شبكة ذي قار
عـاجـل










أول من أعلن ارتياحه من اندلاع شرارة الاحتجاجات الشعبية على سلطة اسطنبول، هما إيران و ( إسرائيل ) ، ومع ذلك فأن ارتياح أي منهما على ما يبدو يختلف عن الآخر من حيث طبيعته ودلالاته ودوافعه .. فقد جاء فرح الأولى نابع من عقدة تاريخية ما زالت تتحكم بالسلوك السياسي لحكومة الملالي في طهران، وهي تعود إلى حقب الحروب التي خاضتها مع تركيا تكبدت خلالها الكثير من الخسائر والانكسارات غرب الأنضول، جعلتها تضمر حقداً أسوداً على أنقره إضافة إلى أحقاد ناجمة عن المذهب والمنهج والأيديولوجيا .. كلها تشكل العقدة الكبرى، التي تصوغ السياسة الخارجية للنظام الصفوي المارق، ليس فقط حيال تركيا، إنما تجاه المنطقة العربية برمتها،  لأن القادة العرب التاريخيين العظماء الأوائل قد كسروا شوكة الإمبراطورية الفارسية المتغطرسة بطاووس كسرى ويزدجرد، وهي إمبراطورية بنيت على الغزو والدم والاغتصاب.

 

 طهران تشعر بالارتياح لأن اضطرابات وقعت في عاصمة غريمتها الاقتصادية اسطنبول.. ولأن إيران " الإخمينية " لم تستطع أن تحقق انتصاراً تبقي فيه هيمنتها على إمبراطوريتها وبالتالي تمنع تراجعها وضمورها، لذلك فهي تعمد إلى تحالفات على قاعدة ( عدو عدوي صديقي ) .. وهكذا كان تحالف الفرس مع أسبارطا لتضميد جراحاتها وانكساراتها أمام الرومانيين واليونانيين في حقب التاريخ البائدة.. وعلى غرار ذلك كان تحالف إيران مع أمريكا و ( إسرائيل ) في العصر الحديث، بعد أن خسرت حربها العدوانية ضد العراق، والتي دامت ثمان سنوات، لأن دوافع النظام الفارسي ضد العراق كانت متلازمة مع الموقف الإسرائيلي المؤثًر في عملية صنع القرار الصفوي.. واليهود كما هو معروف للقاصي والداني، كان لهم دور في  تعميق الهوة بين الإيرانيين والعرب، فقد بذلوا جهداً لإعلاء شأن الأخمينيين باعتبارهم ( محررين لليهود ) و ( مدمرين ) لحضارة ما بين النهرين.. محررين لهم من أسر "نبوخذ نصر" ملك بابل.. و" الخمينيين " الذين جئ بهم على رأس السلطة في طهران عام 1979 هم امتداد للأخمينيين ونزعتهم التسلطية الدموية . إذن ، الإسرائيليون مدينون كما يشعرون طيلة هذه الحقب من التاريخ، لسلطات بلاد فارس، لأنها حررتهم – هذا ما قاله المؤرخ والباحث الفارسي " ناصربور بيرار" في كتابه ( 12 قرناً من السكوت ) .!!

 

إيران خاسرة مهما استعرضت عضلاتها أمام طوفان رفض التوسع الصفوي ونزعات التطرف التي تخلقها قوى الظلام الموغلة في عمق التاريخ.. فهي الآن ( إيران ) تدعم الفئة الـ" نصيرية " الحاكمة في دمشق، التي تدعي العلوية، كما أنها تساند العلويين- الأتراك، وهم فئة غير مسلمة لها عاداتها وتقاليدها وطقوسها وطريقة حياتها، ارتضت لنفسها أن تكون أداة هدم في يد الفرس ، وكذلك أداة طيعة تصغي للطغمة الحاكمة في دمشق .

والغريب في الأمر، أن هذه الفئة تتمسح بـ ( آل البيت ) الكرام لتجعل من تحركها بعداً مذهبياً يأخذ طريقه مع الموجة العامة، التي تجتاح منطقة ( الشرق الأوسط ) لتصب في مصلحة إيران، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل، مع من تعمل، ولماذا ظهور نشاطاتها في هذا التوقيت؟

 

القوى التركية الأخرى نراها في كفة ثانية، لها توجهاتها وأهدافها السياسية كما لديها مآخذها على سياسات "أردوغان" .. كل ذلك شأن داخلي سيصار إلى تسويته عاجلاً أم آجلاً، إلا أن في نهاية المطاف سيضعف "أردوغان" ويصعب عليه الوصول إلى الرئاسة التي خطط لها بعيداً عن ما يريده الشعب التركي، فضلاً عن حساب التوازنات الداخلية والخارجية، التي أخل بها خاصة في بعديها المحلي والدولي..  ربما ( أمريكا والناتو ) لن يفعلا شيئاً حيال تغيير المعادلة العامة، فهنالك مؤشرات ذات أهمية في تحليل  البعد الدولي لهذه المعادلة، تأتي في صيغة تساؤلات:

 

أولاً- هل أن حرب البورصات عادت لتحاصر اسطنبول كما حاصرتها في عامي 2011 و 2012 ، بعد النجاحات والنمو الاقتصادي الذي تحقق خلال السنوات العشر الأخيرة ؟

 

ثانياً- هل أن مشروع الجسر الذي يريد منه "أردوغان" فتح المعابر على البوسفور يتعارض مع حدود معاهدتي لوزان لعام 1923، واتفاقية مونترو لعام 1936، اللتان حددتا سلطة تركيا على المضائق ؟!

 

ثالثاً- وهل أن تركيا ما تزال أحد أركان مشروع " بيرنار لويس" المستشرق البريطاني لتقسيم الشرق الأوسط، الذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي عام 1983 ، والذي يضم كلا من تركيا وإيران وأفغانستان؟!

 

أما البعد الإقليمي للقضية التركية فيمكن تناوله من بعض الزوايا التي قد لا يراها صانع القرار التركي المأخوذ بالعمق الإستراتيجي :

 

أولاً- من حق أي دولة أن تبني نفسها وتحافظ على مصالحها وتنميها، ولكن ليس بطريقة المشاريع الموكولة وإحياء المشاريع القديمة، التي يرفضها العرب كما يرفضها الغرب في أن واحد ويجد فيها خطوات نحو إمبراطورية عثمانية، قد تمارس دورها القديم، حتى لو جاءت بثوب جديد، فلا أحد يصدق مثل هذا النزوع صوب "العثمنة" ، لا في السلوك ولا في التصرف.. ومن هنا بدأت هواجس الغرب على وجه الخصوص تأخذ طريقها إلى الصحافة.

 

أن أوربا لن تسمح لتركيا في أن تكون عضواً في الإتحاد الأوربي، على الرغم من انتمائها إلى "الناتو" ، لأن أوربا لا تريد شوكة إسلامية في خاصرتها ؟، ألم يدرك السيد " أحمد داوود أوغلو" هذه الحقيقة بعد ؟!

 

ثانياً- تنفذ تركيا مقررات مؤتمر الناتو في أنقرة لعام 2010، وخاصة احكام سياسة إستراتيجية مع دول الخليج العربي، والانغماس في ملء فراغ النظام العربي الرسمي الذي سقط عملياً في كل ساحة .. ولكن ما هو الثمن الذي تجنيه تركية في أن تكون رأس حربة للناتو ولأمريكا ؟ ألا يجدر بها أن تحقق توازناً مطلوباً مع بيئتها الأساسية قبل أن تفكر بتغييرها لأن حلفائها يريدون ذلك؟ هل عاون الغرب في حل مشاكلها ؟ لا بأس في أن أنقرة وهي تمضي في سياساتها تستقوي بالناتو، ولكن هل تدرك أن ذلك يتم على حساب بيئتها ومحيطها القريب.. خطواتها في سوريا، ومواقفها حيال العراق، وتوجهاتها نحو مصر.. الشعب العربي يعتز بالشعب التركي ولكنه لا يريد أن تعود عجلة الماضي العثماني إلى العصر الراهن؟!

 

ثالثاً- خط "الناتو" الإستراتيجي له معوله الخاص يهدم جدران الشرق الأوسط، ليعيد بناء خرائطه الجيو- سياسة بما يتلائم مع المشروع الأمريكي، وإن تركيا على علم بهذا المشروع وخباياه، وهي تدرك نتائجه الكارثية على شعوبه المسلمة، فلماذا تنساق مع هذا الخط وتساهم في تنفيذ صفحاته، وتريد في الوقت ذاته من الشعب العربي أن يتقبل سياساتها؟ ، الكل يعلم حدث أسطول الحرية لدعم القضية الفلسطينية وملابساته، والكل يعلم نتائجه المخجلة في صفقة الاعتذار والتعويض.. هل هذه سياسة مستقيمة؟ لقد فشلت تركيا في المدخل الفلسطيني إلى المنطقة، وأغلقت على نفسها كل الطرق حين أصبحت رأس حربة للناتو.

 

رابعاً- لماذا تسكت تركيا حيال العبث الإيراني في العراق والمنطقة، وهي معنية كدولة إقليمية كبيرة، بمحيطها القريب المؤثر على واقعها المرتبك والمشتبك نتيجة لسياسات تفتقر إلى الحكمة؟  إن تركيا تدرك علاقات التوافق الإستراتيجية بين واشنطن وطهران وتل أبيب، فهي تتعامل في ضوء هذه العلاقات، ولكنها ترتكب خطأً فادحاً إذا استمرت في صمتها حيال العبث الفارسي، الذي عانت منه تركيا في الماضي، وبوادر هذا العبث بدأ يدب إلى اسطنبول حيث ساحة "تقسيم" المتأزمة..!!

 

عقدة التاريخ، أنفة الذكر، تتحكم في السلوك السياسي الخارجي للنظام الصفوي في طهران، تراكمت عليها عقدة أخرى هي الرغبة في أن تكون قوة ( عظمى ) تنافس قوة إقليمية هي تركيا، ليس تنافساً يقوم على شروط مبادئ حسن الجوار، إنما يقوم على مشتركات مع ( إسرائيل ) تتمثل بعداء سافر للعرب ودوافع نخر الإسلام من الداخل والدفع بالمسلمين إلى الانشقاق، يلازم كل هذا الرغبة الجامحة في الاغتصاب والتوسع على حساب المنطقة العربية كلها .. فهل أن تركيا لم تدرك ذلك بعد ؟!

 

الرؤية، التي تظهر التنافس بين طهران وأنقرة على أنه صراع قد يحتدم إلى حد استخدام القوة، هي رؤية مسطحة على الرغم من ثقل الإرث الذي يلاحق هذين البلدين .. والتنافس على النفوذ والمصالح بينهما لا يقتصر على المنطقة العربية.. إيران تريد ابتلاع بلدان وأراضي عربية لتصل إلى حافات البحر الأبيض المتوسط ، وعودة الإمبراطورية الفارسية، التي وصفها الأخرق "علي لاريجاني" رئيس مجلس الشورى الإيراني مؤخراً بـ ( طموحات بلاده العظمى ) .. وتركيا تسعى لإحياء مناطق نفوذها على أساس تركيا الجديدة عن طريق التجارة والاستثمار وأنابيب مياه السلام تحت شعار النفط مقابل المياه، ومعاداة إسرائيل إعلامياً.. وكل ذلك يحدث على الطاولة أما تحتها فمؤشراته تعود بالذاكرة العربية إلى العهد العثماني.. كليهما يحملان إرثاً تاريخياً قديماً يقض مضجع الشعب العربي.. إرثان استعماريان أسسا إمبراطوريتين على حساب الشعوب التي عانت منهما طويلاً وما تزال محفورة في ذاكرتها.. والإشكالية تكمن هنا في أنهما تدركان هذه العقد في سياستيهما الخارجية، ولا تعملان على معالجتها.!!

 

هاتان العقدتان اللتان تعودان إلى عمق التاريخ نجمتا، كم ألمحنا، عن انحسار الإمبراطورية الفارسية بسبب عدوانيتها وتحالفاتها وأخطائها .. وتفكك الإمبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية الثانية بسبب تحالفاتها الإستراتيجية الخاطئة ونزعتها إلى الهيمنة..والآن ترتكب طهران الخطأ الإستراتيجي ذاته بتحالفها مع الأمريكيين والإسرائيليين بالضد من الأمة العربية، فيما ترتكب تركيا الخطأ ذاته حين تركت بيئتها وتعلقت بين طموحين من الصعب الاعتقاد بأنها قادرة على الاختيار، بيئتها الإسلامية أم الإتحاد الأوربي.!!

 

طهران تعير اهتماماً، أو أنها مندفعة في تحالفها غير المعلن مع القوى الدولية صاحبة النفوذ والقوة، فأهملت بذلك واقع التوازنات الإقليمية .. أما أنقرة فقد اهتمت واندفعت في تحالفها الأطلسي المعلن وأهملت التوازنات الإقليمية .. ومن هذه الزاوية، فأن الخطأ الإستراتيجي يتآكل العاصمتين المتنافستين على النفوذ والمصالح.

 

هل تصحح طهران حساباتها الخاطئة من خلال الرئاسة الجديدة ؟ وهل تصحح أنقرة حساباتها الخاطئة بعد أن تُحَلْ مشكلتها في اسطنبول؟ .. واليقين، أن الرئاسة الجديدة في إيران هي واجهة مخادعة لا تغير شيئاً من إستراتيجية النظام الصفوي، أما مشكلة " تقسيم " فهي مفتاح لمشكلة أكبر وأعمق ولن تحل إلا بعودة الحكمة إلى نصابها.

 

أما ارتياح الكيان الصهيوني من ما يحدث في اسطنبول، فهو نابع من دوافع عنصرية محددة ومقيدة بمرتسمات إستراتيجية، ليس من السهل تجاهلها، بغض النظر عن الحزب الذي يحكم تركيا.. كما أنه من الصعب تخيل تغيير معادلة التوازن بزعزعة الواقع في تركيا إلى درجة تصل إلى توصيف الحالة بـ ( الربيع التركي ) ، على الرغم من أن هذا الواقع يمكن وصفه بالهش لاعتبارات المكونات الحساسة التي تؤثر في هياكل التوازن الداخلية من جهة، ونهج السلطة غير المتوازن خارجياً من جهة ثانية.

 

تركيا كان لها رأي حيال إنشاء الكيان الصهيوني في زمن السلطان عبد الحميد أرعب المؤسسة الصهيونية .. والآن، باتت على مسار أخر أسماه " أحمد داوود أوغلو" وزير خارجيتها بـ ( Geo-economy ) ، فهبطت القيم وتبعثرت المعايير.

 

وعلى أي حال ، فالحفرة تتسع في " تقسيم " ، التي ما جاءت إلا لكبح جماح الإندفاعة التركية نحو الخارج .. أما حسابات حدود التعامل الإستراتيجي لطهران، فلن تصل بها إلى حدود ضمان بقاء النظام مستمراً في تهديده للمنطقة برمتها .!!

 

 





الثلاثاء ٩ شعبــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / حـزيران / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة