شبكة ذي قار
عـاجـل










توطئة


بعد حصار قاتل لبيروت الغربية، استمر طيلة صيف 1982، حيث كان مقاتلي المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وماتبقى من اللواء التابع للجيش السوري ( كان غالبية عناصره من جيش التحرير الفلسطيني ) بأمرة العميد أحمد حلال، يتصدوا بشكل مشترك للعدوان الصهيوني، ومحاولاته الدؤوبة لإجتياح بيروت الغربية، على أكثر من محور، وللأمانة التاريخية فقد تحمل مقاتلو المقاومة الفلسطينية العبء الأكبر في هذه المواجهات


وفي غياب أي موقف حقيقي من النظام الرسمي العربي، بإستثناء العراق الذي كان يخوض حرباً ضارية مع ايران، والذي طلب من ايران ـ آنذاك ـ وقف الحرب والتوجه للدفاع عن بيروت الغربية، ورفضت ايران الطلب، إذن في ظل هذا الصمت المريب والمتواطئ، كنا في بيروت الغربية، شبه معزولين عن قدرتنا على متابعة التطورات والمواقف الدولية


وكان القرار أن يدافع عن عروبة بيروت الغربية مهما كان الثمن، كانت "الطبخات" تجري، وتمخض عنها كما هو معروف وصول الموفد الامريكي فيليب حبيب، والاتفاق الذي جرى بخروج مقاتلي وكوادر المقاومة الفلسطينية من بيروت، وجمع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة باشراف القوات المتعددة الجنسيات التي بدأت بالوصول. وتبعها إزالة حقوق الالغام والسواتر الترابية وبدأنا بتوديع كوادر ومقاتلي منظمة التحرير الفلسينية في قوافل تنطلق من الملعب البلدي في الطريق الجديدة وصولاً إلى مرفأ بيروت، وسط الدموع و الزغاريد و نثر الأرز و زخات الرصاص ... مصحوبة بالأغاني الوطنية الثوريةالتي تنطلق من اذاعة صوت لبنان العربي. ومن مكبرات الصوت في الملعب البلدي، وأكثرها تأثيراً كانت أغنية : أناديكم ... أشد على اياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم ... وأقول أفديكم


بعد ملحمة الصمود الاسطورية، التي عشناها يومياً في بيروت الغربية، وخروج المقاتلين، تم إنتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، ثم قتل في حادث التفجير المعروف يوم 14 ايلول 1982، ودخلنا في المجهول، عندما بدأت الدبابات الصهيونية تتقدم على أكثر من محور لإحتلال بيروت الغربية


معركة التصدي لإجتياح بيروت الغربية


كان القرار الوطني، لمن تبقى من كوادر و مقاتلين للحركة الوطنية اللبنانية، التصدي للزحف الصهيوني، وضمن الامكانيات العسكرية المتواضعة جداً، التي إقتصرت على رشاشات الكلاشينكوف وقاذافات الا ربي جي. وقذائف الانيرغا. إستبسل الخيرين من هؤلاء المقاتلين وأكدوا في معارك إستمرت ثلاث أيام بلياليها ان "العين قد تقاوم المخرز"" ... كانت المواجهات مع دبابات الميركافا المتطورة تحدث أحياناً على بعد خمسين متراً


ومع سقوط العديد من الشهداء وعشرات الجرحى، وبداية نفاذ الذخيرة والقاذفات، و إستحالة المقاومة أكثر من ذلك. أتذكر جيداَ ذلك المقاتل على محور البربير (الذي استشهد لاحقاً) وهو يقول لي والدموع تنهمر من عيناه: ماذا نفعل ..المدنيين خائفيين ويطلبون ان لا نحتمي في مداخل البيانات خوفاً من الدبابات ... نقاتل في وسط الشوارع المفتوحة..سنموت ولن ندعهم يجتاحون بيروت الغربية..مقاتل آخر، في كركول الدروز، خرج من زاوية الشارع الرئيسي ليطلق قذيفة ار.بي.جي على دبابات ميركافا كانت تتقدم آتية من جهة المرفأ، أخطأ بالإصابة ليتوجه برج الدبابة ومدفعها وتطلق قذيفة عليه، وتصيبه بجروح بليغة، ولا أريد الاطالة أكثر، ولكن مايهمني ان أؤكد ان هؤلاء المقاتلين الشرفاء. قاوموا ببسالة رغم كل الظروف، ولم يجعلوا اجتياح بيروت "نزهة" كما كان يروج قادة العدو الصهيوني


المجزرة المروعة ـ المأساة


صباح يوم السبت 18 ايلول 1982، كنت أزور الصديق النقيب ( لا داعي لذكر الاسماء ) آمر فصيلة درك البسطا في مقرهم الجديد في جادة بشارة الخوري، و كان بصحبتي صديقين، و مع الحديث و الدردشة حول الوضع الميداني، وإنتشار الجيش الصهيوني في شوارع بيروت الغربية. جاءته أول اشارة لاسلكية، عن قتلى "بالعشرات" في مخيم صبرا وشاتيلا، حاولت ان اعرف منه حقيقة ما يجري ... غاب قليلاً و عاد إلى مكتبه بحالة ذهول: هناك مجزرة مروعة في صبرا وشاتيلا ... القتلى بالمئات ربما بالالاف


إنتظرت معه، سيل البرقيات اللاسلكية لايتوقف: غالبية القتلى من النساء والأطفال والشيوخ ... قتلوا بالرصاص ... بالسكاكين ... بالحراب ... بالبلطات ... أزقة المخيم المنكوب تغص بالجثث؟؟؟المجزرة تدور منذ يومين ... لم نعرف بحكم الطوق الصهيوني المحكم على المخيم ... هناك جثث تتكدس بأحد الملاجئ ... و جثث أخرى في مستشفى غزة بأرض جلول ... ومستشفى عكا ببئر حسن ... هناك أعداد من اللبنانيين بين الضحايا ثم خاطبني: قوم روح من هون ... انتبه من الحواجز ... إختفي ... و أردف قائلاً: لا استطيع القيام بأي شئ


نهضت للخروج وقلت ل ه: أنا ذاهب للمخيم لأعرف ماجرى و مايجري ... تابعني للباب الخارجي للمخفر وهو يقول صارخاً بعصبية: مجنون انت ... ستموت


إستقليت سيارتي، وطلبت من الصديقين ان يتركوني وحدي، رفضا ذلك، وأصرا على مرافقتي ... عندما وصلت إلى كورنيش المزرعة توجهت إلى منطقة أبو شاكر، و منها إلى الملعب البلدي، ثم الفاكهاني, وتابعت إلى أبو سهل محاولاً الوصول إلى أطراف المخيم من جهة سوق الخضار. و قبل وصولي، ظهرت أمام سيارتي فتاتين في عمر الورود، حافتي القدمين، حالتهما هسترية كانا يضربان بيديهما على مقدمة السيارة صارخين بصوت متحشرج:"وين رايح ..الكل ماتوا..الكل قتلوا..مافي أحياء ... الله يخليك ارجع لاتروح ... بيقتلوك. كانت الاخرى تولول: وين العرب ... وين العرب؟! كانت إحدى الفتاتين تترنح وتكاد تسقط من الاعياء والرعب ... حاولت أن أهدئ من روعهما، ولكن أنى ذلك وقد شاهدا ما تشيب له الأطفال


اركنت السيارة في الشارع الضيق، وطلبت منهما ان يستريحا بالسيارة. حاولنا ان نعطيهم بعض الماء للشرب وغسل الوجه. تركناهما وتابعنا سيرنا على الاقدام ... دخلنا أول المخيم، رائحة الم و البارود تعم الازقة، و الجثث في كل الدروب، و رائحة الجثث، كان المنظر مروعاً لدرجة الغثيان،كنا نغلق أنوفنا، و نتنفس من الفم


لم نستطع ان نكمل داخل المخيم، لا يوجد أحياء، صمت كالمقابر. عدنا أدراجنا بإتجاه ابو سهل، ولم نجد الفتاتين، اللتان غادرتا نحو المزرعة و البربير، أخذت سيارتي عائداً إلى الطريق الجديدة حيث صادفت أول سيارة تحمل لوحة "صحافة" ... و منها إلى منطقة برج ابي حيدر


الاجرام في أبشع صورة


بعيداً عن مشاهداتي الآنفة الذكر، فأن الواقع الذي تكشف لاحقاً يؤكد على سقوط أكثر من 3200 شهيد بينهم مايقارب 200 لبناني. و ان المجزرة تمت بالتواطؤ بين العدو الصهيوني بقيادة اريل شارون ورافائيل ايتان، وجيش لبنان الجنوبي بقيادة العميل سعد حداد، و مجرمي القوات اللبنانية بقيادة ايلي حبيقة. وكانت الخطة، ان يحكم الجيش الصهيوني حصاره للمخيم بشكل كامل، و تم بعد ذلك إدخال مجموعات من القتلة المحترفين من القوات اللبنانية و جيش لبنان الجيش الذين إستقدموا من الجنوب للمشاركة بتنفيذ المجزرة


الذريعة ـ الفضيحة، التي ادعى بها العدو الصهيوني لتنفيذ المجزرة، هو وجود حوالي 2000 مقاتل فلسطيني بالمخيم، و لم يغادروه مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية الذين غادروا بيروت. وهذا الأمر نفته الحقائق التي عرفت لاحقاً. لدرجة ان أحداً تساءل بمرارة: وأين كان هؤلاء المقاتلين؟؟ ولماذا لم يتصدوا للقوات التي اقتحمت المخيم؟؟ ثم أين هم أو جثثهم؟؟ هل تبخروا؟؟


الآن، وبعد مرور ثلاثين عاماً على المجزرة المروعة، وأنا أستحضر الذكريات المريرة القاسية، و أعود إلى حجم المجازر التي تعرض لها أخوتنا الشعب الفلسطيني، البطل والمظلوم، و عايشت قضيته منذ نعومة أظافري، يهمني أن أؤكد أنني فلسطيني الانتماء، فلسطيني بروحي وبضميري، وسأبقى كذلك ما حييت. حتى تعود فلسطين، كل فلسطين لأهلها وأخوتنا الفلسطينيين. هذا وعد وعهد ... وعد الشرفاء، وعهد العروبة

 

 





الاثنين ٣٠ شــوال ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / أيلول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي نافذ المرعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة