شبكة ذي قار
عـاجـل










عرف نشوء القوميات في أوربا زخما كبيرا ، خلال العصور الحديثة ، ونشأت دول قومية ، حققت انتصارات ظرفية كانت قدوة في التنظير للعرب المشارقة ، وحلما طالما راودهم في بناء دولة قومية أسوة بغيرهم من الأقوام خاصة المانيا التي كانت نموذجا يحتدى به في هذا الميدان ، ولو على حساب أكبر دولة اسلامية آنذك وهي الدولة العثمانية ، ونفس الاتجاه سار عليه الفرس في مقارعتهم للمد العثماني في الشرق وأهم المنطلقات التي شجعت العروبيين على بعث هذه النزعة العصبية وكأن التاريخ يعيد نفسه لكن بأساليب جديدة ,ومنها على سبيل المثال ( انشاء حزب تركي قومي في اطار مايسمى بالحركة الطورانية مناويء للخلافة العثمانية ويهدف الى تكوين دولة للشعب التركي على اساس قومي ، مستلهما" فكرة القومية من التجربة الألمانية القائلة بوجود قومية ثقافية ) ، الا أن العروبيين لم يتحقق لهم ذلك الا ما بعد الحرب الكونية الأولى  بفضل السند الديني والفكري الذي أمده محمد عبده ، وجمال الدين الأفغاني ، اللذان دعا الى حكم عربي مستقل ذاتيا" عن الخلافة العثمانية ، من أجل احياء الاسلام الذي أصابه الركود ، ومن هذه المفاهيم الاوروبية التي غزت العقل العربي الحديث فكرتان عن القومية والانسانية فيهما خطأ وخطر كبير حسبما بينه وحدده القائد المؤسس للبعث الخالد المرحوم أحمد ميشيل عفلق :

 

* -  فالفكرة القومية المجردة في الغرب منطقية اذ تقرر انفصال القومية عن الدين ، لان الدين دخل على اوروبا من الخارج فهو اجنبي عن طبيعتها وتاريخها ، وهو خلاصة من العقيدة الاخروية والاخلاق ، لم ينزل بلغاتهم القومية ، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم ، ولا امتزج بتاريخهم

 

* -  في حين ان الإسلام بالنسبة الى العرب  ليس عقيدة اخروية فحسب ، ولا هو أخلاق مجردة ، بل هو اجلى مفصح عن شعورهم الكوني  ونظرتهم الى الحياة ، واقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل ، والنفس بالقدر ، وهو فوق ذلك كله اروع صورة للغتهم  وآدابهم ، أضخم قطعة من تاريخهم القومي ، فلا نستطيع  ان نتغنى ببطل من ابطالنا الخالدين بصفته عربيا ونهمله او ننفر منه بصفته مسلما

 

* - قوميتنا كائن حي متشابك الاعضاء ، وكل تشريح لجسمها وفصل بين اعضائها يهددها بالقتل  فعلاقة الاسلام بالعروبة ليست اذا كعلاقة اي دين بأية قومية وسوف يعرف المسيحيون العرب ، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الاصيل ، ان الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الاسلام حرصم  على اثمن  شيء في عروبتهم واذا كان الواقع لا يزال بعيدا عن هذه الامنية، فان على الجيل  الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك  بالكبرياء والمنافع اذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب اليها .

 

 استغل الأنجليز فرصة  تلهف الشعب العربي الى الاستقلال والسيادة  والخلاص من مالحق بهم بفعل السلطان العثماني ونفذوا داخل عرب الجزيرة بفضل حنكة لورانس العرب الذي  ساعد على نشر فكرة الخلاص القومي والامداد بالسلاح لاقامة دولة عربية ، ويعد هذا الضابط الإنجليزي لورانس الذي استغفل العرب المسلمين ولبس ملابسهم وهو الإنجليزي النصراني مسا هما" بفاعلية بالثورة العربية الكبرى وجعلهم يقاتلون إخوانهم المسلمين في الخلافة الإسلامية العثمانية وهو ما يدل على قمة خبث هذا الرجل وقمة خيبة من اتبعه من العرب حتى أطلقوا عليه اسم لورانـــــس العرب ، وقد كـتب في مذكراتـه مدعيا" بانه صانع ألفكر القومي العربي حيث قال (( وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا وفي الحج وأتساءل : هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية ( يقصد الإسلام )  ؟  ، وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني ؟ وبمعنى أوضح  هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام ( القرآن والسنة ) ، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني ؟ هذا ما كان يجول بخاطري طوال الطريق )) ، وهذا يظهر جليا"هكذا كانت سوريا في المخطط الصليبي ، ولم يتأخر لورانس في تنفيذ مخططه على الأرض  فقد كان خبيرًا بكيفية التحايل على العرب ، وبدأ يغرس الفكر القومي الذي يراه هو بديلاً عن الإسلام عند العرب وقد سمى مذكراته ( أعمدة الحكمة السبعة ) ومن اللافت أن قوات الاحتلال والغزو البريطاني للعراق عام 2003  نصحت جنودها بقراءة مذكراته للاستفادة منها في التعامل مع العراقيين وايجاد موطىء القدم لهم في القصبات العراقية التي يتواجدون فيها خدمة لمصالحهم المستقبلية  وحفاضا" على ما تم تحقيقه ،  ولكن الجريمة التي ارتكبها الحلفاء بحق العرب والتنكر لوعودهم  وفرض الامر الواقع بالتجزئة واستلاب فلسطين وأجزاء اخرى من جسم الوطن العربي  وما وقع من احداث في فلسطين بين سنوات 1936 – 1939 عملت جميعها على تحفيز فكرة القومية العربية في كل من  سوريا ، ومصر ، والعراق ، ثم ليبيا عن طريق التعرض للاستبداد والقهر ومناهظة الانظمة التي صنعها المحتل كي تسهل وتمهد للوصول الى غاياته ،  لم يقتصر ذلك  على المشرق العربي بل كان له الصدى الواسع والفاعل في مغربه  الذي شهد حراك شعبي مؤثر من حيث النتائج ، ويمكننا تدوين جملة من الاستنتاجات طفت منذرة بهدم الذات  العربية الاسلامية ومقوماتها أمام طغيان الغرب المتجسد بنصارى يهود وحلفائه التقليدين والمستحدثين ، الذي سعى ويسعى بكل ما أوتي من قوة لتجسيد شعوبية الأديان والثقافات ، ولكن بسـلاح أكثر فتكا ودمارا ، وهو الشيء الذي يحدث فعليا في غزة هاشم بفلسطين المحتله  والعراق ، واليمن ، والمغرب العربي ، وسوريا ، ودارفور بالسودان ، والصومال ، والبقية تأتي لا محالة اّذا استمر العرب والمسلمون في التناحر والاختلاف ، وما فشل القمم العربية المتوالية الا البرهان الساطع على الهوان الذي أصاب الأمة

 

 * - النزوع القومي أمر طبيعي في البشرية ، ( حب الانتساب ) ، والأقوام من خلق الله سبحانه وتعالى ومن آياته اختلاف الألسن والألوان والأقوام ، فالقوم هو المادة الخامة التي تصنع الحضارة وتعمر بها الأرض ، اذا اهتدوا الى عقيدة تنظم لهم التعارف والتعاون وتنبذ لهم التعصب والتمايز والتنابز بسبب الجنس أو العرق ، وميزان الكرامة في الاسلام ليس الانتساب للعرق والجنس ، واٍنما هو التقوى والعمل الصالح ، وتشرف الأقوام بمقدار عطائها وانتاجها الذي يعود على الأمة جميعها بالنفع والرخاء  ،وقد بين المرحوم أحمد ميشيل عفلق ذلك بالدقة والوضوح عندما تناول  العلاقة فيما بين العروبة والاســــلام وفهم البعث الخالد لها حيث قال ((  فالاسلام اذن كان حركة عربية ، وكان معناه  تجدد العروبة وتكاملها فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية ، وفهمه للاشياء كان بمنظار العقل العربي والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية ظاهرة أو كامنة ، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية سائرة  في طريق الزوال ، والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي ، ولكن العربي الجديد ، المتطور ، المتكامل ، وكما نطلق اليوم على عدد من افراد الامة اسم ألوطني أو ألأقومي مع ان المفروض ان يكون مجموع الأمة قومياً ، ولكننا نخص بهذا الاسم الفئة  التي آمنت بقضية بلادها لانها استجمعت الشروط والفضائل اللازمة كيما تعي انتسابها العميق الى أمتها وتتحمل مسؤولية هذا الانتساب ، كان المسلم  الاول هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لانه استحضر الشروط  والفضائل اللازمة ليفهم ان هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والقوة والرقي ولكن هل يعني هذا ان الاسلام وجد ليكون مقصوراً على العرب ؟ ، اذا قلنا ذلك أبتعدنا عن الحق وخالفنا الواقع  فكل أمة عظيمة ، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية ، تنزع في أصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة ، والاسلام خير مفصح عن نزوع الامة العربية الى الخلود والشمول فهو اذن في واقعه عربي وفي مراميه المثالية انساني ، أو كما يقال أممي ، فرسالة الاسلام انما هي خلق انسانية عربية جديدة نقيض السلوك والتصرف الجاهلي السلبي كوئد البنات والغزو والاحتراب من اجل الهيمنة والاستعلاء ، ان يقظتهم القومية إقترنت برسالة دينية ، او بالاحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا فتحوا البلاد وحكموا استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة ، أو ذريعة عنصرية ، او شهوة للسيطرة والاستعباد بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل أراقوا من اجله دماءهم ، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله  وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والاسلام ، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الاسلام ، فلا مجال اذن للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعماروطبيعي  ان العرب لا يستطيعون اداء هذا الواجب الا اذا كانوا أمة قوية ناهضة  لان الإسلام لا يمكن ان يتمثل الا في الامة العربية ، وفي فضائلها واخلاقها ومواهبها فأول واجب تفرضه انسانية الاسلام اذن هوان يكون العرب اقوياء  سادة في بلادهم ، الاسلام كائن حي متميز بملامح وحدود ظاهرة بارزة ، والكائن الحي المتميز الراقي في مراتب الحياة يكون هذا الشيء ولا يكون ذاك الشيء ، هو يعنى هذا المعنى ويناقض ذلك المعنى ويعاديه ، الاسلام عام وخالد ولكن عموميته لا تعني انه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات بل انه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية الكامنة فيه منذ البدء ، وخلوده لا يعني انه جامد لا يطرأ عليه تغير او تبدل ، وتمر من فوقه الحياة دون ان تلامسه ، بل انه بالرغم من تغيره المستمر ، ومن استهلاكه لكثير من الاثواب ، وافنائه لعديد من القشور واللباب ، تبقى جذوره واحدة ، وقدرتها على النماء والتوليد والابداع واحدة لا تنقص ولا تفنى ، هو نسبي لزمان ومكان معينين ، مطلق  المعنى والفعل  في حدود هذا الزمان وهذا المكان  . ))

                                                                                                         

يتبع بالحلقة الاخيرة

 

 





الثلاثاء ٣٠ ربيع الثاني ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / أذار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب زامــل عــبـــد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة