شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ سنوات وأنا اقرأ واسمع وأتابع ما ينشر من شهادات منسوبة إلى بعض سكان منطقة فقيق أو " فجيج"، المدينة المغربية الحدودية المقابلة لبني ونيف التابعة لولاية بشار، وهي المدينة الأقرب إلى منطقة وادي الناموس الجزائرية التي شهدت على مدى سنوات طويلة سلسلة التجارب الكيمياوية الفرنسية التي يقدرها البعض بأربعة عقود، امتدت من منتصف الثلاثينيات الى نهاية السبعينيات من القرن الماضي.


ويعتقد البعض أنها امتدت حتى عام 1978 حسب بعض المصادر الإعلامية والعلمية الفرنسية المنشورة، واستنادا إلى مجلة البحوث الفرنسية، التي اعترفت بجملة من الحقائق ذات الصلة بالموضوع، نشرتها في عدد خاص لها مكرس حول التجارب الكيمياوية الفرنسية بوادي الناموس. والمعروف أيضا ومن مصادر موثقة لدينا ان منطقة بني ونيف اجريت فيها اغلب التجارب الكيمياوية الفرنسية ذات الطابع الحربي. كانت الأسلحة الكيمياوية المجربة هناك متنوعة المصادر والتأثير والأغراض، ومنها من انتاج فرنسي أو بريطاني وجرى تجريبها في بني ونيف منذ 1939. كما ازدادت التحضيرات لتجريب تلك الأنواع من الأسلحة الكيمياوية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؛ استعدادا وتحسباً من قوات الحلفاء لمواجهة احتمال لجوء القوات الألمانية إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية في الحرب، بعد تتالي هزائمها على عديد جبهات الحرب في أوربا وشمال افريقيا.


وليس بعيدا عن تلك المنطقة، لا بد من الإشارة هنا لنفس السياق إلى أن منطقة حماقير من ولاية بشار الجزائرية شهدت الكثير من تجارب إطلاق الصواريخ القريبة والبعيدة المدى وتطلق من عديد الوسائل الثابتة والمحمولة تحمل قذائف ورؤوس متفجرة، ومنها أيضا تحمل رؤوسا حربية غير تقليدية، لا يستبعد أن تكون بعضها تحمل رؤوسا كيمياوية، سقط العديد من تلك الرؤوس الحربية في مناطق متفرقة عبر المساحات الشاسعة حول منطقة الاطلاق في قاعدة حماقير الفرنسية للصواريخ. تلك القاعدة العسكرية كانت متخصصة لإطلاق وتطوير الصواريخ منذ عام 1956 وبخبرات إسرائيلية وفرنسية مشتركة. هناك تم تطوير وإطلاق مجموعة صواريخ أريحا الإسرائيلية ومعها مجموعة الصواريخ الفرنسية القريبة والبعيدة المدى التي أسست لإنتاج صواريخ ايريان الفرنسية. هناك شهادات للسكان الجزائريين، ومنها شهادة أفاد لي بها السيد عبد الحق بن جبار، المجاهد في جيش التحرير، ولاحقا الضابط في صنف الهندسة في احد وحدات الجيش الوطني الشعبي الذي كلف رسميا بمعية أفراد من ضباط وضباط صف الجيش الوطني الشعبي الجزائري بمسؤولية استلام قاعدة رقان النووية من الفرنسيين بعد قرار انسحاب الفرنسيين منها نهاية عام 1967، وحسب شهادته انه خلال تجواله في بوادي المنطقة البعيدة عن رقان عرف وسمع عن الكثير من حوادث في مناطق صحراء بشار تنم عن سقوط ضحايا بين السكان البدو الرحل منها سقوط قذيفة صاروخية عليهم وهم في ينزلون بأحد الأماكن النائية والمعزولة في الصحراء، وسبب الحادث مقتل وجرح العديد منهم، وفي تلك المرة سارعت القوات الفرنسية المحمولة جوا الى محاولة دفع الفدية لأهالي الضحايا ومنع السكان عن التصريح العلني عن الحادث كي تتفادى الإحراج مع السلطات الجزائرية وغيرها.


وتعقيبا على تلك المقالات التي تناولت الامراض الغريبة في فيقيق "فجيج" ومنها مقالة السيد لحياني أحمد المنقولة عن صحيفة "هدى برس" والتي اعاد نشرها على موقعنا " صرخة الصحراء" الباحث القدير الاستاذ عبد القادر الفيتوري بتاريخ 2 نوفمبر 2012 مشكورا.


المقالة تتحدث عن شحة المعلومات لدى كاتبها وما كتب عن الموضوع، وكما أشار الى ذلك نصاً: [ ....ظل شح المعلومات المتعمد حجتنا الوحيدة التجارب النووية في منطقة كانت تعرف باسم ( ماكير ) الجزائرية، على مقربة من واحة فجيج سنة 1969 حيث أن معظم المصابين بالسرطان وأمراض التنفس من ساكنة المدينة، يرجعون قدرهم إلى الواقعة إضافة إلى عدد كبير من الأطفال لقوا حتفهم بصفة مهولة في تلك الفترة بل إلى اليوم....].


وتصحيحا لهذا القول نشير انه : ربما أن ترجمة أسماء المناطق الجزائرية والمغربية من الفرنسية وغيرها الى العربية سيخلط الكثير من الحقائق بتحديد تلك الأماكن وأحداثها، وربما المقصود هنا من كلمة " ماكير" هي حماقير الجزائرية، المنطقة الأقرب الى الحدود المغربية من ناحية شرق فقيق أو "فجيج" .


وهنا لا بد من توضيح هام حول مديات وأخطار التلوث الإشعاعي الناجم عن تفجيرات رقان النووية الفرنسية في ستينيات القرن الماضي وعن احتمال وصول تلك الملوثات المشعة الى محيط بعيد نسبيا عن مناطق التجارب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في ذلك الإقليم الصحراوي المفتوح مناخيا وجغرافيا.


إن الإشارة إلى ربط مانشره "فلورون دو فاتير"، الباحث الفرنسي، الذي قام بتحقيق دام ثماني سنوات كاملة، أشرف عليه هذا الخبير الفرنسي وربطه في استنتاجاته المستخلصة عن البحث بوجود علاقة بين تفشي حالات السرطان وتأثير الاشعاع الناتج عن القنابل النووية الفرنسية ومخلفاتها، هذا الاستنتاج الذي توصل اليه الباحث من خلال تحليل نتائجه ومتابعة عيناته المدروسة حول حالات مدروسة من الجزائر وجزر بولينيزيا والمحيط الهادي وأفراد من القوات الفرنسية الذين شاركوا في تلك التفجيرات والتجارب. وتلك النتائج قد اشرنا اليها سابقا لانها تأتي لتؤكد الى ما ذهبنا اليه مبكرا منذ أكثر من عقدين ونشرناها في كتبنا وأبحاثنا العلمية الجامعية منذ بداية التسعينيات.


وبما أن دراسات "فلورون دو فاتير" وغيره لم تتطرق أبداً إلى الإصابات السرطانية خاصة، وغيرها من الأمراض في مناطق التراب المغربي، وخاصة تلك المناطق الأقرب إلى الحدود الجزائرية فلا بد علينا أن نقدم إسهامنا ورأينا حول هذا الجانب، وربما إننا نتطرق إلى هذا الموضوع من زاوية تخصصنا لأول مرة، وللأسف ان هذا جانب مهمل كليا في مجال البحوث والدراسات سواء في مناطق بعيدة عن ولاية تمنغست والحدود شرق الجزائر باتجاه الحدود الليبية أو الجنوب باتجاه النيجر وتشاد، وكما هو الحال مع المناطق الليبية التي وصلتها آثار التجارب النووية الفرنسية الباطنية وخاصة تلك التجارب والتفجيرات النووية الفاشلة مثل بيريل وسافير ومونيك وغيرها التي خرجت فيها المواد الإشعاعية من تحت الجبل لتكتسح مئات الكيلومترات شرقا. وما عدا إسهامات واصرار ومتابعة الباحث الليبي القدير الاستاذ د. عبد القادر الفيتوري؛ لأصبح الموضوع مسكوتاً عنه في ليبيا والى الابد.


وعلى الجانب الغربي من الجزائر يبدو أن سلطات الحكومة المغربية لم تسمح يوما بإجراء بحوث أو إجراء رصد ميداني والتقصي عن اسباب الزيادات في الحالات السرطانية المسجلة هناك، وما كتب عن هذا الموضوع بات معدوما، إلا ما ندر من مقالة او اثنين او تعليقات على الانترنيت كتبها مواطنون وصحفيون مغاربة وكلها تتحدث عن شهادات منسوبة لعدد من الشهود الذين سجلوا انطباعاتهم وذكرياتهم عن الوفيات والأوبئة وحدوث العديد من التسممات في البشر والحيوانات لدى سكان فقيق "فجيج" في وقت التجارب، أي سنوات منتصف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ويبدو ان الكل تجاهلوا دور الإشعاع الناجم عن التفجيرات النووية الفرنسية في الحمودية، جنوب رقان بولاية أدرار، وبعدها في عين ايكر في الهوقار، شمال مركز ولاية تمنغست الجزائرية، وهذا الاستبعاد والتجاهل لمخاطر إشعاع القنابل النووية يبدو منطقيا للوهلة الأولى لمن لا يعرف علوم الإشعاع كمتخصصيها، نظرا لقناعة العديد ممن تناولوا الموضوع ، ومنهم عدد من الباحثين والأطباء والمؤرخين المغاربة وحتى الجزائريين بما يتعلق بحالات مماثلة على الجانب الجزائري.


المعروف ان فقيق" فجيج" تبعد عن رقان قرابة 850 كم، ويعتقد البعض انه قد لا يصلها تاثير الاشعاع النووي الفرنسي الناجم عن تفجيرات وتجارب الصحراء الجزائرية، فذهب البعض الى الأسهل والأيسر في التفسير فتحدثوا عن الأسلحة والتجارب الكيمياوية في وادي الناموس وتجاهلوا تفجيرات وتجارب رقان. وللحقيقة العلمية لا بد ان نشير هنا بوضوح انه رغم عدم استبعاد العامل الكيمياوي والتسمم الكيمياوي المسبب للسرطان بشكل مباشر وغير مباشر، لكنه يبدو أيضاً أساسي في كثير من الحالات.


يبدو لنا، من خلال حقائق اطلعنا عليها متأخرا عن شهادات موثقة: إن أسباب التسرطن في مناطق اخرى، بعيدا عن رقان، سواء في فقيق او غيرها من مدن جزائرية أو مغربية يعود الى التعرض الاشعاعي الناجم عن نقل كميات لا يستهان بها من النفايات الحديدية والنحاسية المنقولة من منطقة قاعدة رقان النووية الفرنسية بعد هجرها الى مدن بعيدة ومنها فقيق المغربية. نذكر هنا ان منطقة قاعدة رقان النووية العسكرية الفرنسية ظلت مفتوحة ومهجورة، ومن الصعب حراستها ومنع السكان من اجتيازها، أو حتى إدراك لدى الناس والمسؤولين بوجود نشاط اشعاعي لازال نشطاً في مكونات التركة الفرنسية في عين المكان، لكن المنطقة بما فيها القاعدة ومركز التجارب ومناطق الصفر لستة تفجيرات نووية ضخمة اضافة الى عديد التجارب النووية الاخرى المجهولة الأماكن والأغراض والطاقات ظلت مفتوحة ويتجول بها السكان والبدو الرحل، إضافة الى الفضوليين والسكان العاديين وقوافل البدو وتجار الخردة وغيرهم .


ان هناك شهادات هامة موثقة اطلعنا عليها خلال ايام الندوة الدراسية التي اقامتها جامعة ادرار في 13 فيفري 2012 حول مخاطر التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية تحدث بها بعض الشهود عن دور تجار الخردة، وهم من اهالي رقان ومن ولاية بشار، وهم معروفون بالأسماء والحقائق التفصيلية بالمنطقة ولهم من العلاقات والنفوذ ان قاموا بتجريد القاعدة وما تركه الفرنسيون من كل ما هو حديدي ونحاسي ونبش ما هو تحت الأرض او ظهر فوق الرمال، وباستخدامهم فقراء وعمال مدينة رقان المنكوبة إشعاعيا وبأجور زهيدة، قاموا بجمع ونبش الحفر والمسالك والأنفاق بأياديهم وأجسادهم العارية في منطقة الحمودية لاستخراج الوف الأطنان من الحديد والمعادن الأخرى، وجمع ما تبقى من الأجهزة الكهربائية والمعدات ومحولات الطاقة والعربات المدنية والعسكرية وهياكل للطائرات التي استخدمت خلال التجارب، وحتى بقايا نماذج لهياكل السفن والدبابات وناقلات الجنود كما تم نقل أجهزة التبريد ومئات الكيلومترات من الاسلاك الكهربائية النحاسية الممتدة عبر منطقة التفجيرات وقاعدة الحياة للقوات والخبراء وغيرها.


كل هذه المواد وكما هو معروف نفايات نووية مشعة وخطرة سجلنا شهادات عن وفيات مست بعض تجار تلك الخردة النووية وعدد من العمال من أهل رقان وبشار وغيرهم .


لقد كانت النقطة الأقرب والأسهل للتهريب والنقل عبر الحدود هي الاتجاه نحو حدود ولاية بشار ومنها الى المغرب نحو مدينة فقيق " فجيج" وغيرها من المنافذ الحدودية المتداخلة بين الجزائر والمغرب. من هناك وخلال سنوات ما بعد 1967 تم نقل تلك الخردة المشعة وبألاف الاطنان من منطقة رقان، ولهذا انتقلت كميات كبيرة من اطنان النحاس المشع الذي يتم استحصاله بعد استعمال او تذويب النحاس وبقية المعادن المنقولة من صحراء الحمودية برقان ومنها الى عديد مدن الحدود المغربية لتصير تلك المعادن على يد الحرفيين والعمال والسكان ادوات زينة وقلائد وأسورة وحلي وحتى ادوات للطبخ المنزلي والصناعات التقليدية التي تعرفها المنطقة.


وصلت الحالة في عديد المرات، ان هؤلاء التجار الجهلة نقلوا معهم الموت ووصل الأمر إلى نقل التراب المشع من منطقة الحمودية الى مدن الحدود المغربية، وحتى بعض المدن الجزائرية، وهي على شكل كتل من المنصهرات الصخرية والرملية كانت تبدو غريبة الأشكال وهي منصهرة يتم جمعها من موقع التفجيرات والتجارب النووية الفرنسية تذاوبت وانصهرت نتيجة الحرارة العالية الناجمة عن التفجير النووي فظهرت كتل من المواد بألوان براقة وتداخلات خلابة فيها مزيج من منصهرات المعادن والرمال والطين في تربة عند موقع التفجير، وخاصة منطقة الصفر، لتنقل وتباع في الأسواق والمحلات السياحية والعادية وهي على شكل حلي ولقط اشبه بلقط منصهرات البراكين وبقايا النيازك الساقطة على الأرض.


ان حركة انتقال تلك المواد وهي نشطة إشعاعيا ووصولها إلى ابعد المناطق وعند تماسها او تصنيعها او اقتنائها فإنها تفعل دورها المباشر وغير المباشر في إحداث الأمراض السرطانية وغيرها لدى فئات سكانية بعيدة ليسوا على صلة بمنطقة رقان أو غيرها ومر الموت بالإشعاع عبر مناطق لم تخطر على بال احد. ولا شك أن المسؤولية الرئيسية تتحملها الحكومة الفرنسية ومنظمتها للطاقة الذرية والجيش الفرنسي الذي ترك تلك المناطق من دون تحذير أو توفير معطيات كاملة عن المخاطر المرتقبة والمحتملة للجانب الجزائري وحتى للوحدات العسكرية والسلطات المدنية التي استلمت تلك المواقع بعد الانسحاب الفرنسي منها في ديسمبر 1967. كما لم تتم معالجة المواد المشعة والمعدات ولم يتم دفنها او تطهيرها بشكل يقلل من أخطارها. لقد تركت فرنسا ألوف الأطنان من المعدات والمواد كخردة نووية في العراء مما سهل على اللصوص والمحتاجين والتجار والفضوليين اقتناء واخذ ما يريدونه ونقله الى المدن والقرى البعيدة في الجزائر ا والى المغرب.


كما تتحمل سلطات الحدود المغربية وغرف الصناعة وحتى المسؤولين المحليين والمركزيين هناك عن تمرير مثل هذه الغفلة القاتلة وهي التي كانت تشجع على عبور السلع المهربة، ومنها الشاحنات المحملة بالخردة وبآلاف الاطنان إلى التراب المغربي وكانت وستبقى فيقيق "فجيج" نموذجا لتلك المأساة التي سببتها المغامرة النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية في ستينيات القرن الماضي ولا زالت جرائمها المستمرة تحصد الارواح على تراب بلد عربي آخر.

 

 

 





السبت ١٨ ذو الحجــة ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٣ / تشرين الثاني / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة