شبكة ذي قار
عـاجـل










 

اغتيال العراق في التاسع من أبريل 2003 ووقوعه بين فكي العدوانية الأمريكية والأطماع الإيرانية ، فجيعة قد توازي في نتائجها المأساوية النهاية الدرامية للوجود العربي في الأندلس، يتحمل مسؤولية القسط الأكبر من نتائجها الكارثية ذوو القربى، عندما تخلى البيت العربي الرسمي عن واجبه في حماية الأمن القومي، وتهاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، فالترتيبات التي تجري الآن وجرت من قبل بين مؤيدي ولاية الفقيه ووكلائها، تسعى بإيقاع متتال إلى مسخ التاريخ والهوية، والتلاعب بجغرافية الأرض، واختزال التعددية الفقهية، بمذهبية أحادية، هي الأقرب إلى الأيديولوجية السياسية منها إلى مدرسة فقه التشيع العربي الأصيل، وهو ما يعمل له ويتعهد به حزب الدعوة والمنظمات الحليفة، عن طريق انتزاع قسمات البلد وإعادة تشكيل هويته حسب حاكمية ولاية الفقيه المطلقة، التي ينبغي أن تبتلع أقطار العرب والمسلمين كافة.

 

الولاية تلتهم العراق ويعمد وكلاء الولاية في الحكومة الخامسة إلى أن يجعلوا من عراق العرب، عراق ( العجم ) بوصفه حديقة من حدائق أصفهان، ومن يجد غضاضة في هذا الكلام عليه فقط أن يراجع المواد التعليمية: ( الدين والتربية الوطنية والتاريخ والجغرافية ) ، ففي إجراء غير مسبوق أقدم وزير التربية والتعليم خضير الخزاعي في العام 2010 على حذف تسمية ( الخليج العربي ) من المناهج الدراسية للمراحل واستبدالها بتسمية ( الخليج الفارسي ) مع تغيير أساس للتاريخ والجغرافية يتماشى مع الإستراتيجية الإيرانية وسياستها التوسعية، وتشير المعلومات إلى أن الخزاعي ألزم مديرية المناهج والكتب طباعة المواد التعليمية العراقية في المطابع الإيرانية؛ إذ يشرف إيرانيون متخصصون على تحريف المناهج الدراسية العراقية على وفق الرؤية الإيرانية.  والمعروف أن الخزاعي هذا يحمل شهادة دكتوراة مشكوك في صحتها، وهناك ما يفيد أن إيران أسهمت في تنصيبه وزيراً للتربية بغية السيطرة على قطاعات واسعة من أطفال العراق وشبابه من الطلاب ومحاولة تدجين عقولهم وتسميم أفكارهم بما تريده طهران  من مخططات السيطرة على العراق ثقافياً وفكرياً، وكوفئ الخزاعي على فعلته الشعوبية بمنصب نائب رئيس الجمهورية وتم غض النظر عن لصوصيته تكريماً له على ما أنجزه في قطاع التربية والتعليم، ولم يتوقف هذا التشويه المبرمج في مراحل التعليم الثلاث ( الابتدائي، الإعدادي، الثانوي ) ، وإنما بسطت سياسة ( التفريس ) هيمنتها على الجامعات والمعاهد العالية، بقيادة علي الأديب وزير حزب الدعوة  للتعليم العالي خريج ( كوجة مروي ) حامل الجنسية الإيرانية ، الذي قاد بنفسه حملة تصفية الكفاءات العلمية، مواصلاً مهمته التحريفية، باستنساخ التجربة الإيرانية في إثارة الخلاف حول قضية خلافة الإمام علي بن أبي طالب،  ففي 23 /4/2012 أصدر قراراً يلزم دارسي التاريخ الإسلامي في عموم الجامعات العراقية بالتوسع في بحث خلافة الإمام علي بن أبي طالب، ودراسة مواقف أهل البيت السياسية في العصرين الأموي والعباسي، كجزء من التاريخ. ومن يطلع على تفاصيل المقررات الدراسية الجامعية بألوانها المذهبية وما استحدثته حكومة المالكي تحت اسم ( مركز الدراسات التخصصية بين الحوزة والجامعة ) يدرك أن نهجاً مثابراً يسعى بمنهج إيراني إلى مسخ الهوية الوطنية ليجعل من ( العراق ) نسخة أخرى من ولاية الفقيه.   

 

معارك اليوم الأخير:

 طبقا ليوميات الحرب التي دونها علاء الاعظمي ؛ شهد يوم التاسع من أبريل  2003معارك ضارية،  إذ أشار الناطق العسكري الأمريكي إلى وجود معارك ضارية في مدينة العمارة، ووقوع هجمات متتالية استهدفت الدبابات والعربات المدرعة واعترفت القيادة المركزية أن القوات الأمريكية الغازية لم تتمكن حتى الآن من دخول مدينتي الكوت والعمارة بسبب المقاومة الشديدة وأفادت بوجود عناصر الحرس الجمهوري بالكوت وأنها لا تزال تواجه المقاومة في مدينة البصرة. فيما أصبحت المواجهات على ضفتي بغداد كثيفة جداً، شن فيها الفدائيون هجوماً عزوماً على القوات الأمريكية في الأعظمية قتل فيه وجرح عدد كبير منهم، واعترف الميجور ( مات بيكر ) الضابط من مشاة سلاح البحرية ( المارينز ) : سقط بعض القتلى في الهجوم لكنني لا أعرف عددهم!!

 

وهذا هو ما دعا جنرال سلاح الجو الأمريكي ( فيكتور رينوارت ) أن يعلن اليوم: إن بغداد ما زالت “مكانا خطراً” تجري فيه معارك متقطعة ولكنها عنيفة ، معتبراً أن القوات الأمريكية البريطانية “تغطي 50 إلى 60% من الأراضي العراقية. واعترف الكولونيل ( جريج جاس ) قائد الفرقة 101 المحمولة جواً بوجود مقاومة عراقية عنيفة، فيما أعلن الناطق باسم القيادة الأمريكية الوسطى الغازية في مؤتمر صحافي في قاعدة السيلية بقطر أن المعارك “متواصلة” من أجل السيطرة الكاملة على بغداد؛ إذ ما زالت هناك “جيوب مقاومة” تنشط فيها عناصر من القوات شبه العسكرية العراقية والحرس الجمهوري .

 

اشتباك مع الأمريكان :

وفي بغداد أيضا ؛ اشتبك الفدائيون العراقيون والمقاتلون العرب مع قوات العدو في منطقة العطيفية عند بداية شارع حيفا من جهة نادي الزوراء وشاركت مروحيات قتالية أمريكية لإنقاذ الغزاة الذين حوصروا في المنطقة وبدأ الفدائيون بملاحقتهم.  

 

وفي منطقة الدورة تصدى الفدائيون للعدو مرة أخرى فقصف الغزاة الأهالي بطائرات الأباتشي ومقاتلات أف 16 والبريداتور ومن بين الشهداء أطفال ونساء سقطوا قرب جسر الدورة، واعترف ضابط أمريكي أن المقاتلين العراقيين هاجموا رتلاً للمدرعات الأمريكية، لكن شاهداً قال: إن الأمريكيين أطلقوا النار على السيارات المدنية العابرة على الطريق الرئيس مما أدى إلى استشهاد عدد كبير من المدنيين .

 

واعترافاً بعنف المقاومة العراقية في بغداد وشدة توتر الموقف فيها وفي مناطق أخرى، أعلن مسؤول عسكري، من فوق حاملة الطائرات ( كيتي هوك ) ، أن الطائرات الأمريكية استأنفت عمليات القصف الجوي المكثف على العراق وأنها أسقطت 41 قنبلة من بينها أربع قنابل زنة 2000 رطل استهدفت بنحو خاص مواقع رادار.

 

البدايات الإيرانية:

على وفق شهادة ضباط من منظومة الاستخبارات العراقية في الجنوب لجأ الإيرانيون العاملون في قوة القدس عبر المرتزقة والوكلاء من الأحزاب الدينية إلى إضعاف الروح المعنوية عن طريق الحرب النفسية بترويج الشائعات التي تنال من صمود المواطنين والتشكيك بقدرات الجيش العراقي في مواجهة قوات الغزو الأنجلو أمريكية، بالتزامن مع تدفق قوات القدس ومليشيات الأحزاب الدينية، عبر المنافذ الحدودية، وطبقاً لما أورده المؤرخ  علاء الأعظمي في يوميات الحرب، سجل يوم الثامن من أبريل 2003، انتقال قوات القدس من حرب الشائعات إلى الهجمات العسكرية المباشرة على قطعات الفيلق الرابع العراقي، نفذها فيلق بدر الإيراني، وواجهتهم قوات الفيلق الرابع وفرقها وهي قوات نصر الفرقة المدرعة العاشرة فرقة المشاة 14 قوات الحمزة وقوات طارق بن زياد الفرقة 18، وجرى الهجوم من خلف الفيلق العراقي الرابع، بإسناد من قوات القدس الإيرانية.

 

الولاية وسياسة تثبيت الأقدام؛ المكان أولاً:

 النفاذ إلى خلايا المجتمع والتغلغل في نسيجه وعبر شرائحه وطبقاته وأحزابه هذا هو الدرس الافتتاحي الاول الذي اعتمدته المخابرات الإيرانية منذ عهد الملكية البهلوية في ثلاثينيات القرن الماضي وطورت أساليبه الاستخبارية في عهد الجمهورية الإسلامية، إذ اتبع جهاز ( إطلاعات ) في عهد الحاكمية الإلهية، حكمة العمل السري المعروفة ( يجب أن يكون لنا قرابة في كل خرابة ( .

 

لذلك سعت إيران ومنذ اللحظة الأولى للغزو الأمريكي، إلى تحويل خرائبها القديمة ( أحزاب ولاية الفقيه ) إلى أدوات عمل إجرائية تمهد الطريق لتثبيت أقدامها في العراق، وتسمح لها وسط الفوضى العارمة بإدخال الكتل البشرية لترسيخ الوجود الإيراني، وإحكام السيطرة على البقع الاستراتيجية، ولدواع أخرى قد تتطلب عند اللزوم تحريك هذه الكتل، وشرعت طهران في الوقت ذاته بالانفتاح على قوى الاحتلال وأحزابه، وعمدت إلى انتهاج وسائل وأساليب شتى من أجل أن تنشئ لها موضعاً مكيناً يساعدها على الحركة الحرة داخل المجتمع العراقي، فجعلت من حزب الدعوة ومجلس الحكيم ومنظمة العمل قناطر التواصل مع التشكيلات السياسية الأخرى، فعموم هذه القوى كانت في ضيافتها سنوات طوالاً، بالإضافة إلى علاقتها القديمة بالأحزاب الكردية، خصوصاً جلال الطالباني، ولطالما ساعدتهم في مفترقات حساسة وهم يدركون أنهم لا يستطيعون معاداتها.

 

مسرحية التمثال:

 في أبريل عام 2004 تم رفع السرية عن تقرير أعده الجيش الأمريكي حول كفاءة القوات الأمريكية في عملية غزو العراق، وهو التقرير الذي تم فيه الاعتراف بأن وحدة الحرب النفسية قامت بعمل وإخراج تمثيلية تحطيم تمثال الرئيس  صدام حسين، وأنها لم تكن عملاً تلقائياً شعبياً قام به المدنيون العراقيون عقب دخول القوات الأمريكية بغداد. وأسهب التقرير في الثناء على جهود وحدة الحرب النفسية الأمريكية وأوضح كيف اختار كولونيل من “المارينزوليس العراقيين، تمثال صدام حسين في ميدان الفردوس لإسقاطه وتجميع أطفال عراقيين لإجلاسهم على سطح رافعة “ونش” أمريكي مزود بسلسلة حديد لإسقاط التمثال ، وإخراج المشهد إعلامياً وعالمياً على أنه تحرك تلقائي من الشعب العراقي.  ويشير إلى أنه تم تدارك خطأ وضع علم أمريكي على وجه تمثال صدام حسين قبل إسقاطه، بالبحث عن علم عراقي واستبداله بالعلم الأمريكي لإظهار أن العراقيين هم الذين أسقطوا التمثال.

 

إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس كان حدثاً رمزياً مسرحياً مخططاً له مسبقاً من القيادة الأمريكية، وأريد له أن يكون رمزاً لنهاية عهد في تاريخ المنطقة، بل وفي تاريخ الأرض. إسقاط تمثال صدام حسين، كما يقول الكاتب حسن أبو الروس، كان أهم من إسقاط بغداد. لم يكن سقوط بغداد ليكتمل من دون سقوط التمثال. إسقاطه كان لعباً على تكسير الأصنام في مكة، وإسقاط تمثال ستالين، وغيرهم. كان إعلان دين جديد في الكون: دين ديك تشيني وولفوويتز غير أن المسرحية لم تكتمل. بدأت بداية موفقة، ثم حدث اضطراب ما. لكن على الرغم من الاضطراب والفشل، فلم يكن هناك حدث مواز لحدث إسقاط الرمز العراقي . لم يتقدم أحد طوال خمسة أعوام كي يخترع حدثاً في قوته ورمزيته. لذا بدا وكأن العرض سينتهي هكذا من دون قفلة نهائية. من دون قفلة صاعقة معاكسة لافتتاح إسقاط التمثال. ولكن ما لم يذكره هذا التقرير الذي أعده مركز عسكري تابع لوزارة الدفاع ( البنتاغون ) في فورت ليفين وويرث بولاية كانساس أن العلم الأمريكي الذي تم رفعه في البداية على واجهة تمثال صدام حسين، كان هو العلم نفسه الذي يرفرف على مبنى البنتاغون يوم وقوع هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001   ! كما لم يشر التقرير الذي ورد في 542 صفحة من قريب أو بعيد إلى عمليات النهب والسرقة التي تعرض لها العراق عقب الغزو، وما إذا كان هناك غض نظر متعمد أو تشجيع عليها من قوات الاحتلال!   وأهمل التقرير أحمد الجلبي بوجهه الشمعي وهو يعلق على شفتيه ابتسامة بلهاء ومن حوله أفراد من عصابته التي ستغرق بغداد بعد حين  بالدم والدخان.   

 

ويعدّ هذا التقرير، حسب صحيفة الخليج “أول تقويم ذاتي للحرب في العراق”. وركز على الفترة من بدء الغزو حتى إعلان الرئيس الأمريكي بوش الصغير في الأول من مايو   2003 انتهاء العمليات العسكرية.

 

الموت والدخان:

إثر تهاوى تمثال الرئيس صدام حسين على وفق الإخراج المسرحي الأمريكي، على أيدي المارينز، يعرف البغداديون جيداً الجهات التي أوقدت عن عمد وتصميم مسبقين الحرائق في قلب بغداد ويعرف العراقيون تماماً وبالتفصيل ( الجماعات المشاركة ) من ( الأحزاب، الأشخاص، وأجهزة مخابرات ) في نهب مقتنيات الدولة من المكتبات والوثائق والبيانات وقواعد المعلومات وإتلافها، وتدمير مؤسسات البلاد الأكاديمية والصحية والصناعية والإنتاجية والعسكرية، ولن يسقط من ذاكرة الأجيال جرائم الوكلاء والأدلاء الذين كانوا يتقدمون أرتال العدو لإيقاع الأذى بالمواطنين الشرفاء، ولا أظن أن عراقياً حراً ينسى الأيدي الآثمة التي باشرت فور احتلال العاصمة في التاسع من أبريل عمليات التصفية الجسدية لخيرة أبناء شعبنا: ( سنة وشيعة وصابئة ومسيحيين ) من العلماء والأطباء والخبراء والأكاديميين، والقادة العسكريين، وسجلت ذاكرة المقاومة العراقية عشرات الاغتيالات التي نفذتها أحزاب ولاية الفقيه وكذلك مليشيا أحمد الجلبي تحت اسم Fredom of Iraqi Forces )  ) ( قوات تحرير العراق ( FIF

 

بيانات الشعب :

بتلقائية وطنية مفعمة بالمسؤولية الوطنية ، وفي الساعات الأولى التي أَعقبت يوم الحزن العظيم 9/4/2003 وزع شباب بغداد بيانا يحمل رقم ( 1 ) ، بإمضاء: ( العراقيون الوطنيون ) ، جاء فيه:

باسم كل شهداء شعبنا الأبرار نعلن النفير الوطني لمقاتلة قوات العدو الأمريكي، وندعو فصائل قواتنا المسلحة ومقاتلي جيشنا الباسل وكل وطني قادر على حمل السلاح، لمواجهة العدوان الإمبريالي الصهيوني الغاشم، نهيب بالجميع تسديد بنادقهم إلى قلب الغزاة، وملاحقة المتعاونين والذيول.

 

أيها العراقيون، أيها الأباة، استنفروا وجاهدوا، وقاتلوا حتى تحقيق النصر المظفر، إننا ندعو أبناء شعبنا العراقي العظيم في عموم الوطن أن يهبوا، وينهضوا، لنجعل من أرض الرافدين جحيماً مستعراً تحت أقدام الغزاة، هيا إلى النصر، هيا إلى المقاومة، هيا إلى السلاح، عاش العراق حراً عربياً.

 

في هذا الوقت وتحت سماء العاصمة الجريحة الغارقة في الاحزان ، بدأ خفافيش الظلام يتقافزون بين الرصافة والكرخ ، إذ نشط الوكلاء في تبليغ  وتداول فتوى المرجع الايراني ، يحرم فيها آية الله العظمى مقاومة أو إعاقة حركة ( القوات الامريكية ) عن أداء دورها ، وتنفيذ مهماتها ،  ليشرع  الوكلاء والمرتزقة والمستعرقون تفجير ( الفوضى الظلامية ) بإحراق  وتدمير موجودات البيت العراقي، من الكتب والوثائق إلى البنى الارتكازية والصناعية ، بالتزامن مع تصفية واغتيال العقول العراقية من ( العلماء، الاكاديمين، الخبراء، الاطباء ، قادة الجيش وكبار الضباط ) ..    

 

تظاهرة الأمهات:

تلك التظاهرة ؛ بقعة الضوء المتوهجة التي لم تلتقطها عدسات الفضائيات العالمية لانشغالها بنقل وقائع مسرحية التمثال وبحركة الدروع الامريكية .

التظاهرة ؛ كانت أول إعلانات الاحتجاج الوطني على العدوانية الامريكية ؛ دونته الأمومة العراقية في أول يوم من الاحتلال البغيض . لتذكرنا جميعا بأن الدفاع عن الوطن فريضة الجميع المرأة والرجل ، تذكرة للآتين من أزمنة المستقبل ، بأن الامومة العراقية صانعة الخيرات الوفيرة  هي نفسها صانعة حقائق الاوطان، وأنها وثقت حضورها في اللحظة الحرجة من تاريخ البلاد ، وهي من أفتى بجهاد العدو ومقاتلة الغزاة ..

 

اليوم الأسود: عبارة أطلقتها حناجر الأمهات العراقيات اللائي تحديّن الفاشية قوات الغزاة وبنادق الفاشست. في يوم الحزن العظيم، عندما شرعن في كرخ بغداد ظهيرة يوم 9/4/2003، وهن يتوافدن من محلات الفحامة، المشاهدة، سوق الجديد، خضر إلياس، الشيخ علي، الشيخ بشار، الشواكة، وغيرها من محلات العاصمة العريقة، وبدأن مسيرة مرثية بغداد الكبرى، تشق شارع حيفا. الأمهات النائحات، يهبْنّ بأمة العرب ويحرضّن أبناءهن على القتال ومقاومة العدو والاقتصاص من الغزاة، وهن يرددن:

 

گوُمْ ( قُمْ ) يالله يا عراقي أُخذ ( خذ ) ثارْ أمك و ( أبوك )

اليوم يومكْ يا عراقي برّدْ افّادْ ( فؤاد ) أُختك وأخوك

أخذ ثار دجلتنا وفرات

 العراق أبْدنْ ( أبد ) ما يُموتْ

 

شرارة المقاومة:

بانقضاء صلاة العصر، يوم الخميس العاشر من أبريل 2003 نزل المارينز من عربات القتل المصفحة يتقافزون كما خفافيش الليل بين ضفتي شارع حيفا، انفجرت صدور الناس غضباً وفاضت غيظاً، اضطربت الأرض، في البدء قذف الصبية الجند بالحجر والزجاجات الفارغة، أوصدت محلة الفحامة الأبواب بوجه غربان البيت الأبيض، أدرك مشاة البحرية منذ اللحظة الأولى أكذوبة الورد الجوري التي بشر بها البنتاغون قوات الولايات المتحدة، من أن شعب العراق سيأخذهم بالأحضان ويستقبلهم بالزهور.

 

الوحدة العسكرية المدججة بأسلحة الموت، من الرأس إلى أخمص القدم، شعرت أن شراً مستطيراً يحيق بها، وأن ألفاظاً غليظة قرعت أسماعهم: قتلة، متوحشون، مستعمرون، مرتزقة.. الأصوات الغاضبة تتراكم من كل نافذة وباب، تنزل بقوة كما المطارق على رؤوس الغزاة، تآزرت معها لغة العيون تتقادح شرراً، وهي تمتلئ بكل معاني التحدي والتهديد والوعيد، توقف اثنان منهم أمام شعارات الجدران، مرقومة بالعربية والإنجليزية، تتوعد الغزاة وتحث الشعب على المقاومة، أومأ جندي بيد مذعورة إلى كلمة ( جحيم ) ثم مضيا.. الأرض تميد برجال الإمبراطورية العالمية، طفل في العاشرة يقف بثبات، والفتية يحتشدون بباب جسر الدم، ثمة من يرفع علماً، والآخر يلتقط حجراً، النوافذ أوصدها الحزن، تنسلّ من دار السدرة الكبرى ( منصورة يا بغداد ) .. يتعالى في السوق الصغير صوت الوجع الوطني. فينحسر الضوء.

 

تنحدر شمس الكرخ في مياه خضر إلياس، تبث مئذنة جامع الشيخ صندل أذان المغرب، لكن الصمت لا يلبث أن يتهاوى،  قنبلة يدوية  تنفلق تحت مدرعة ( برادلي ) ، تحدث في قلب الرتل الغازي فزعاً مجنوناً، يختبئ المارينز، بين الضفتين، تعقبه دفقات الرشاش الآلي ينثال رصاص حمادة صبري على عربات ( الهمر ) ، يمتلئ الشارع بالنار والدخان، إنها اللحظة الفدائية الخالقة، الشبيهة بالومضة السحرية لا تتسع العين لالتقاط مشهدها، تلك بداية المعركة الكبرى التي أرهقت صدمتها المفاجئة الغزاة، فآثروا الفرار صوب عرباتهم المدرعة.. الرماة العراقيون يسددون البنادق نحو قوات العدو من كل جهة وصوب، ليدونوا افتتاحية معركة التحرير، هنا في شارع حيفا، وبتاريخ العاشر من أبريل ، وبرصاص الشعب العراقي، سقط أول قتيل أمريكي، ( تيري دبليو همنغواي ) ، وهو مجند أمريكي من فرقة المشاة الثالثة، برتبة رئيس عرفاء حسب البيان الصحافي للبنتاغون رقم ( 234/2 ) .

 

كانت هذه هي الشرارة الأولى للمقاومة العراقية الباسلة ضد الاحتلال الأمريكي، في أقل من أربع وعشرين ساعة على احتلال العاصمة، يتسع ميدان المعركة فيمتد خط النار طوال الليل من منطقة الشيخ صندل إلى الجعيفر، ومن جامع براثا حتى العطيفية والكاظمية ، ومن الكرخ إلى الرصافة، ومن بغداد إلى العراق كله.

 

هذه ليست أكثر من نافذة صغيرة على حدث عظيم .. وللحديث بقية..

 

 

**

 

مراجع :

حسن ابو الروس – قبلة الوداع. موقع ( فيصل باب مفتوح للحوار )

علاء الاعظمي : يوميات معركة الحواسم : شبكة البصرة 2010

 

وثّقت جريدة القدس العربي في عددها المؤرخ في 22/4/2003، أول بيان عسكري للمقاومة العراقية، جاء فيه: ( منذ يوم 10/4/2003 ورجال ونساء المقاومة يخوضون عمليات قتالية ما بين الهجوم الخاطف والعمليات الفدائية، ولصعوبة إصدار بيانات في وقتها بسبب إعادة ترتيب بعض الأولويات الجهادية، فقد مرت الأيام ونحن نخوض حرباً لتحرير العراق العظيم من قوات هولاكو العصر مجرم الحرب جورج دبليو بوش ) . راجع ( شبكة البصرة ) .

 

  حمادة صبري؛ من شباب المقاومة الوطنية استشهد عام 2004 في  شارع حيفا. عبدالستار الراوي. معجم العقل الامريكي المعاصر ( مصطلحات الحرب العدوانية على العراق ) القاهرة 2012

 

 ( * ) جريدة الوطن البحرينية الأحد 10 يونيو 2012

 

 





الاثنين٢١ رجــب ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / حزيران / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة