شبكة ذي قار
عـاجـل










دعونا ننظر إلى الأنانية مثلاً .. إنها بالنسبة إلى إنسان يعيش في مجتمع تتضمن حب الذات، ولكنها تحاول أن تضفي السمعة الطيبة بحيث أن المنفعة الشخصية الصرفة تختبئ خلفها حتى أحياناً يصعب تحديدها، وخاصة حين يدخل فيها شيئاً من المصلحة العامة، فيصعب عزلها أو الفصل بين المصلحتين، ولكن في نهاية المطاف وفي موقف معين تتكشف المصلحة الأنانية، التي تخالف المبدئية الأخلاقية للجمع الوطني ، لأن الأنا الشخصية المغلفة ترمي إلى تحقيق غاية (فردية)، فيما ترمي الأنا الجمعية المنفتحة إلى تحقيق غايات ليست فردية ضيقة، إنما غايات سامية نبيلة ترتبط بالمجتمع ومستقبله !!

 

الأنا الفردية المتضخمة، والأنا الفردية المنغلقة لا تخدم التحول الثوري، إنما تكون معرقلة له ولمسيرته ومفسدة لأهدافه في النهاية . فحين يضحي المناضل بنفسه في سبيل الأهداف السامية فهو يطلق رصاصة ثورية في أناه الفردية من أجل هدف أسمى وأنبل وهو الشعب والوطن والأمة .. وعلى أساس هذا الفهم فلا مجال للأنا الفردية المتضخمة والمنغلقة في أن تجد لها مكاناً طبيعياً لحركتها وسط الجمع المنظم السائر صوب الثورة ، لأن ذلك يقتضي الثورة على الذات الفردية، والتي تسمى بـ(الانقلابية) على الذات ومن ثم (الانقلابية) على الواقع الفاسد المريض المجزأ .!!

 

فالثوري يأخذ مادة الأخلاق من (منظومة) القيم الاجتماعية التي يؤمن فيها المجتمع فيضع مبادئه وأهدافه على وفقها، وعلى أساس أنها ليست منفصلة عنها، إنما هي المحرك الأساس الذي يعطي معناً قيمياً (أخلاقياً) لتلك الحركة، ولتلك المبادئ في صيغة إلزام يحكم الفرد والمجموع في آن واحد، لأن الإلزام لم يهبط من أعلى إلى تحت كما يضن، إنما يصعد من أعماق القيم الاجتماعية، التي تشكل القاعدة الأساسية للمبادئ التي تحركها الأخلاق في السلوك والتصرف والفعل والكلمة والموقف، لا أن يختبئ خلفها بحيث تبدو المبادئ في حالة تجريد محض تعوزها روح الأخلاق، التي ينبغي أن تصان من حركة الفعل الأنانية الفردية .. فما هو إلزامي محض ليس مصدره العقل، فالعقل لا يقلل من الإلزام إلا ما فيه من تردد، والدفع نحو الإذعان للضرورة، التي يفرضها واقع الحركة الثورية إلى أمام، وتثبيت الشعور الثوري بأن من المصلحة الذاتية العمل من أجل الجمع الثوري العام . وهكذا يؤسس الإلزام الذي هو في حقيقته موجود في منظومة القيم الاجتماعية، وإن ما تأسس من التزام يعد امتداداً له . فـ(المجتمعات الحيوانية تتحكم فيها الغريزة بالمطلق .. والمجتمعات الإنسانية يتحكم فيها العقل والغريزة معاً )، وهنا يكمن الصراع والتناقض بين العقل والغريزة .!!

 

وكما تعمل القوى الأخلاقية، التي تحمل المبادئ، تعمل القوى الاأخلاقية التي لا تحمل شيئاً سوى التقويض والتهديم والتفرد المتمحور حول الذات .. إن ثنائية الصراع تستمر ولها مغزى التثوير وليس التسكين، لأن قاعدة العام هي الأكثر قدرة على الثبات من موقع الخاص، الذي يستهلك ذاته باستثناءات التمحور الأناني الذي يسوق الإرادة الذاتية بالضد من الإرادة الجمعية، التي تحمل مسؤولية تطبيق الإلزام على أساس المبادئ والأخلاق معاً . وهنا .. لا مجال للحديث عن تسويفات التغطية على الأساس الذي يحكم طبيعة العلاقة القائمة بين المبادئ والأخلاق في الإطار النظري وعند الاحتكاك بالواقع الملموس المتحرك !!


إن ما نقوله ليس تصوراً شكلياً أو ميتافيزيقياً يقره العقل والمنطق ويخالفه الواقع، فهو يعبر عن متلازمة كائنة صيرورتها الفعل الثوري الذي يمثل الإرادة الجمعية، وهي إرادة المجتمع أو الجماهير .. فالتثقيف المبدئي يتوجب أن يرافقه تثقيفاً أخلاقياً يستنبط من عمق التراث الحضاري للمجتمع العربي الإسلامي، ويتجه صوب العقل لكي يترسخ في قعر الذاكرة النفسية ليحدد الواجبات ويربطها بالمبادئ ويستنتج منها التطبيقات تفصيلاً واقعياً محضاً .. لأن الأخلاقية لا تكون كاملة من غير تفكير وتحليل ومناقشة مع الآخرين ومع الذات .


فالتأثير في الإرادة من أجل الالتزام المبدئي- الأخلاقي، لها طريقتان، الأولى : وهي الترويض والتذكير بأعلى معاني هذه الطريقة. والثانية : وهي التشخيص والتحديد والتحجيم والإقصاء بأعلى معاني التراتيبية، وحسب مقتضيات الضرورة الثورية، التي تستوجب إحكام العلاقة الموضوعية بين الفعل والأخلاق كنظام .


فكلما كان فعل الإنسان فجاً كان مجاله (المادي) أوسع على حساب مجاله (الروحي والأخلاقي) .. فالتجربة تقول عن الفعل الفج خطأً ، والفكر يقول عن ضمور الأخلاق مستحيل، والواقع موغل في تعلقه بأذيال الخطأ والمستحيل .. والأمر لن يقف عند هذا الحد ، فقد رأيناه كيف يكون التصرف الفج نافياً للأخلاق، إذ يتعلم الإنسان لكي يدرك المبادئ، ولكي يدرك المبتدئ ويعمل من أجلها عليه أن يقوي الحاضنة القادرة على الوصول إلى الهدف، ولا يجب أن تبرر الوسيلة الغاية ما دام الشعب العربي ليس أقل تحضراً أو لا يعرف القيم أو أنه يمر في دور النشوء والارتقاء.. الشعب العربي سبق غيره في المبادئ والأخلاق والقيم والحضارة، فليس في قاموسه شيء يبرر الوسيلة بسلوك لا أخلاقي .. لأن أزمنة الحضارات ليست كلها متشابهة سواء في عصر الدويلات الإيطالية والألمانية وعصر نشوء الحضارة العربية الإسلامية . وعصر البعث هو عصر انبعاث الحضارة العربية والإسلامية لينفض عنه غبار السنين الذي غطى وبعثر عناصر قوتها، وشعبنا العربي كما نراه لا يعرف (التكفير) ، لأن في قاموسه (الاجتهاد) و (الحوار) .. وهكذا نشأت الفرق الإسلامية جميعها في إطار الاجتهاد في الرأي ولا خلاف على المبدأ . وما ينسحب على المجموع ينسحب على الفرد العربي المسلم الملتزم، الذي لا يجب أن ينساق وراء (التكفير)، لأن التكفير إسقاط للحوار الذي بدونه تنسحب الأمور إلى همجية القرون السحيقة التي يراد بها التفرد والتسلط حتى لو كان ذلك عن طريق الدم !!


فالدين الكنسي كان في العصور الغابرة (يُكَفِرْ) ويحرق من يخالفه في الرأي ويعتقد بأنه على حق ويمتلك الحقيقة المطلقة، ثم أتضح في مسيرة الفكر إن ما كان ينظر إليه كمطلق لم يكن كذلك، وما كان ينظر إليه كحقيقة خاضعة لمنطق العقل لم تكن كذلك أيضاً مثل الاعتقاد بأن الأرض مسطحة !!


فالعقل الإنساني قد تطور، وإن المنطق الطبيعي لم يكن كما هو الآن، وإن للعقلية الثورية بنياناً أساسياً مختلفاً عن بنيان العقليات السائدة ، والعمل الثوري يشترط طريقه في تهديم الفاسد وبناء  الجديد المتطور، وإن عملية الهدم والبناء تشترط هي الأخرى عقليات ناضجة وقادرة على الاستيعاب وقادرة على أن تضع الإمكانات في نصابها وتحقق منهجية التوازن الموضوعي، دون أن تقفز على الظروف والمعطيات أو ترضخ للأمر الواقع شديد التعقيد، ودون أن تضخم أو تقزم وهي عازمة على الهدم والبناء .. والحقيقة أن بنية الفكر تبقى هي هي، ولكن التجربة التي أكسبتها الأجيال الثورية المتعاقبة وأودعتها المحيط الجماهيري، ثم عادت الجماهير تردها إلى كل مناضل، هذه التجربة هي السبب في اختلاف طبيعة التفكير بين جيل التجربة والجيل الراهن الذي يعيش ظروفاً فرضتها الإمبريالية وأعداء العراق والأمة ، لأن التصورات في أساسياتها هي ليست من صنع العقول الفردية بل من صنع الفكر الجمعي، إذ لولا الأخير لما نضج فكر القائد في صيرورة العلاقة الموضوعية بين الثقافة الذاتية والثقافة العامة .. ومن هذه الزاوية تلمس العلاقة الجدلية بين الثقافتين في التصور والفكر والإبداع .


إن إلزام الأخلاق ضرورة، مصحوبة بعقل وحرية، ولأن طبيعة الجماهير المناضلة أرادت أن يكون القائد في موقعه، قادراً على الفعل الصحيح والمثمر لا يفرط فيه بين المبادئ والأخلاق، فأن المناضل في هذا المنحى، لا مجال لديه للاختيار إلا أن يكون أخلاقياً ومبدئياً في آن واحد !!


تمت ..

 

 





الثلاثاء٢٣ رمضـان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٣ / أب / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة