانتكاسات عندما أخذ الوعي المعرفي للهوية القومية يتحوَّل إلى واقع سياسي بشكل حركات وأحزاب تارة، وبشكل أنظمة سياسية تارة أخرى؛ هذا الواقع الجديد خاض سلسلة من الصراعات مع القوى المتضرِّرة من الاتجاه الوحدوي، فأُصيب، نتيجة فقدان توازن القوى، بعدد من الانتكاسات.

 

كانت مظاهر الانتكاسات السياسية والعسكرية، خاصة بعد فشل الوحدة السورية-المصرية، وهزيمة الخامس من حزيران/ يونيو من العام 1967م، ومؤامرة تحجيم دور الثورة الفلسطينية، وضرب مؤسسات الحركة الوطنية اللبنانية، والاجتياح الصهيوني / الاستعماري للأراضي اللبنانية في العامين 1978م و 1982م، والحرب الأمريكية على العراق في العام 1991م، كانت كلها ترسم مؤشِّراً سلبياً علَّله الكثيرون من المُحبَطين بأنه فشل للنظرية القومية و اتجاهاتها السياسية. أما الموغلون في التشاؤم، خاصة منهم بعض الإسلاميين الذين اندفعوا إلى تحميل تلك النظرية ورُوَّادها والمؤمنين بها وزر الانتكاسات، فراحوا يفتِّشون عن البديل الذي لم يجدوه إلاَّ بتجديد الدعوة الدينية الإسلامية.

 

فإذا كانت القومية العربية، كنظرية جديدة ومُستَورَدَة، أم كحقيقة واقعة تكوَّنت عبر التاريخ حسب القوانين الاجتماعية؛ وسواء كان الإسلام، كأساس مهم  من التراث العربي - الإسلامي، قد أخذ دوره أو غاب هذا الدور لفترة عن المسرح التاريخي المعاصر لأمتنا العربية، فإن الحقيقة الواقعية الآن هي أنها قد رسمت الدوائر المُغلَقة حول: أيٍ من العاملَين هو البديل والذي يُعتَبَر الأكثر صلاحية لمعالجة أمراضنا؟

 

لكن في ظلمة الدوائر المغلقة، انبرى الكثيرون من المفكرين القوميين، والإسلاميين المتنورين، أو القوميين الإسلاميين، انبروا للسباحة في بحر التوفيق بين الإسلام والعروبة؛ وهي سباحة ما زالت تتوالى فصولاً وتُنتِج دراسات وأبحاثاً ذات قيمة. لكن على الرغم من ذلك، فإن السمة العامة التي مازالت تتحكَّم في الخطاب القومي والديني السياسي حتى الآن هي: من يكون أولاً، العروبة أم الإسلام؟

 

وقف كل من التيارين، القومي العربي من جهة والإسلامي من جهة أخرى، في دائرة الوحدة كبديل للتفتيت، وهو مبدأ مهم وصحيح، لكنه عند النزول به إلى درجة التخصيص تبدأ الإشكالية الأساسية التي تقول: أية وحدة هي المطلوبة؟ هل عمادها الأساس الديني أو الأساس القومي؟ وهذه الإشكالية تنشأ عنها بالتالي إشكاليات فرعية / جزئية هي التالية:

 

- هل إن الوحدة على القاعدة الإسلامية يُمكن أن يوفِّرها وجود العشرات من الفرق والمذاهب والتيارات الإسلامية التي تفتقد الرؤية الوحدوية على الصعيد السياسي من جهة أخرى؟

 

استطراداً، وهل الوحدة على القاعدة القومية يُمكن أن يوفِّرها وجود الأمة مجزَّأَةً إلى عشرات الأقطار، التي تحكمها أنظمة سياسية متباينة سياسياً وعقائدياً على الرغم من التقائها الظاهري على مبدأ الوحدة العربية السياسية؟ وهل يوفِّر هذه الوحدة وجود المئات من الأحزاب السياسية والعقائدية، التي يتوجَّه بعضها قطرياً، ويطمح بعضها إلى المستوى القومي، ويفكِّر بعضها الثالث تفكيراً أممياً ؟ تلك الشَرْذَمة في القوى لم تدفع بقياداتها -حتى الآن- للتفتيش عن قواسم فكرية أو سياسية مُوَحَّدَة  تُؤمِّن لها برنامجاً سياسياً يمتلك الحد الأدنى من الرؤية المُشتَرَكَة؟ وهل يحقق ذلك وجود آلاف المثقفين من النخبة الذين لم يستطيعوا -حتى الآن- بناء مؤسسة فكرية ثقافية تُقَرِّب طاولات الحوار الجدِّي تجاه بعضها البعض؟

 

إن سمة التفتيت التي تعاني منها المذاهب والفرق والحركات الإسلامية في داخل دائرة شعار الوحدة الإسلامية أولاً، وسمة التفتيت التي تعاني منها الأنظمة السياسية والأحزاب والمفكرون القوميون في داخل دائرة شعار الوحدة القومية ثانياً، وتناحر دعاة هاتين الوحدتين الإسلامية والقومية ثالثاً… ينتج عن ذلك كله الإشكالية الأم التي تتفرَّع عنها الإشكاليات الجزئية الذاتية.

 

4 - التفتيت في داخل الـذات الجزئيـة في الدائـرة الدينيـة الإسلاميـة

 

ترفع بعض الحركات الإسلامية، في داخل الساحة العربية وفي خارجها، شعار الدولة الإسلامية. يستخدم بعضها التبشير الثقافي والإعلامي كما في لبنان والأردن، ويقود بعضها الآخر انتفاضاتٍ مسلَّحةً ضد الأنظمة القائمة كما في مصر والجزائر، ويشارك البعض الثالث في الانتفاضات التحررية كما في فلسطين.

 

وفي خارج الساحة العربية، استطاع رجال الدين في إيران أن يعلنوا قيام دولة إسلامية، أما في أفغانستان-وبعد انتصار الفصائل الإسلامية على النظام الشيوعي-فانتقل الصراع إلى صفوف هذه الفصائل ذاتها.

 

ومن دون التوقف أمام الشبهات التي تُرفَع حول عدد من مظاهر الأعمال التي تقوم بها بعض تلك الحركات خاصة في مصر والجزائر، فإننا لا بد من أن نتوقف أمام عدد من التساؤلات والملاحظات التي تثيرها إشكالية العمل من أجل تأسيس الدولة الإسلامية وإحياء الخلافة.

 

سواء طُرِح الشعار على مستوى الثورة السلمية، إعلامياً وثقافياً وسياسياً، أم على مستوى الحركة  المسلَّحة، فإن الإشكالية الأساسية لا تكمن في  الخلاف حول أسلوب  العمل للوصول إلى الهدف، وإنما تنبع أساساً من مضامين هذا الشعار النظرية والتطبيقية.

 

فالوحدة شعار يثير الراحة في النفس والاطمئنان في القلب، وفيه يستعيد العقل وعيه. فالإسلام يشكِّل جزءاً أساسياً في حياة العربي، لأنه أصبح بتراثه الحضاري التاريخي جزءاً من حضارة الأمة العربية، سواءٌ بحضارته التي شكَّلت جزءاً من التراث الإنساني في مرحلة من المراحل، أو بما يتضمَّنه من دعوة روحية أخلاقية إنسانية؛ فالدعوة الإسلامية هي أحد العناصر الأساسية في تشكيل الأنساق الثقافية والاجتماعية للشعب العربي.

 

من حق المسلمين أن يناضلوا من أجل قيام نظام يتناسب مع معتقداتهم الروحية والمادية. لكنه حق ليس بالمطلق، فهو نسبي لأن المسلمين يشكِّلون جزءاً من المجتمع العربي وليسوا هم المجتمع كله من جهة، ولأنهم غير متفقين-كمسلمين أيضاً-على شتى المسائل و لا سيما السياسية منها من جهة أخرى. لذلك نسأل: أين يقع شعار الوحدة الإسلامية، والدولة الإسلامية، عند المسلمين أنفسهم؟

 

يتميَّز الإسلام بخاصيَّتين: الخاصيَّة العقيدية، وهي الإيمان بالله ورسوله؛ والخاصيَّة السياسية، وهي صورة النظام الإسلامي المطلوب.

 

أما بالنسبة إلى الخاصِيَّة الأولى، وعلى الرغم من وجود وحدة نسبية في المعتقدات الأصلية والفرعية بين السُنَّة والشيعة، كمذهبين أساسيين في الإسلام، إلا أن هناك مذاهب أخرى لا ترى ما يراه المذهبان الأساسيان في بعض جوانب العقيدة الإسلامية. ولأن معظم جوانب العقيدة -بمستواها الروحي الماورائي- تدخل في دائرة التفسير والتأويل الميتافيزيقي، فهي ليست بمستوى التأثير الذي يخلق مصاعب مستحيلة على الحل، باستثناء ما له علاقة مباشرة مع الجانب السياسي منه، وكثيراً ما استُخدِم الجانب العقيدي / الديني من أجل خدمة السياسي.

 

فإذا ما انتقلنا إلى الخاصِيَّة الثانية، فهناك تبدأ المصاعب الحقيقية.

 

- ففي الجانب الإنساني من العقيدة الإسلامية، لا بد من التساؤل: هل يُمكن إقامة دولة إسلامية تستطيع أن تجمع في نظام سياسي واحد مختلف القوميات والأجناس ؟ وفي هذه الحالة، إلى أية هوية يجب أن ينتسب الخليفة؟ هل يتم التمسك بشرط قرشيته -أي عروبته- بحدِّه الأدنى، كما يعتقد أو يشترط القطاع الأكبر من المسلمين العرب؟ وهل يرضى المسلمون من غير العرب بهذا الشرط وهم القائلون بضرورة عالمية الإسلام على قاعدة الحديث النبوي «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»؟

 

- أما على المستوى المذهبي، بين السُنَّة والشيعة، وإذا ارتضى المسلمون السُنَّة، مثلاً، أن يتَّفقوا على إمارة الاستيلاء، كما قال بها الماوردي؛ فهل  يوافق الشيعة على بناء دولة إسلامية في أثناء فترة غيبة الإمام المهدي المُنْتَظَر؟

 

- أما على المستوى العام، وفيما يختصُّ بطبيعة نظام الحكم في الإسلام، فهل هناك نصوص واضحة أو عُرف موحَّد عند المسلمين يفهمون على أساسها طبيعة وشروط هذا النظام؟ إننا نعتقد أن هذه النصوص غير موجودة. ونستدلُّ على صعوبة الاتفاق حول رؤية مُوَحَّدَة حول طبيعة النظام السياسي بالعودة إلى تاريخ نشأة هذه المشكلة ومراحل تطورها منذ وفاة الرسول حتى الآن. فتاريخها احتلَّ الجزء الأكبر من التاريخ العربي والإسلامي ولا يزال، وهو مليء بالصراعات والتناقضات.

إن الإشكالية تبدو أقلَّ صعوبة، إذا نظرنا إليها من زاوية تيارين اثنين فقط لكل تيار سلطة مركزية؛ لكن الواقع هو غير ذلك؛ فلكل تيار/ مذهب تفريعاته وفرقه، ولكل فرقة فرعية رؤيتها الخاصة بها. أَلا تكفينا مثلاً على ذلك الإشارة إلى تعددية الفرق الشيعية وتعددية المذاهب السُنِّيَّة، ولكل فرقة فيها نظرة تناقض النظرة الأخرى حول الاعتقاد بشروط الإمامة أو الخلافة أو طبيعة النظام السياسي؟

 

فالإشكالية تصبح صعبة أكثر كلما توغلنا أبعد في استعراض عشرات الفرق ومواقفها. فشرط الإلزام المركزي غير متوفِّرٍ في ظل غياب المركزية المرجعية الإسلامية أولاً، ومن تعددية الفروع تنشأ صعوبة التزام المتمذهبين إلا بمركزهم الفرعي ثانياً، وتطول مسافة الافتراق بين  هذه الفروع لأنها تفرِّخ فرقاً  أو حتى حلقات لها مراكزها المستقلة ثالثاً.

 

فإذا تنادى المسلمون واتفقوا على شعار الدولة الإسلامية، فلأي مذهب من المذاهب تكون السلطة المركزية؟ فلو اتفق المسلمون فرضاً على أن تكون المرجعية المركزية للمسلمين الشيعة، فسوف تتولَّد إشكالية التسليم بها  إلى إحدى الفرق الشيعية العديدة، فمن تكون هذه الفرقة؟ وقياساً عليه تتولَّد الإشكاليات ذاتها فيما لو صحَّ الافتراض بالتسليم إلى السُنَّة.

 

ليست هذه الإشكاليات وليدة تاريخنا المعاصر، لكنها هي ذاتها طبعت التاريخ الإسلامي في مختلف عصوره. وبالعودة إلى مصادره، تكون المحصلة العامة هي أنه كان تاريخ الصراع بين المذاهب والفرق.

 

5 - التفتيت على مستوى الذات الجزئيـة في داخل الدائـرة القوميـة العربيـة

 

على امتداد قرن ونيِّف من تاريخنا العربي، اتَّجهت الأنظار، وتبحَّرت العقول، وانشدَّت العواطف، وتأسَّس عدد من البنى الوحدوية، ودُبِّجَت كثير من المقالات والدراسات والأبحاث، وتمحورت الاتجاهات السياسية، وشُيِّدَت الإذاعات، وتكاثرت الصحف، وتأسَّست الأحزاب والحركات، وسُيِّرَت التظاهرات، واستشهدت أرواح زكية… كل ذلك وغيره من المظاهر والأفعال تمحورت حول القومية العربية بأفقيها: الأيديولوجي النظري، والوحدوي السياسي.

 

في المقابل تكاثرت الصيغ المعادية، وتعدَّدت وسائل المواجهة. فالصيغ والوسائل اتخذت أشكالاً ووجوهاً متعدِّدة: منها الإعلامي، ومنها السياسي والفكري والعسكري وغيرها…كان يجمع القوى المعادية، ولا يزال، حلف من الاستعماريين قديمهم وحديثهم، مع رجعيي الداخل والرأسماليين والقطريين والقوميين المرتدين…

 

عاشت الأمة، وما زالت، حالة صراع دائم ومستمر مع الاستعمار، فكانت أهداف الصراع ثابتة، ووسائله متعدِّدة. وأشدُّ ما كان يؤلم هنا هو حصان  طروادة، أي يهوذا الإسخريوطي، الذي كان ولا يزال قابعاً في زوايا الدار إن لم يكن على أبوابها.

 

فمنذ ابتدأت المواجهة بين الداخل الطامح للتحرر وبين الخارج الطامع في السيطرة، انقسم الداخل إلى محورين: المحور المتحالف مع الخارج، والمحور المتحالف مع الذات.

 

إذا كان تصنيف الخارج / الآخر والمحور المتحالف معه يأتي في دائرة العداء للأمة، فإن الحكم الذي يصدر بحق هذا المحور هو أشدُّ وأقسى لاعتبارين:

 

- أولهما، أنه يرقى إلى مستوى الخيانة للرابطة القومية / الوطنية، فهو مساعد للخارج في نهب حقوق أبناء وطنه.

- ثانيهما، أنه يقتات الفتات من موارد بلاده على موائد الخارج، بينما كان الأحرى به أن يقتات منها كحق له من حقوقه كمواطن.

 

ولأن بلاده تعمل لمنع الخارج من سلب مواردها والسيطرة على قرارها الوطني/ القومي، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية فهي بحاجة لإمكانيات جميع أبنائها، وبدلاً من أن يكون هذا المحور في الصف الطبيعي، فإنه يقف في صف السارق الخارجي، وهو موقف أقل ما يُمكن وصفه بأنه تفتيت لجهود وإمكانيات بلاده في التحرر.

 

أما المحور المتحالف مع الذات، فهو الذي نودُّ أن نقف عنده بشكل أساسي، لأنه يشكِّل النواة الضرورية واللبنة القوية في بناء أسس الحركة باتجاه التحرير.

من الطبيعي في حياة الأمم النامية أن تُولَد نخبة واعية من رحم المعاناة، تحاول أن تستشرف الآفاق النظرية لمشكل أمتها الذاتية من جهة، وأن تعمل على تكثيف دائرتها المعرفية عامودياً وأفقياً في داخل المجتمع الذي هو مجتمعها من جهة أخرى، وأن تبدأ في بناء وتنظيم مؤسسات نضالية تنتقل بالنظرية إلى مجال التطبيق من جهة ثالثة.

 

ومن الطبيعي، أيضاً، أن تتعدَّد الرؤى النظرية والوسائل التنظيمية والمؤسسات النضالية في الوسط النخبوي أو الشعبوي العام.

لكن النتائج المنطقيـة، ولحاجات موضوعية في معارك التحرُّر، تتطلَّب من الدوائر التعددية في المعرفة والتنظيم والنضال أن تصُبَّ في الدائرة الوحدوية كمفهوم ضروري تنتظم  في داخلها كل الإمكانيات المتاحة- مما يكسبها زخماً وقوَّةً في معاركها التحررية. وهي ميزة لا توفِّرها التعدديات، أو المرجعيات المتعدِّدَة، مهما سمت آفاقها الفكرية والتنظيمية والنضالية،؛ فإن التعددية كنمهج للتنوع والإغناء- ليست مسألة مطلوبة لذاتها، وإنما تكتسب ضرورتها القصوى بالمدى الذي تحاول فيه أن تقترب باتجاه الوحدة المعرفية والتنظيمية والنضالية.

 

في داخل هذا السياق، تأتي التعددية كمرحلة من مراحل تطور المجتمع لتكوين مرجعيته  الوحدوية. وقد عرفت الحركة القومية العربية، حتى الآن، تنوعاً وتعددية في المسارات الثلاثة: المعرفة والتنظيم والنضال، ولأجلها تأسَّسَت حركات وأحزاب واتجاهات، ونما على حبِّها سياسيون و مفكِّرون، وتنامت في وجدان أوسع الجماهير العربية. كان بعضها ينجذب باتجاه القطرية، ويتَّجه بعضها الآخر أممياً، والبعض الثالث جذبته الوحدة القومية، و كان ما يجمعها كلها وحدة الاتجاه نحو التحرر، وما يُفرِّقها  كان الخلاف حول المدى الذي يُخطِّط له كل منها للوصول إليه.

 

في خلال المسيرة الطويلة، منذ بدء الصحوة القومية / الوطنية، كانت التيارات الثلاثة: القطري والقومي والأممي، تتصارع وتتفاعل. ففي صراعها شهدت محطات كثيرة من التنافس التعصبي؛ فكان بعضها يستنزف البعض الآخر، وفي تفاعلها أغنت مساراتها في المعرفة والتنظيم والنضال. وهي إن لم تُوقِف المسيرة، إلا أنها كانت من العوائق التي تُؤخِّر الوصول إلى الهدف.

 

لكننا، وإن نظرنا إلى هذه التجربة التعددية بالمنظار الإيجابي، وكي لا نُتَّهَم بأننا نُغْرِق النفس في أوهام التفاؤل التبريري، فإن قياسنا لمسافات التغيير، وهو منهج اخترناه في التحليل، يتِمُّ بمنظار الانصهار والتفاعل بين  الاتجاهات المعرفية الجديدة وبين الوسط الاجتماعي الذي تستهدفه هذه الاتجاهات. فبطء الخطوات أو تسارعها باتجاه التغيير مرهون بما تحمله هذه الاتجاهات من وسائل التأثير والإقناع من جهة، وبإمكانيات تقبُّلِها واستقبالها من الوسط الاجتماعي المُوَجَّهة إليه من جهة أخرى. فلهذا السبب لا تُقاس عملية التغيير بمقياس الزمن، وإنما بمقياس عملية التفاعل والانصهار.

 

وإن نظرْنا إلى هذه التجربة، بالمنظار السلبي، فإنها تحمل بلا شك عوامل سلبية يأتي في مقدِّمتها عامل التفتيت الذاتي الذي تعاني منه أطراف وفصائل المحور المتحالف مع الذات. وإن كنا نعتقد بأنها ليست إلاَّ مرحلة تُعبِّد الطريق أمام مرحلة التوَحُّد والتوحيد بدلاً من التمزُّق و التفتيت. فقد آن لهذه المرحلة أن تنتهي؛ ويُعزِّز اعتقادنا بذلك ما نسمع به ونشاهده من محاولات مُتَكرِّرَة ومتواصلة ومنتشرة في أكثر من مكان في الوطن العربي، من قِبَلِ هيئات وحركات وأحزاب ومؤتمرات ودراسات تصدر عن مفكرين وسياسيين. وإن ما نراه من هذه المظاهر يدفعنا إلى الاعتقاد بأنها خطوة جادَّة تُؤرِّخ لنهاية مرحلة التعددية التعصبية؛ وهي تُعِدُّ لبداية مرحلة الوحدة في مفاهيم المعرفة، السياسية والأيديولوجية، سوف تنهي معها مرحلة التفتيت لتبدأ محاولات التوحيد المُنَظَّم.

 

أَوَ ليس ما يراه المراقب المتابع لحركة بعض التيارات القطرية التي اخترقت سقف قطريتها لتنفتح على الآفاق القومية من جهة، ولحركة بعض التيارات الأممية  التي عادت من  رحاب أمميتها إلى قاعدتها القومية من جهة أخرى، دلالةً على جدِّيَة التقارب نحو بناء مرجعية معرفية مُوَحَّدَة ؟

 

وختاماً، فإننا نرى ضرورة تصحيح قاعدة الهرم في تشخيص الداء ووصف الدواء. ولهذا نرى أن التفَتُّت، كمرض من أمراضنا الكبرى على الصعيد الشامل والأصعدة الجزئية، ليس تهمة تُوَجَّه إلى الآخر / الخصم فحسب، بل هو مسؤولية ذاتية في الأساس  أيضاً. فإذا لم تتحمَّل الذات الإسلامية والقومية مسؤولية الخلاص من هذه الآفة، فإن الآخر جاهز حتماً- للاستفادة منه في كل لحظة ليعمل على تعميقه وتجذيره.

 

***

 

 

(*) نلتمس العذر من المفكرين العرب الذين يخوضون غمار المواجهة ضد السلفية. فاعتذارنا مطروح لأن محاولاتهم جدِّيَة و قيِّمَة. ولكنها لم تصل بعد إلى أن تشكِّل النسق الثقافي العربي على المستوى الأفقي، لأنه ساعتئذٍ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة تلغي ما نقوله في مقالنا هذا.

 

 





الثلاثاء٠٤ شعبان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٥ / تمـــوز / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة