شبكة ذي قار
عـاجـل










نستميحكُم عذراً يا من فرضتم زعامتكم علينا قسراً، فلقد قحَلت الكلمات كي نرحب بكم في بغدادنا. أعذرونا لاننا لن نقول كلمة (أهلا) تقية أو مجاملة، وتعودت الكلمات أن تخرج من قلوبنا قبل شفاهنا. جَلدنا أنفسنا الف مرة وحاولنا تقصير رقابنا كي تخرج كلمة ترحيب واحدة بكم، لكن قلوبنا وعقولنا أبت أن تطاوعنا على فعل ذلك.


ثم توسلنا بالدم أن لايتحول الى ماء، وأن لايتجمد في عروقنا تجاهكم وأنتم بيننا، لكن دماءنا صرخت فينا بانكم من ساهمتم في سفكها منذ أكثر من عقدين من الزمن، وذكّرتنا بوجع سنوات الحصار التي كنتم فاعلين فيها على أكمل وجه، غير آبهين بأطفالنا الذين ماتوا بحسرة علبة حليب أو قطعة سكر. ولا بشيوخنا الذين قضوا بسبب عدم توفر الدواء وهم في أرذل العمر، ولا بخبزنا الذي كان معجونا بالتراب ومسحوق نشارة الخشب وبقايا سعف النخيل، ولا بالاهانات التي كنتم تستقبلوننا بها في منافذ حدودكم وفي أقسام مخابراتكم، عندما كنا نأتي اليكم باحثين عن عمل أو كسرة خبز، بينما كنتم تجتهدون كي تصنعون منا عُملاء الى هذه الدولة الغربية أو تلك، وتساوموننا على أفواه أطفالنا كي نخترع لكم معلومات حتى لو كانت كاذبة عن فرية أسلحة الدمار الشامل، كي تستدرون بها رضى الولايات المتحدة وحلفائها.


ثم جاءت لحظة الغزو فكنتم راس الحربة فيها وبجدارة كعهدنا بكم في سنين الحصار. بعضكم مارس دور أصحاب الفيل فأزاح مُبكرا السواتر التي كان يضعها على الحدود مع بلدنا، كي يُعبّد طريق الغزاة الى ديار أهله. وبعضكم كان يبتسم بوجه الطائرات والصواريخ التي كانت تنطلق لتدك بيوتنا على رؤسنا من القواعد الاجنبية في أرضه، وهو الذي أتانا مُعتذرا قبل الغزو بأنه لن يستطيع أن يمنع الشر عنا لان الارض ليست مُلكه. وثالث كان يُقسم بأنه لن يحلق ذقنه الا بعد أن تسقط بغداد، وينتهك الامريكان عرض شقيقاته في طول البلاد وعرضها. وآخرون منكم كُثر ممن حلموا بالمساعدات والعطايا الامريكية التي سينالونها أن وضعوا بصمة لهم في هذه الملحمة الفاسدة، في لحظة غياب القلوب والعقول والضمائر، وأنحدار قيم (العقال والشارب) ورمزيتهما في النخوة العربية. فأصطبغت أرض الرافدين بدماء أبنائها الشرفاء الذائدين عن حياض الامة والوطن، بينما كنتم منشغلين بزرع الاسلاك الشائكة على طول الحدود معنا كي لا يستجير مقاوم منا بشقيق له في ممالككم وجمهورياتكم، أو يأتي الينا شقيق من طرفكم أخذته الغيرة على شرف الارض والحرائر كي يساندنا في جهادنا، وكنتم ومازلتم تُصادرون كل قرش يتبرع به مواطن بسيط لنا كي نواصل الجهاد والمقاومة، بل تطرفتم في ذلك حتى حاربتم كل صوت رجل دين شريف يفتي بالجهاد معنا، وأصطف الكثير من الشرفاء أمام محاكمكم لانهم حرّضوا أو شاركوا في الجهاد على أرضنا، بينما كنتم أفغانيين أكثر من الافغان عندما جيّشتُم المجاهدين لقتال الروس فيها، وحشّدتم رجال الدين كي يفتوا بالجهاد على أرضها، وبذلتم المليارات في التسليح والتدريب والاعلام الداعم لتلك المعركة، ليس لانكم تُقاة ورعُون وتدافعون عن حمى الاسلام، بل لان النموذج المطلوب تحقيقه كان أمريكيا، ومن المنطقي جدا أن تُشاركون في ذبح العراق لان النموذج المطلوب صنعه أمريكي أيضا. ولانكم عرب جنسية وأمريكان الهوى والقضية، وولائكم محسُوم لغيرنا ليس كما ظهر في قضيتنا وحسب، بل أثبتم لنا ذلك على مر عقود من الزمن منذ نكبة فلسطين وحتى اليوم وفي كل الساحات العربية، لذلك لم تتركوا لنا بعد الان خيارا واحدا نصدقكم فيه ونكذّب أنفسنا، ونقول لكم (أهلا).


لقد تحزّمنا لنجدتكم الف مرة، وتحزّمتم علينا الف الف مرة. قولوا لنا من منكم لم نهُبَ لمساعدته عندما مر عليه طارئ أو طلب منا مُساعدة؟ كُنا الطليعة في كل حروب الامة في فلسطين والجزائر ولبنان والاردن وسوريا ومصر، ومازالت مقابر شهدائنا شاخصة في أقطاركم، لاننا كنا نرضعُ واجب الدفاع عن كل شبر من ممالككم وأماراتكم وجمهورياتكم مع حليب أمهاتنا صغارا، ويزرعونها في ضمائرنا وقلوبنا وعقولنا ونحن فتيان وكبار.


وفي حملات الاعمار كُنا من الاوائل في ذلك أيضا، حتى بات لنا في كل قطر عربي مَعلَم يدل على واجبنا من مدارس ومطارات ومحطات أذاعات وتلفزة بل أن سيارات المواكب الرسمية والطائرات الرئاسية لبعضكم، كُنا نحن المتبرعين بها لانكم كنتم في بداية النشوء والتكون كدول وليس لديكم الامكانات المادية. أما مدارسنا وجامعاتنا فكنتم فيها أنتم المُفضلين علينا، وتشهد الاكاديميات العسكرية بأن البعض منكم قد درس فيها وتخرج. وعندما مررنا بحالة رخاء في سبعينيات القرن الماضي، أبينا الا أن تشاركوننا في بحبوحة عيشنا، فظهرت لدينا أحياء كاملة في كل العراق، مصرية وتونسية ويمانية وموريتانية وسودانية وصومالية ومغربية وغيرها من الجنسيات العربية. كان العرب أهل دار بيننا وكنا ضيوفهم. بل لم نتخل عن واجبنا حتى في أحلك ظروف الحصار، عندما تقرر أن تحصل كل عائلة شهيد فلسطيني على مبلغ 25 الف دولار، والتي كانت ثروة كبيرة بالنسبة لنا آنذاك، وعندما كان بعضنا يُهمهم مُعترضا على ذلك لاننا أولى بها، كان أهلنا يلجمون أفواهنا قائلين بأن دم الشهداء أغلى من جوع ومرض أطفالنا. والغريب أن أول من وطأت قدمه أرض العراق في ظل الاحتلال كانت هي قيادة السلطة الفلسطينية، حاملين التهنئة للسلطة العراقية الجديدة. أن الشعب العربي في العراق لا يحتفظ بجرد حساب لما قدمه للامة، لانه شعب كريم مارس واجبه الاخلاقي كشقيق كبير وغني، ولابد أن ينهض بمسؤوليته تجاه أشقائه الاخرين، وأن كل ماقدمه كان بلا مِنّة على أحد، وليس وارد في حساباته أسترجاع ما قدّم، وهو أول من دعى وفعل في جعل موارد الامة المالية والطبيعية في خدمة الجميع، للقضاء على الفقر في بعض اقطارها الذي يواجهه تخمة في الاقطار الاخرى.


لكن التساؤل الملح اليوم هل من الانصاف أن يُقابل بهذا الجحود والظلم والتلاعب بمأساته وأحزانه؟ وهل من الجائز أن تضعوا أيديكم بأيدي قتلته وتُعانقوا مغتصبي رجاله ونسائه؟ هل هو عقاب لابد أن يقع علينا فقط لان لكم ثارات شخصية مع حُكّامنا السابقين؟ نعم لقد أخطأوا وأصابوا، وأخطأتم أنتم وأصبتم أيضا، لكن هل قدر العروبة هو أن تُذبح بحد الخطأ الذي يحصل من قبل هذا الحاكم أو ذاك؟ اليس الامة هي الباقية وكلكم الى فناء؟ فعلامكم تذهبون الى كل مديات الحقد الاعمى وتنسون مدى العروبة الرحب والدم الواحد؟ كُنا نُقتل وكُنتم تستقبلون المُجرم بوش بالاحضان. كُنا نُغتصب رجالا ونساءا وكنتم ترقصون معه بالسيوف وتهدون اليه الجواهر والصقور في أقطاركم. راهنّا على صور عذاباتنا كي تُرجع اليكم البصيرة، لكننا فشلنا في رهاننا. فليست قبور الفراعنة وحدها تحوي أجسادا محنطة. وها أنتم اليوم تأتون الى بغداد بحماية مئة طائرة ومئة الف جندي، وغرفة عمليات عراقية أمريكية لتبادل المعلومات الاستخباراتية، ومستشفيات طوارئ متنقلة بجانب قاعة أجتماعكم، والمدينة باتت مهجورة بسبب قطع الجسور والشوارع وغلق الاجواء، والناس قد لزموا دورهم بسبب الاجازة الاجبارية والخوف مما قد يحصل، ومع ذلك سوف تبقى فرائصكم ترتعد حتى وقت المغادرة.


فهل في كل ذلك مدعاة فخر لكم أنكم حضرتم المؤتمر؟ اليس هذا دليل واضح على أنكم ومضيّفيكُم لاتحوزون على أية نسبة من التأييد والمصداقية والشعبية، ولاتمثلون شيئا من أرادة الناس وأنكم مجرد كوابيس ترقدون على صدور أمتنا وشعبنا؟


نعم، نعترف بأن فتياننا قد جادلونا في عروبتنا حينما كنا نزرع فيهم قيمها، لانهم نظروا الى أفعالكم التي لاتمت الى العروبة بصلة، لكنهم اليوم عرفوا أنكم طارئون وشعبنا العربي باقٍ في كل أقطاره، وهو الذي أحتضن مُهجّرينا، وقاتل معنا الامريكان الغزاة ومازالت مقبرة الاعظمية تحوي رفاتهم، وهو دليل على عروبتنا التي لن تموت في ضمائرنا. لقد بكيتم على أطلال العراق قبل فترة وجيزة في مؤتمر الامن في المنامة، وقلنا سوف يتمخض عن ذلك موقف جسور يُعيد العراق الى الامة، لكنكم خرجتم علينا بفرية المشاركة في مؤتمر القمة في بغداد على أنه الطريق الوحيد لعودة العراق للامة. ومتى كانت مؤتمراتكم قد أعادت شيئا الى الامة، حتى تعيدونها اليوم في العراق الذي مازالت ظلال الاحتلال جاثمة على صدره، وقراره مجرد صدى لقرارات الاخرين، وسلطاته مجرد دُمى لهذا وذاك؟ بل أين هي صفة العروبة التي يحملها ساسة هذا البلد، وهم يُعرّفّون أنفسهم بصفاتهم المذهبية قبل الوطنية والقومية، ويجبروننا أن نكون شيعة وسنة وكرد ومسيحيين وصابئة ومسلمين؟ فأمشوا على عجلٍ من بغداد العروبة، لانكم قضضتم مضاجع أبا جعفر المنصور وهارون الرشيد برقصكم على جراحنا، الذي لن يبعدنا عن عروبتنا لانكم ليس من يُمثلها، وتذكّروا أن تحت كل شبر مما تمشون عليه يرقد شهيد، بعدما شُق علينا أن نجد مدفنا له في ايام التصدي للغزاة، حتى جعلنا من حدائق شوارعنا وأرصفتها مدافن لهم كي يبقوا بيننا. وأنظروا الى كل جدار وجذع شجرة ستجدون عليه بقية أثار دم مجاهد صنديد، لم يكن يملك أغلى من الدم كي يدافع به عن الارض التي تآمرتم على أغتصابها. وتيقّنوا بأن كل ذرة هواء تستنشقونها فيها أهة أُم ثكلى بأبنها، الذي خرج ولم يعد اليها بعد أن خطفته المليشيات، وشيخ محدودب الظهر يتأبط كفن حفيده يوميا ويقف في باب الطب العدلي ظنا منه أن جثته قد تأتي ولا تأتي. وطفل يصرخ باكيا وقد تعلق بأطراف قميص أبيه الذي سحبوه من فراشه بعد منتصف الليل، كي لا يذهب الى المجهول. أما صرير المثاقب الكهربائية في أجساد أشقائكم وأبنائكم في السجون السرية والعلنية، وصرخات أغتصاب الشرف الرفيع لبناتكم وشقيقاتكم العراقيات في تلك السجون، فلن يسمعها الا المعتصم وكُل صاحب ضمير.


صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الاربعاء٠٥ جمادي الاول ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٨ / أذار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة