شبكة ذي قار
عـاجـل










كلما استمر زمن بقاء وبناء الدولة الوطنية في الجزائر وظهورها قوة فعالة وحاضرة من حواضر العالم باتت فرص استرجاع الحقوق في متناولها وكلما حقق الأول من نوفمبر هدفه المرسوم باسترجاع الاستقلال والسيادة الوطنية وبناء الدولة واستعادة الهوية الوطنية للامة والشعب وثبات التمسك بمطالب الحقوق المترتبة على مستعمر الامس بالاقرار والاعتراف بها من قبل السلطات الفرنسية وريثة الامجاد الاستعمارية بتسوية الامور العالقة وبروح الاحترام الكامل لتضحيات الشعب الجزائري بالاقرار المبدئي بمسؤولية ما اقترف ضده من جرائم فاقت كل التصورات وسودت صفحات قاتمة ومفعمة بالظلم الاستعماري وحيفه ضد الشعب الجزائري.


لاحتفالية نوفمبر هذا العام طعم الإحساس بالنصر التاريخي من جهة، وتحقق الحلم في شموخ الدولة الوطنية الجزائرية مجسدة بكرامة شعبها بعد خمسين سنة من الكد والعرق والاجهاد والتضحيات في مرحلة البناء من اجل تثبيت بنيانها وهياكلها وحضورها الحيوي الفاعل بين دول العالم.


ولعل في مثل هذه الذكرى نصيب الاستذكار بصلابة الموقف الوطني الجزائري ووضوحه من قضايا تتعلق بالحقوق الوطنية لا يمكن ان تنزوي او تتجاهل، بحكم التقادم الزمني والتوجه نحو الانفتاح السياسي على العالم، ومنه فرنسا، والاستعداد للحوار الجاد كي لا يُسمح لمجرمي الامس الاستعماري الافلات من عقاب التاريخ والذاكرة الانسانية كمجرمي حروب وابادات جماعية .


وبحلول الاحتفالية الخمسينية لاستعادة استقلال الجزائر التي احتفل بها وهي متصاحبة بهبوب رياح التغيرات الاقليمية العاصفة وبهزيمة اليمين الفرنسي ممثلا برئاسة ساركوزي ووصول فرانسوا هولاند الى قصر الاليزيه، أين بدأت حالات من الاعتراف بالافصاح المحتشم عن بعض جرائم فرنسا في الجزائر وبمحاولة اعادة تسمياتها بطريقة لازالت تقيدها روح الصراحة والجرأة في التشخيص بعيدا عن التشبث بروح الاستكبار والانتماء للماضي الاستعماري البغيض ويبقيها اسيرة الارتباط به وتمنعها بتسمية المسميات باسمائها.


جرى الحديث عن ضحايا وعن حقوق لحالات محددة وهي جزء صغير من كل واسع اولا ثم جرى استبدال مصطلحات العنف بالقمع والاصطدامات في شوارع باريس ومذابح نهر السين بتظاهرات انسانية سلمية ضد التمييز والاضطهاد فصارت المفردة تسمى مجازر، وحتى نعت بعض المجرمين من قادة البوليس وجنرالات الجيش الفرنسي التي وصلتهم لعنات التسميات الجديدة ونعتهم كمجرمين بالسفاحين كبيجار وغيره.


وتلك خطوات في الاتجاه الصحيح تفرضها نباهة وصلابة الموقف الجزائري من جهة ووضع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الفرنسية في المنطقة عندما تعيش اوربا الآن حالات الركود الاقتصادي والبطالة والكساد وتطالها شرور الازمة الاقتصادية العالمية ونكبات المغامرة الامريكية في زج الناتو والدول الاوربية في حروب وغزوات لاجدوى منها سوى خراب العالم. وعندما تمهد الدبلوماسية الفرنسية خطوات مريحة لزيارة الرئيس الفرنسي المرتقبة للجزائر فان الاعتراف ببعض شرور الماضي الفرنسي البغيض في الجزائر والدعوة الى تناسيه من دون اقرار ومحاسبة هي كمن يرمي شباكه في الهواء محاولا ان يحتجز هواء الانفاس والتحكم بجرعات الاوكسجين النقي عند الحوار القادم.


جرى التصريح عن نية إقرار تعويضات لضحايا التجارب النووية والاستعداد للتعاون في تطهير المناطق الملوثة بالاشعاع وعن تقديم معلومات من الارشيف الاستعماري والارشيف الوطني المنهوب، ويجري الحديث عن إعادة مدفع بابا مرزوق ، الذي كان بحوزة الدولة الجزائرية في عهد الداي حسين، الذي استلبته القوات الفرنسية الغازية غداة وطأة اقدامها البغيضة التراب الجزائري عام 1830، كما جرت الاشارة بتصريحات منسوبة الى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن تعاطفه مع ضحايا تظاهرات 17 اكتوبر 1961 ووصف افعال مرتكبيها بالاجرام وممارساتهم بالمجازر.


هذا التمهيد الذكي لانجاح زيارة دولة إلى الجزائر ينتظر خطوات اخرى لتمرير البرنامج الذي تحتويه هذه الزيارة في ظل خطاب فرنسا الجديد موجه الى الجزائر بشكل خاص. وطبقا لتصريحات صحفية متفاوتة أخرى سربت اخبارا: مفادها أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند سيتطرق في زيارته المقررة إلى الجزائر شهر ديسمبر القادم إلى بعض الملفات العالقة في الذاكرة التاريخية بين البلدين، سيكون الاعتراف بها ومعالجتها، بداية لصفحة جديدة في سير العلاقات التاريخية بين البلدين.


وتعبيرا عن تباشير فتح تلك الصفحة، وكما قيل، سيقوم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بتسليم مفتاح الجزائر العاصمة إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كخطوة رمزية ومبادرة لحسن النية وإظهار التوجهات الجديدة للعلاقات بين دولة الاستعمار القديم والدول التي استرجعت استقلالها المستقلة عنها عبر ثورة تحرر وطني شهد لها كل العالم بالبطولة والتضحيات الجسام وقوة المثل لشعوب العالم.


ولا شك ان خطوة كهذه، مرحب بها، على كل الاصعدة، ولكن يجب عليها ان تستكمل المسارات الاخرى المعلقة منذ خمسين سنة حول جوانب التركة الاستعمارية وخرابها الكبير في الجزائر، ومنها فتح ملف الإبادات الاستعمارية، ومحاسبة مرتكبيها، ولو أخلاقياً وتاريخيا، بالاعتراف الواضح بمسؤولية الخطايا الاستعمارية دون لبس او اوهام في صياغات بلاغية اعتدنا التلاعب في تفسيراتها عند المحاسبة، ونحن بانتظار زيارات كثيرة أخرى للمسؤولين بين البلدين ومنها ستتمكن الجزائر ان تستعيد الكثير ما سلب منها من اموال وكنوز ثقافية وحضارية واشياء قد تبدو صغيرة لكنها ذات دلائل اعتبارية كبيرة منها مثلا استعادة المدفع الوحيد الذي كان بحوزة سكان مدينة الاغواط نهاية عام 1852، تلك المدينة الجزائرية الشهيدة التي ابيدت بقتل ثلثي سكانها بالاسلحة الكيمياوية في نهاية 1852 على يد المجرم الجنرال بيليسيه وباوامر سيده الجنرال بيجو، نذكر ان الجنرال بيليسيه صاحب أول استخدام وممارسة اسمها الهولوكوست في العالم، كتبها مفتخرا بفعلته وهو يسترجع مدفعا استعماريا هولنديا غنمه رياس البحر في عرض المتوسط . بيليسيه لم يوقف القصف المدفعي الكيمياوي بالغازات الخانقة وخاصة الكلوروفورم وتسبب في قتل ثلثي سكان مدينة الاغواط الجزائرية البالغ تعدادهم آنذاك 5000 مواطن ولم يشرب قهوته على ربوة الاغواط قبال ضباب غازاته الخانقة السامة القاتلة الا بفرض اول شروطه لاستسلام المدينة واسر ما تبقى من اهلها الا بتسليم المدفع الوحيد الموجود لدى ثوار المدينة، والذي سبق ان غنمه أحد رياس البحر من احد الأساطيل الاستعمارية الهولندية في حوض المتوسط، وعند احتلال العاصمة الجزائر نقل الاهالي المدفع الى الجنوب رغم عدم توفر ذخيرته واحتفظ به في الاغواط رمزا لانتصار الدولة الجزائرية القائمة على الغزاة آنذاك وكذكرى لانتصار الجزائر على قراصنة البحر الابيض المتوسط من الهولنديين والاسبان والبرتغاليين والفرنجة... وباسم صفحة "رقان في الذاكرة" على الفيسبوك وموقعنا "صرخة الصحراء" كنا قد وجهنا نداء يطالب ايضا باستعادة مدفع مدينة الأغواط؛ لان الفرنسيين غنموه وتعاملوا في قضية استرجاعه كغنيمة حرب بعد اول ممارسة لابادة اجرامية باستعمال الغازات الكيمياوية يستخدمها جيش غازي في تاريخ العالم، عندما قصفت مدافع الجيوش الفرنسية المدينة باول سلاح كيمياوي قاتل في التاريخ العسكري للحروب والغزوات نهاية نوفمبر ومنتصف ديسمبر 1852م .


وكما نشرت وكالة الانباء الجزائرية بما أشارت اليه اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان وحمايتها في الجزائر يوم الأحد الماضي إلى أن [ ... الاستعمار كان "جريمة كبيرة" يجب على فرنسا أن تبدي ندمها عليها إذا كانت تفكر في إقامة مع الجزائر علاقات نوعية حقيقية محررة من ماضي مأساوي].

وكما أوضح رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان وحمايتها الاستاذ الحقوقي فاروق قسنطيني في تصريح نشر عشية إحياء الذكرى الـ 58 لاندلاع الثورة الجزائرية أن "الاستعمار كان جريمة كبيرة يجب على فرنسا أن تبدي ندمها عليها إذا كانت تفكر في إقامة مع الجزائر علاقات نوعية حقيقية جديدة ومكثفة ومحررة من ماضي مأساوي عانى خلاله الشعب الجزائر ما يتعذر وصفه ولم يخرج منه سالما ولا يمكن أن يمحيه الزمن من ذاكرته".


ونتفق مع التصريح تماما بما ذهب اليه ".. أن الندم ليس عقابا مهينا و لا اعترافا، كون مساوئ الاستعمار معروفة دائما؛ بل بات التعبير عن أسف أصبح متأخرا، يصعب علينا فهم تردد الدولة الفرنسية الحالية على الاعتراف رسميا بأخطاء الأجيال السياسية التي سبقت والعمل على أن تغفر من قبل ضحاياها".


لقد "تعرض الشعب الجزائري للقمع بلا هوادة طوال 132 سنة، بحيث أبقي على الاستعمار بالسيف والنار" وأن "التاريخ يذكر بأنه خلال القرون الماضية كانت فرنسا دائما بلدا عدوانيا حارب أوروبا قاطبة وكذا نصف العالم مظللة في ذلك بثقافة غزو الأراضي والحاجة لبناء امبراطورية"، وقد خابت جميع الغزوات الفرنسية بدءا بغزو مصر في عهدة نابليون وانتهاءا بغزو واحتلال الجزائر عام 1830م.


لم يعد القول الذي تردده كثير من الاوساط الفرنسية مقبولا حينما يرون ان استعمار الجزائر يظل في الذهنية الفرنسية مجرد حدث عادي تاريخي مردوم دون نبش ولا يستدعي العودة له رغم حجم المئآسي النفسية والاجتماعية والتركات الكارثية المادية منها التي خلفتها سنوات الدمار الشامل لسلطات الحقبة الاستعمارية واكثرها تجسيدا الآن في الصحراء الجزائرية بقاء وعمرا لعشرات الالوف من السنين القادمة.


فرنسا تركت مسرح التفجيرات والتجارب النووية والكيمياوية ملوثا بالمواد المشعة القاتلة والباقية في تأثيراتها لالاف السنين وهي متروكة الآن في العراء من دون معالجة أو تطهير وباستمرار المكابرة الفرنسية يرفض القادة الفرنسيون الاقرار بحقوق الضحايا الذين يئنون على مدى عقود امامها ويضعون ملفاتهم أمام اجهزة " عدالتها" وهي متروكة ومهملة من دون اعتراف أو حتى رد او اعتراف باستلام الشكاوى.

 

 





الاربعاء ١٥ ذو الحجــة ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣١ / تشرين الاول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة