شبكة ذي قار
عـاجـل










في سردنا لحوادث حصلت فصولها في ثورة العشرين المباركة فإننا نتناولها كحدث تاريخي مجرد وحسب تسلسلها الزمني كما ترويه الوثائق المتوفرة وأكده شيوخ عاشوها لازالوا على قيد الحياة وكثيرا من الباحثين في الشأن الاجتماعي العراقي ولا نعني في طرحنا الإشارة إلى المناطقية فنفقد ثورتنا أهم مميزاتها فشرارتها الأولى كانت في الثلاثين من حزيران عفوية سبقت الموعد المحدد وسبقت اكتمال التحضيرات المطلوبة لها ونؤكد ما قلناه سابقا أن انطلاق شرارة الثورة من مدينة الرميثة في جنوب حوض نهر الفرات الأوسط لا يعني أن هذه البقعة من ارض الوطن على خصوصيتها لها أفضلية أو أسبقية على باقي أجزاء القطر ولا يعني أبدا إنقاصا لوطنية أو تجاهل أي بقعة أخرى من العراق ولا يعني أن الثورة اقتصرت على القومية العربية دون باقي قوميات النسيج الوطني العراقي واقتصارها على المسلمين أو طائفة معينة فقط ومن يذهب في هذا الاتجاه إنما يبخس القوى الوطنية حقها بل إن ما حصل كان التزاما ووفاءا من أبناء العراق لإخوانهم في الرميثة وجهدا استثنائيا لنجدتهم وعدم تركهم فريسة للقوات البريطانية تنفرد في القضاء عليهم وما جرى هو تآزر وطني رائع لتشتيت قوة المعتدين على أكثر من جبهة وفي هذا دلالة واضحة على سرعة مناورة الثوار وتكاتفهم على الرغم مما سببه هذا التعجل من إرباك في القرارات مع ملاحظة انعدام الاتصالات وصعوبة التنقل وإذا كنا قد عرضنا مقتطفات من رسالة الحاكم البريطاني العام إلى احد رجال الدين فهذا لا يعني نفي ادوار البطولة لباقي القوى الوطنية بل من خلال ذلك السرد وما سيلي التعرض إليه إننا نحاول الإشارة إلى دور لعبه رجال الدين في محاربة القوات الغازية ليقارن القارئ الكريم ذلك مع ادوار من تلاهم في نفس المهام الدينية أثناء عدوان تحالف الغرب الذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عام 2003 ونؤكد استمرارية الثورة المجيدة الوارد في عنوان المقال إلى يوما هذا مع احترامنا الشديد لكل وجهات النظر التي يطرحها السادة أصحاب الرأي السديد وما قد نختلف فيه في تقويم الوقائع ما دامت الغاية وطنية شريفة تساهم في إغناء قضيتنا وتطور جهادنا القومي وتفعل المد الثوري وتصعيده لتحرير كل شبر من أرضنا العربية في أي مكان .


أشارت الوثائق المتاحة إلى أن زعماء الثورة وقادتها في الميدان والوطنيين المشاركين فعلا فيها قد أصدروا بيانا استبقوا فيه رد علماء الدين أعلنوا فيه موقفهم الرافض لأي مساومة قبل جلاء آخر مرتزق بريطاني معبرين بذلك عن وجهة نظر الشارع العراقي الأمر الذي دفع بعالم الدين إلى الرد بنفس الأسلوب بعد أن تشاور مع رؤساء العشائر الثائرة ووجد فيهم الإصرار على المضي في الثورة والتضحية من اجل أهدافها فكتب إلى ولسن ردا نتناول جانبا منه :


(( أنذرناكم قائلين لكم تداركوا الأمر قبل خروج علاجه عن مقدرتنا ولا شك أنكم تعلمون أن تداركه بإعطاء العراقيين حقوقهم التي طالبوكم بها مطالبة سلمية فأبيتم إلا اغتصابها وجعلتم أصابعكم في آذانكم حذرا من أن تسمعوا مطالبا بها وأخذتم بالوعد والوعيد وبعد التأمل بالتضليل واستعملتم الشدة والغلظة فنفيتم وقتلتم وسجنتم وأخفتم وأضمرتم العداء الذي أظهرتم آثاره وطلبتم نفوس أولئك المتظلمين وأموالهم وما يجب الدفاع عنه من حرمهم فدافعوكم قياما بواجبهم وهاجمتموهم تبعا لهوى نفوسكم ....


وجئتم بها نكراء بلغ سيلها الزبى وضاقت لها حلقتا البطان وأرسلتم بواخركم المشحونة بأسباب الدمار وآلات النار وقدتم العساكر وكتبتم الكتائب لتلك الأمة المظلومة وسحقا لحقوقها المهضومة .


فأما الرحمة فهي مطالبتكم الأمة العراقية عند مطالبتها باستقلالها بسوق الجيوش الجرارة عليها وقتل الرؤساء ونفي العلماء والمندوبين والزعماء ورمي النساء والأطفال بأنواع النيران وحرق بيوت وأموال ومزارع جميع من امتنع عن الإقرار بوصاية الانكليز وطالبكم بتأسيس الحكومة العراقية وهتك الأعراض ومصادرة الأموال ومحاصرة البلاد بقصد إماتة سكانها جوعا والتحصن في البلاد غير المحكمة خلافا للقوانين الموضوعة .


وأما العدل فالقتل والإعدام لغير جرم وبدون محاكمة والنفي والتبعيد لمجرد التفوه بطلب الاستقلال والزج في السجون لأقل شبهة وعدم قبول استماع دعوى ما على الانكليز وغير ذلك مما لا ينطبق على عقل ولا قانون .

أما التسامح الديني فهو رمي الطائرات والسيارات المدرعة والمساجد وقتل المتعبدين والنساء والأطفال وتشكيل الإدارة العرفية لمعاقبة من يتصدى إلى عقد مجلس لقراءة منقبة النبي (ص).....


والأعجب أنكم تطالبون التئام هذا الصدع الذي لا يجبر كسره وتقولون نحن لا نريد أن نجازي العراقيين كلا وإنما نجازي من أسماءهم عندنا وعندكم وعندهم معلومة بزعم أنهم مفسدون فكان تعريف الفساد عندكم هو المطالبة بالحق ونحن لا نعرف من أحوالهم إلا أنهم طالبوا بحق فمنعتموه وأدرتم عليهم رحى الحرب الطاحنة فدافعوكم عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ولو تركتموهم وحقهم ما سالت منكم ولا منهم قطرة دم ولكنكم انتم فتقتم هذا الفتق الذي لا يخيط بالخيوط ولا بالإبر فانتم السبب وعليكم التبعة ورأينا في الأمر أن يمنح العراقيون استقلالهم التام خاليا من كل شائبة عاريا عن كل قيد .


أما عن المفاوضة فلم تتضح لي غايته ولم أثق بحسن نهايته وعلى كل فهو أمر دقيق يحتاج إلى جلاء فكر وتأمل ومن الله نسال حسن الختام )).

لقد تقصدنا الإسهاب في الاقتباس من كتاب إجابة عالم الدين لما جاء فيه من وصف دقيق للحالة العراقية التي نتجت عن تبصر ووعي جماهيري عام للتعاطي مع إفرازات الاحتلال أسست لقيام ثورة عام 1920 المباركة وما بعدها على لسان اكبر المراجع الدينية حينها وطريقة الرد على أكاذيب الحاكم البريطاني العام المستنبطة من أحكام الشريعة الإسلامية التي بينها القرآن الكريم لوضوح لا يقبل الجدل أو الاجتهاد (( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ )) ( البقرة-191)


(( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا )) (النساء- 91) .

يحق لكل مواطن عربي بصورة عامة وعراقي تحديدا لإنفراد القطر بعد تعرضه للغزو والعدوان الأمريكي الحالي أن يقارن بين موقف رجال الدين حين ذاك وما لمسناه منهم الآن فمنهم من قبع في سردابه واعتزل الظهور وتجاهل واجبه الديني وتكليفه الشرعي في التعبئة الشعبية لمقاومة الاحتلال ومنهم من اتخذ سبيله في مهادنة المحتل والرقص على حبال المطلب الشعبي لتمييعه وتسويفه وتخدير المطالبين فيه ومنهم طائفة كبيرة انخرطت في تلبية مصالح المحتل وتحقيق مشروعه الاستعماري فشاركت في حكومة الاحتلال طوعا بينما اتخذت من محاربة المقاومين للغزو من رجال دين وعامة سبيلا لها فخسرت الدارين الأولى والآخرة وانفض عنها شعبنا ليواصل الأبناء مشوار الآباء فارض العراق طاهرة وستبقى بإذن الله وعزيمة النشامى وغيرة الأبطال رجال المقاومة كذلك حتى يأذن الله بنصره الذي وعد المجاهدين فيه .


لقد كان لانتشار الثورة في أرجاء العراق وسريانها في كل مناطقه في الريف والحضر انتشار النار في الهشيم بشكل أذهل المحتل ما دفعه إلى إعادة النظر في خططه التي ووضعها للسيطرة على مشرق امتنا العربية وليس العراق فحسب وان أهم ما يمكن ملاحظته هو الإصرار المطلق على التعامل مع المحتل بندية كاملة وروح سامية في عدم مساومته في نيل استقلال القطر الكامل دون شروط مسبقة كما دللت عليه أهازيج الثوار التي كانوا يتناخون فيها وهي بالإضافة إلى ما تحمل من حماسة لا تخلو من الطرافة على غرار ما شاع منها :


* حل فرض الخامس كوموله ( دلاله على أن الجهاد فرض ديني )
* الطوب أحسن لو مكواري ( للدلالة على عدم فاعلية المدفع تجاه الآلة الدفاعية البسيطة)
* رد فالتنا اعتازيناها ( آلة تستخدم في منطقة الأهوار لصيد الأسماك )
* مشكول الذمة على الفالة ( المطالبة بآلة الصيد التي علقت في ظهر المرتزق البريطاني أثناء المعارك )
* رد هاملتون ذيله يسوكه ( تشبيها له بالحيوان )
* ثلثين الجنة لهادينا وثلثه الكاكه احمد وأكراده ( لمساهمة الكورد بشكل فعال في هذه الثورة )


كانت هذه بداية لسلسلة من الثورات البطولية التي استهدفت الغازي المحتل بشكل مباشر أو أدواته العاملين في حكوماته ولم تتوقف إلى يومنا هذا توجتها المقاومة العراقية في عملياتها الجهادية التي أغرقت المعتدين في وحل الهزيمة , وإذا كان التاريخ لا يعيد نفسه فان الولايات المتحدة أعادت السيناريو البريطاني لغزو العراق بتفاصيله منذ اللحظة الأولى للعدوان لغاية تعين موظفيها في محكومة الاحتلال ولفرط غباء الإدارة الأمريكية لم تتعظ من الدرس العراقي في ثورة العشرين المباركة فالعدوان بالنسبة لنا كعراقيين واحد مهما تعددت مظاهره والعراقي واحد لم ولن يقبل النوم ذليلا مهان .

 

 





الثلاثاء ٢٧ شعبــان ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / تمــوز / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عراق المطيري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة