شبكة ذي قار
عـاجـل










مستندين إلى نصوص مستلة من كتاب ( في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام ) لمؤلفه حسن خليل غريب، سنقدم للقارئ الكريم رؤيتنا لمصطلحات ومفاهيم ثلاثة، وهي: المسألة الشرقية، والعلمانية، والديموقراطية، في إطارها التاريخي والفكري. وهذه النصوص هي مقاطع متسلسلة من الفصل الرابع للكتاب المذكور.

 

لعلَّ في إعادة نشر هذه المقاطع فائدة للقارئ الكريم، خاصة وأن هذه المفاهيم أصبحت على علاقة وثيقة مع المرحلة الراهنة، سواءٌ فيما له علاقة بالحراك الشعبي العربي الذي يعمُّ معظم أقطار الوطن العربي من ناحية، أم كان في توضيح مصير هذه المفاهيم مع وصول حركات الإسلام السياسي إلى أكثر أنظمة الحكم من ناحية أخرى. لذا سننشرها تباعاً وعلى مراحل ثلاث. كما ونلفت نظر القارئ الكريم الذي يودُّ متابعة المفاهيم الثلاث، في سياقاتها التاريخية والمعرفية أن يعود إلى كتابنا المذكور والذي نشرناه في معظم وسائل الأنترنت، وبشكل خاص في مدونة العروبة.

 

وهنا سنبدأ بنشر المقاطع ذات العلاقة:

 

1-المسألة الشرقية وتأصيلها تاريخياً.

2-المسألة الديموقرطية في ميزان الحركات الإسلامية.

3-المسألة العلمانية في ميزان الحركات الإسلامية.

وهذا هو النص الحرفي لموضوع

 

( المسألة العلمانية في ميزان الحركات الإسلامية ) :

 

4-المؤثرات الفكرية-السياسية الغربية، ثورة فصلت بين الديني والسياسي

لم يستطيع العلماء المسلمون الإصلاحيون، إنكار مدى عمق التخلف والعجز الذي عانى منه المسلمون والعرب من النظام السياسي والاقتصادي للامبراطورية العثمانية فكانت دعواتهم، متأثرة برياح الفكر السياسي الأوروبي، وقائمة على إصلاح هذا النظام بتزويج مسألتين: العودة إلى أصول الإسلام والسلف الصالح من جهة، والاستفادة من القفزة الحضارية العلمية للغرب من جهة أخرى.

 

في المقابل كانت الطفرة الحضارية في أوروبا، في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد وصلت إلى أقصى آمادها عندما استطاعت أن تحقق فصلاً بين الديني والسياسي، من بعد أن بدت الصورة أمام الأوروبيين، في خلال القرون الوسطى، واضحة في أن الطغيان الديني على السياسي كان عاملاً مؤثراً بين التخلف والتقدم.

 

دفعت هذه النتيجة بالقوميين، تحديداً، إلى الدعوة للفصل بين الديني والدولة؛ ولئن ظهرت بدايةً تحت شعار  «الدين لله والوطن للجميع»، إلاَّ أنها اكتسبت مضامينها العلمية بعد أن أخذت تناقش مبادئ سياسية، مثل: الديموقراطية والعلمانية والاشتراكية والقومية، وهي المبادئ ذاتها التي انخرط الإسلاميون السلفيون والإصلاحيون في مناقشتها وتحديد المواقف منها.

 

أ- مبدآ العدل والمساواة، تعبير واحد لمضمونين مختلفين: إن ما نريد أن نثبته هنا، ليس تحديد مضمونهما الفلسفي، بقدر ما نريد أن نحدد مفهومهما السياسي.

هذان مبدآن قديمان، ولم تأت الثقافات الجديدة بتعريفات لهما تُعَدُّ قفزة نوعية في تاريخ الفكر الإنساني. لكن ما يكسبهما أهمية في سياق بحثنا هذا، هو أنه منذ تأسست الدولة الإسلامية وحتى انتهاء آخر مظاهرها، الامبراطورية العثمانية، كان مبدآ العدل والمساواة يكتسبان مفهومهما النسبي، فما كان يبدو عدلاً ومساواة في داخل طبقة من المسلمين لم يكن كذلك عند طبقة أخرى. وما كان يبدو عدلاً ومساواة بين المسلمين لم يكن يعني ذلك عند أصحاب الديانات الأخرى. إذ إنه عندما يتجاوز حدود تطبيقهما المجتمع الإسلامي إلى الأقليات من أصحاب الأديان الأخرى، خاصة أصحاب الكتاب، وهم الأقرب إلى الدين الإسلامي تبدأ الإشكالية الحقيقية، لماذا ؟

عندما يطبق المسلمون مبدأ "الذميَّة" على النصارى واليهود، فإنما يعتقدون بعدالة هذا المبدأ استناداً إلى القرآن الكريم؛ فلا يجوز للمسلم أن ينفي عدالة هذا الأمر لأنه أمر إلهي. لكن في المقابل ينفي الكتابيون عدالته، لأن فئة من مواطني الدولة الإسلامية، غير مشمولة بعدالته.

 

فإن ما يعدُّ مبدأ عادلاً عند فئة من المواطنين ليس،بالضرورة أن يكون كذلك بالنسبة لفئة أخرى؛ فمبدآ العدل والمساواة عند المسلمين وفي دولة إسلامية، هو غيره عند المسيحيين أو اليهود أو الصابئة. فهما أمر إلهي عند الطرف الأول، وشأن سياسي لا علاقة له بالدين عند الطرف الثاني. لهذا تولَّدت عنهما إشكاليات متتالية برز التناقض فيها بحدة عند أول فرصة شعر فيها المسيحي بالقوة التي تسانده في موقفه الرافض لمبدأ «الذمية»، بعد أن كانت هادئة مستكينة، طوال ثلاثة عشر قرناً ونيف، كانت فيه الدولة الإسلامية قادرة على لجم المعترضين على مبدأي العدل والمساواة المطبَّقين على رعاياها من غير المسلمين.

 

في الوقت الذي كان فيه المسيحيون العرب غير قادرين على تجاوز تلك الإشكالية، وجد بعض المسيحيين اللبنانيين مخرجاً حينما اتجهوا نحو الدعوة إلى مبدأ القومية العلمانية، الذي سبق وأن وجد فيه الغرب حلاً لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة.

 

فمبدآ العدل والمساواة، قد يتحققا بضمان الحقوق السياسية لجميع المواطنين في ظل دولة ما، إذا فُصل الديني عن السياسي.

ليست المشكلة محصورة في حل إشكالية المساواة في الحقوق السياسية بين المسلمين والمسيحيين فحسب، وإنما ستظهر أيضاً إذا استقرأنا تاريخ العلاقات المذهبية بين الفرق والمذاهب الإسلامية. ومن خلال هذا الاستقراء سنرى  أكثر من محطة حُرِم فيها مذهب أو أكثر ليس من حقوقه السياسية فقط، وإنما حُرِم من ممارسة حقوقه الفقهية أيضاً.

 

لكن إذا كان حل إشكالية العدل والمساواة، بين المسلمين والمسيحيين، أو في داخل دولة تتعدد فيها المذاهب الدينية، للمحافظة على وحدتها السياسية، يكمن في المبدأ القومي العلماني، فإن تيار الإصلاحيين المسلمين، وعلى الرغم من دعوتهم إلى التآزر والوحدة بين أبناء الوطن الواحد، وعلى الرغم من أنهم يعتقدون بأن الإسلام لا يضيق صدره بالوطنية أو القومية إلاَّ أن ذلك مشروط بأن لا يتضمنا محتوى يعادي الإسلام أو «ينافيه كالإلحاد أو العلمانية...» ( [1] ) .

 

ب- العلمانية نتاج فكري غربي لإسقاط الديني لصالح السياسي: فالعلمانية وليدة للصراع الطويل والشديد بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا، جاءت كجملة من التدابير النظامية والقانونية، «استهدفت فك الاشتباك بين السلطتين، باعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة، بما يضمن حياد هذه تجاه الدين، أي دين، ويضمن حرية الرأي الفكري والعقيدة الدينية، ويمنع رجال الدين عن إعطاء آرائهم واجتهاداتهم صفة مقدسة باسم الدين، ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة» ( [2] ) .

 

فالعلمانية فصلت بين الممارسة الدينية، التي عدّتها ممارسة شخصية، والممارسة السياسية التي نظرت إليها كممارسة اجتماعية، ورفضت معاملة المواطن من خلال انتمائه لطائفة معينة، لكن دون أن تعادي الإيمان الديني أو تنادي بالإلحاد ( [3] ) . فالعلمانية كمؤثر فكري- سياسي- أوروبي، كانت له انعكاساته على شتى التيارات النخبوية العربية والإسلامية، فكيف كانت هذه الانعكاسات ؟ لنسرد بعض النماذج:

 

- على الرغم من أن بعض العلماء المسلمين الإصلاحيين، كعبد الرحمن الكواكبي، يدعون إلى فصل الدين عن الدولة ( [4] ) ، يرى بعض علماء الدين المسلمين أن العلمانية هي بدعة استخدمها الاستعمار في معركة شرسة ضد الإسلام فغزت «مؤسسات التعليم والثقافة من جهة، فأحكمت سيطرتها عليها، وتسللت إلى مؤسسات التشريع والقضاء من جهة أخرى» ( [5] ) .

 

رفض عدد من التيارات الإسلامية مبدأ العلمانية وأنكروا صلاحيتها للشرق المسلم لأسباب تاريخية وعقيدية، واعترفوا بصلاحيتها للغرب المسيحي لأسباب عقيدية وتاريخية، أيضاً.

فالمسيحية، كما يحسب أحد مفكري هذه التيارات، تقبل قسمة الحياة بين الله وبين قيصر، وهي تعترف أيضاً بثنائية الحياة كما جاء في قول السيد المسيح «أعط لقيصر ما لقيصر وما لله لله»، فتاريخ الفكر الغربي «لم يعرف الله الذي نعرفه نحن ( المسلمون ) ، محيطاً بكل شيء، مدبراً لكل أمر، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب من علمه ذرة... ( إنم ) إله الفكر الغربي إله آخر، مثل إله أرسطو، الذي لا يعلم شيئاً غير ذاته، ولا يدري عما في الكون شيئاً، ولا يدبِّر فيه أمراُ، ولا يحرك ساكناً» ( [6] ) .

 

ويستطرد قائلاً، بأنه ليس في المسيحية تشريع لشؤون الحياة: إنما روحانيات وأخلاقيات، أما الإسلام فهو عقيدة وشريعة ( [7] ) ، فالمسيحي إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيراً، ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه، ولا يشعر بالتناقض بين عقيدته وواقعه ( [8] ) .

 

ففي المسيحية سلطتان: دينية ويمثلها البابا، ودنيوية يمثلها الملك أو رئيس الجمهورية، أما في الإسلام فإذا فصلت السلطتان يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده ( [9] ) . وتاريخ الكنيسة غير تاريخ الإسلام: فتاريخ الكنيسة، مع العلم والفكر والحرية، تاريخ مخيف، مشهور بالاضطهاد والقتل ومحاكم التفتيش ( [10] ) .

 

وبعد أن يعدد القرضاوي  هذه المطاعن يتساءل: «فهل الإسلام كان كذلك ؟ وهل يمكن أن يؤاخذ بمثل ذلك ؟ ليجيب: "إن وقائع التاريخ وحقائق الإسلام تجيب بالنفي» ( [11] ) .

فمن أجل هذا لا يتصور القرضاوي للعلمانية أن تنجح في بلد إسلامي، لأنها مناقضة لطبيعة الإسلام، الذي تدين به الشعوب المسلمة، ومناقضة لمضامينه وسلوكه وتاريخه، ولا يوجد أي مبرر لقيامها، كما وجد ذلك في الغرب النصراني ( [12] ) .

 

من داخل هذا التيار يعتقد محمد مهدي شمس الدين  «أن الإسلام يوجد فيه نظام حياتي كامل لا يترك مجالاً لأي نظام آخر، ولا يدع منفذاً للشعور بالحاجة إلى تنظيم جانب من جوانب الحياة، لأن الشريعة الإسلامية، بقواعدها الكلية العامة وبالفقه الذي بني على أصليها الكبيرين ( الكتاب والسُنَّة ) ، شاملة مستوعبة لكل ما تقضي به سنة الحياة إلى نظم وأحكام» ( [13] ) .

 

لكن على الرغم من ذلك، فإن وقائع التاريخ الإسلامي لم تجب بالنفي على وجود مطاعن، كما يحسب القرضاوي، مثلاً، لأن هذا التاريخ شهد عدداً من محطات الصراع الدموية بين السلطة السياسية- الدينية الإسلامية و خصومها من أتباع مذاهب أخرى غير مذهب السلطة، بلغـت  حدودها  حدود  الثأر و الانتقام، و هنا «نلاحظ الآثار  السلبية والمؤذية لحرية الفكر من جراء الانحياز الذي تبديه الدولة لمذهب ديني معين» ( [14] ) .

وإن ما يطرحه أنصار هذا التيار من إبراز لإيجابيات لا طائل تحتها، ونفيهم لوجود سلبيات، ليس إلاَّ تضخيماً غير مبرر للذات، وهو يلعب دوره الكبير والمؤثر في تعميق حالة الاغتراب التي قد يعيشها المسلم العربي، تقوده إلى الخوف من الاستفادة من أي جانب من جوانب الحياة الحضارية الإنسانية، على مستوى الفكر والعلم.

 

أصبحت مسألة تضخيم الذات عقيدة ثابتة عند معظم العلماء، فيقول أحدهم: إننا  «نملك تراثاً فكرياً ضخماُ وغنياً وأننا لسنا بحاجة إلى أي مصدر آخر للفكر...» ( [15] ) !!!

 

ج-كيف نرى العلمانية بالمنظار القومي؟

لم تكن العلمانية، ولن تكون، نظرية فكرية جامدة، تملك الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل التبديل والتغيير والتطوير؛ إنما كانت، وما زالت، إحدى النظريات الفكرية- السياسية، التي توصَّل المفكرون السياسيون إليها نتيجة حاجتهم لحل إشكاليات حصلت  في التاريخ والفكر السياسيين، والتي تدور حول تحديد الأفضلية في تسيير شؤون البشر الدنيوية: أتكون للديني بمنهجيته الثابتة، أم للسياسي بمنهجيته القابلة للتطور ؟

 

واجه الغرب هذه الاشكالية التاريخية- السياسية، في أثناء حكم الكنيسة والذي أثبت فشله؛ وواجه المسلمون مثلها أيضاً، فبرز تيار العقل في الفكر الإسلامي عند المعتزلة وعند المفكرين والفلاسفة المسلمين مثل الغزالي وابن رشد والجاحظ وأبو العلاء المعري...ثم قاوم العلماء المسلمون أنفسهم، منذ أواسط القرن19م، الأفكار الرجعية الجامدة، ومهَّدت كتاباتهم للأفكار القومية والاشتراكية، وأسَّسوا للاتجاهات العقلانية ولإمكانية الانفتاح على الأفكار الجديدة القادمة من الغرب ( [16] ) .

 

كانت العلمانية مشروعاً فكرياً لحل إشكالية المساواة في الحقوق السياسية بين المسلمين وغيرهم من رعايا دولة واحدة، مهَّد الطريق إليها المثقفون المسيحيون العرب، لأنهم وحدهم كانوا يشعرون بعبئها. 

تبقى الحقوق السياسية لغير المسلمين منقوصة في ظل نظام سياسي إسلامي، حتى إن أقصى ما يمكن الاعتراف لهم به لا يرتقى إلى درجة تحقيق المساواة العادلة على الإطلاق؛ وما يقوله إسلامي معتدل لهو خير دليل؛ فهو يقول: إن «أهل الذمة»  أو الأقليات غير المسلمة في دولة الإسلام لها حقوق المسلمين نفسها: مساواة في حق العمل... مساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، ولهم أيضاً حق الانتخاب والترشيح لكل مجالس الدولة، وكل هيئات الإدارة والحكم. ولهم أن تكون منهم نسبة من الوزراء تتناسب مع عددهم. «ولكن ليس لهم حق رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء» ( [17] ) .

 

لا يمكن أن نحصر دور المثقفين المسيحيين من خلال تأثرهم  بنشاطات الارساليات الأجنبية وبالثقافة الغربية، ونمو دورهم الاقتصادي مع توسع الرأسمالية الأوروبية في المشرق العربي، إنما كان العامل الديني ذا تأثير فعالا في تفكيرهم، لأنهم كانوا يشعرون بأنهم رعايا في دولة ذات أكثرية إسلامية تنتقص من حقوقهم السياسية. ومن هنا كانت الموضوعات التي عالجوها، كفصل الدين عن الدولة، ومحاربة الحكم الاستبدادي ذات علاقة وثيقة بوضعهم. وكان اتجاههم للعروبة، في وقت كانت تسود فيه الفكرة القومية في أوروبا، نشداناً للمساواة مع المسلمين العرب للتخلص من حكم إسلامي غير عربي ( [18] ) .

 

فسواء كانت المسيحية تنص على جمع الديني مع السياسي، أم أنها تقر بما لقيصر لقيصر وما لله لله، فإنها لن ترضى أن يكون قيصر مخالفاً للتعاليم المسيحية؛ ولهذا فإن الفصل بين السلطتين ليس إلاَّ لمنع استخدام الأوامر الإلهية ستاراً يرتكب فيه المؤمنون بها ما لا يُرضي الله، وما لا يحقق العدالة والمساواة بين كل رعايا الدولة. في مثل هذه الحالة، عندما  يتولى السلطة سياسي علماني تمكن مناقشته إذا أخطأ، وتنتفي المعصية عن الذي يناقش لأنه ليس الراد على أولي الأمر، في الفكر الوضعي، راد على النبي والراد على النبي هو راد على الله تعالى.

 

وعلى الرغم من اعتقاد المسلمين أن الإسلام دين ودولة، فإنه ليست هناك نصوص ثابتة تحدد مضامين النظام السياسي للدولة الإسلامية، باستثناء دولة المدينة التي أسسها الرسول وقادها.

إن إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، فيما يتعلق بالحقوق السياسية للأقليات الدينية داخل أنظمة دينية، هي إشكالية عامة تواجه النظام الإسلامي كما تواجه النظام المسيحي أيضاً. ولأن أفراد المجتمعات/ الدول/ الأنظمة السياسية على اختلافها، ليسوا  من دين واحد، وإنما في كل مجتمع أكثرية وأقلية، ولأن لكل أصحاب دين ثوابت مقدَّسة، يصبح من الضروري أن تخضع علاقات الأكثرية والأقلية إلى قوانين ومقاييس متحركة. فكيف يمكن أن نتصور هذه القوانين والمقاييس ؟

 

إذا استبعدنا إشكالية التناقضات بين المذاهب المتفرعة عن دين واحد-وهو مستحيل- فإنه لا بُدَّ من أمام الأكثريات الدينية الحاكمة في دولة ما، من أن تجد حلاً، يتساوى فيه جميع مواطنيها/ رعاياها من جميع الأديان والمذاهب أمام القانون.

 

فلو افترضنا، مثلاً، أن الأكثريات الدينية، غير المسلمة، الحاكمة في دولة ما، أرادت أن تعامل غير المنتسبين إلى دينها، من الأديان الأخرى، معاملة الذميين كما يعتقد الإسلام، وهي معاملة بالمثل، فهل يرتضي المسلمون هذا الوضع ؟ أم أن عليهم أن يفكروا في تطوير الاعتقاد بالمبدأ "الذمي"  حماية لأبناء دينهم الخاضعين لسلطات سياسية غير إسلامية ؟

 

نشأت العلمانية، كمبدأ سياسي، وترعرعت في أوروبا، في بيئة مسيحية؛ وكان السبب من وراء ابتكارها إيجاد حل لذلك الصراع الدموي الطويل بين المذاهب المسيحية من جهة، وبين السياسيين ورجال الدين من جهة أخرى. ولم تكن الغاية منها، عند واضعيها والمنادين بها من المفكرين الغربيين، إعلان العداء للإسلام والمسلمين؛ ولم يخطر ببال أحدهم هدف علمنة الشرائع الإسلامية، بقدر ما كانوا هم بحاجة إلى حل فنشطوا  في التفتيش عنه، وجاء الحل في وجوب الفصل بين الديني والسياسي لأن مشاكلهم كانت ناتجة عن طغيان رجال الكنيسة في أحكامهم الدينية والدنيوية، والتي أسبغوا عليها هالة «المقدسات».

 

فالعلمانية كانت حاجة مسيحية أوروبية، أولاً وأخيراً؛ وعندما تيسَّر لها أن تخرج من دائرتها، التي نشأت فيها، إلى المشرق العربي- الإسلامي، وهو الذي كان يعاني بشكل أو بآخر من طغيان الديني على السياسي، وجدت فيه النخب الثقافية العربية، وبينها بعض علماء المسلمين، والمسيحيون العرب بشكل خاص، متنفساً فكرياً حسبوا أنه قد يحقق لهم حلاً لإشكالية المسلم و «الذمي»؛ وكانت الأصوات التي ارتفعت تأييداً ليست موجهة، بالأساس، ضد الشريعة الإسلامية، ولكن أهدافها كانت تصب في سبيل حل إشكالية سياسية عانى منها أهل الكتاب وبعض المذاهب الإسلامية على حد سواء.

 

هل كانت العلمانية موجَّهَة لحل إشكالية الثنائية السياسية، إسلامية-مسيحية فقط؟ إذا كان ذلك كذلك، فعلى أية قاعدة كان يمكن حل الإشكالية الإسلامية – الإسلامية بين مختلف المذاهب الإسلامية، خاصة وإن التاريخ الإسلامي كان مشحوناً بالصراعات المذهبية؟ 

 

ليست العلمانية إطاراً فكرياً سياسياً لحل الاشكالية، الإسلامية- المسيحية فحسب، وإنما هي أيضاً مشروع لحل الاشكاليات الإسلامية- الإسلامية.

لم يثبت أن العلمانية هي مبدأ سياسي استعماري، بالقدر الذي يمثل اتجاهاً فكرياً سياسياً نظرياً اكتشفه المفكرون الأوروبيون لحل إشكالياتهم الخاصة. ونحسب نحن أنه، إذا جُرِّد من بعض خصوصياته، و إذا دُرِست مشاكلنا الذاتية على ضوئه، لربما يشكل الحل الملائم لإشكالياتنا الدينية والمذهبية.

 

فإذا كانت هناك خصوصية للعلاقة بين العروبة والإسلام، لاقتران التكوين القومي بالدعوة الإسلامية، فإنها لا تتعارض مع الاتجاه نحو العلمنة. فالعروبة كمفهوم تقدمي تعارض التنظيم الاجتماعي والسياسي القائم على أساس الطوائف والانقسامات الطائفية؛ «وهي تشدد على ضرورة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية والإقليمية للمواطن» ( [19] ) .


 

 ( [1] ) القرضاوي، يوسف: م. س: ص 44.

 ( [2] ) العيسمي، شبلي: العلمانية والدولة الدينية: دار الشؤون الثقافية. بغداد: 986 1: ط 1: ص 19.

 ( [3] ) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة ( ج 4 ) : م. س: ص 179: ( المادة: العلمانية ) .

 ( [4] ) العيسمي، شبلي: العلمانية والدولة الدينية: م. س: ص 37.

 ( [5] ) شمس الدين، محمد مهدي: العلمانية: المؤسسة الجامعية: بيروت 1980: ط 1: ص 87.

 ( [6] ) القرضاوي، يوسف: م. س: ص 53.

 ( [7] ) م . ن : ص 54.

 ( [8] ) م . ن : ص55.

 ( [9] ) م . ن : ص56.

 ( [10] ) م . ن : ص57.

 ( [11] ) م . ن : ص59.

 ( [12] ) م . ن : ص60.

 ( [13] ) شمس الدين، محمد مهدي: م.س: ص 86.

 ( [14] ) العيسمي، شـبلي: العلمانية والدولة الدينية: م . س: ص 33.

 ( [15] ) المطهري، مرتضى: الحركات الإسلامية في القرن الأخير: دار الهادي: بيروت: 1982: ط1: ص 121: ( ترجمة صادق العبادي ) .

 ( [16] ) م . ن : ص 35-37.

 ( [17] ) الفنجري، أحمد شوقي: كيف نحكم بالأسلام في دولة عصرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1990: ص 126.

 ( [18] ) مراد، سعيد: الحركة الوحدوية في لبنان بين الحربين العالميتين ( 1914هـ/1946م ) : معهد الإنماء العربي: بيروت: ط1: ص 74.

 ( [19] ) موسوعة السياسة ( ج4 ) : م . س: ص :179 ( المادة: العلمانية ) . 

 

 





الاربعاء ٢١ محرم ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / كانون الاول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة