شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

هل أن السياسة الخارجية الأمريكية والروسية قائمة على واقع استنتاجي تنطلق من قاعدته التاريخية، لتكتسب وضوحاً ودقةً وقبولاً وتوافقاً لمنطق التجربة ونجاحها أم أنها تعتمد على منطق العقل التصوري دون أن تعي ممكنات الواقع المغاير وصرامته وحدود نجاحاته وإخفاقاته وردود فعله الحادة ؟!

 

وفي إطار هذا المعنى .. أين هي حدود العلاقة بين موسكو وواشنطن في ظل الصراع بالإنابة ؟، لقد كان الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي في بعض الأماكن ليس مباشراً إنما من خلال قوى إقليمية تعبر عن سياسة أي من المعسكرين المتصارعين .. فأمريكا لآعب دولي دفعت أمامها عدداً من الدول التي تدور في فلكها ووزعت عليها الأدوار والمهمات والعمل بالإنابة، فيما دفع الاتحاد السوفياتي هو الآخر عدداً من الدول والقوى الإقليمية التي تتحالف معه في ذاك الصراع، فيما تركا أماكن سميت بالمناطق الرمادية ومناطق أخرى محفوفة بخطوط حمراء متفق عليها ولا أحد يستطيع الاقتراب منها أو اختراقها .

 

انتهى الصراع الثنائي بسقوط الإتحاد السوفياتي، فتفردت أمريكا بإدارة عملية الصراع مع الشعوب على أساس إستراتيجية جديدة أسمتها محاربة الإرهاب.. وخلال عقدين من الزمن فشلت أمريكا في إدارتها لصراع الفوضى الخلاقة، التي من المحتمل أن تنعكس على داخلها شراً وبيلاً وهي ماضية تتحكم فيها شركات النفط وتصنيع السلاح .. إلا أن المعادلة لم تعد هي ذاتها الآن، بعد وقوف روسيا والصين على أعتاب مرحلة جديدة، لأن إدارة العالم بقوة منفردة أمر مستحيل .

 

الآن .. نرى الصراع بالإنابة يظهر من جديد، ولكن بنسخة ليست هي نسخة الحرب الباردة .. إنما نسخة روسية تجمع بين تكريس النفوذ والدفاع عن المجالات الجيو- إستراتيجية، وأمريكياً هي نسخة تجمع بين تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد وضمان المصالح الحيوية الأمريكية والأمن الإسرائيلي على حدٍ سواء .. فهل أن خطوط اللعبة الإستراتيجية العامة متفق عليها سلفاً أم أنها متروكة لواقع الصراع على الأرض ولنتائج التحولات التي تجري فيه، لأن كليهما، لاعبان دوليان مخضرمان يتقنان قواعد اللعبة الدولية ولا يبنيان مواقفهما على ردود الأفعال، التي يمليها واقع الصراع والتنافس، والتي تخضع هي الأخرى لحسابات تحددها سياسات إدارة الصراعات السياسية والأمنية وحركة القوى.؟

 

وكما نعرفه، هنالك الثابت والمتحرك في الرؤية الإستراتيجية ، وإن ردود الأفعال يفرزها واقع الصراع  في بعض أوجهه تبدو  صيغة دفاعية محضة عن كيان الدولة ومصالحها الحيوية والأمنية .

 

إن أفول الحرب الباردة أسقط أولوية، في عرف الإدارة الأمريكية، هي التهديد السوفياتي، فحلت محله أولوية أخرى هي التطلع صوب ازدهار الاقتصاد الأمريكي، فتم تخفيض أولوية الأمن – هذا ما يقوله المنظرون الأكاديميون الأمريكيون – ولكن هل تستطيع أمريكا أن تتعايش مع العالم من دون حروب خارجية وعدو خارجي .. الإجابة، كلا لا تستطيع.. إذ  سرعان ما أعلنت ما يسمى بالقرن الأمريكي بدون منازع ؟

 

لقد بات الصراع والتنافس بين موسكو وواشنطن  يأخذ منحيين، أولهما : عسكري- استخباري- أمني على الأرض، وثانيهما : سياسي- دبلوماسي وراء الكواليس، لقد رأت إدارتا نيكسون وريغان آنذاك " أن الإتحاد السوفياتي يظل يشكل التهديد الرئيسي الذي يجب التعاطي معه على الرغم من كونه تهديداً يمكن إدارته من خلال إستراتيجية متطورة تجمع الإغراءات بالتعاون إلى جانب القوة المضادة والاحتواء العسكري"..وكما نرى، أن هذه الإستراتيجية ما تزال قائمة حيال روسيا الاتحادية مع متغير إفراغ أو تقييد المجال الحيوي الروسي، ليس عن طريق سياسة الاحتواء، إنما عن طريق سياسة إشعال الحرائق..والمغزى في هذه السياسة الإستراتيجية منع نهوض روسيا من جديد، لأن القوى العظمى والكبرى إذا ما انكفأت فأنها تنهض وتعمل على تصحيح التوازن الدولي عن طريق بناء ( القدرات ) من ناحية وبناء ( التحالفات ) من ناحية ثانية، وهذا ما يجري فعلاً على مسرح العلاقات الدولية منذ انهيار الإتحاد السوفياتي نهاية عام 1989 ولحد الآن .

 

إن تصحيح الميزان الذي اختل لصالح واشنطن، وتفردها في دعاوى ( القرن الأمريكي ) واعتماد إستراتيجية محاربة "الإرهاب" ذات الأمد الكوني البعيد، يُعَدُ مسألة متوقعة في عرف معايير القوة وبروز القوى، وخاصة المخاطر التي ارتبطت بمبدأين تم ربطهما معاً، لم يشهد لهما تاريخ العلاقات الدولية مثيلاً، وهما ( مبدأ المصالح الحيوية ) و ( مبدأ الأمن القومي ) ، الأمر الذي خلق من هذين المبدأين فلسفة غريبة في السياسة الخارجية الأمريكية، هي حزمة التحديات التي تواجهها أمريكا، كما هي أعلنتها، وفي مقدمتها مخاطر العدوان الخارجي المباشر والعمل على إجهاضه بضربة إستباقية .. الفلسفة السياسية هذه لا تستقيم مع النظام الدولي القائم على مجموعة الأحكام المؤسسة للتنظيم الدولي، كما لا تتماشى مع القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

 

حاولت أمريكا، خلال العقدين الماضيين، ملء فراغ القوة في العلاقات الدولية وفشلت بالرغم من نجاحها في ضرب أفغانستان واحتلاله وضرب العراق واحتلاله، إلا أن نتائج حروبها الخارجية قد أرغمتها على تغيير نمط سياستها الإستراتيجية فعمدت على تسخير أدوات خارجية، غير مكلفة بشريا وماديا، مستغلة أوضاع الوطن العربي البائسة بفعل تسلط النظم السياسية العربية القمعية، الأمر الذي أشعل المنطقة العربية، فسقطت نظم سياسية عربية تسلطية، فيما كان لواشنطن موقعها في ركوب موجة الحراك الشعبي العارم، فَحَرَفتْ اتجاهاتها صوب الفوضى في كل ساحة عربية منذ اندلاعها حتى الوقت الحاضر. وهذا لا يعني أن أمريكا لم تستخدم نظريتها في "الفوضى الخلاقة" لتدمير الشعوب التي لا تنصاع لمنهجها الكوني.

 

إن اختيار منطقة "الشرق الأوسط" لم تكن عبثاً في المخطط الإستراتيجي الكوني الأمريكي- الصهيوني، فرسم خرائط المنطقة جيوبوليتيكياً ( أرض وسكان ) يُعَدُ هدفاً مركزياً في هذا المخطط، لأن عدم تحققه وفشله سيمنع أمريكا من التمدد منه ومن خلاله صوب أوراسيا وعمقها حيث يقبع التنين الصيني والدب الروسي .. المقاومة الوطنية العراقية أفشلت الوجود العسكري الأمريكي المباشر على الأرض، بعد أن أثخنته بالجراح، ولكن أمريكا عمدت على ترك واقع الحال لوكيلها الإستراتيجي إيران لتستكمل تنفيذ المشروع، حتى لو اقتضى الأمر خلق مشاحنات وصراعات، ولكن التوكيل والعمل بالإنابة يظل هو أساس التعامل الإستراتيجي بينهما، فأمريكا تستهدف من أجل مشروعها إسقاط النظم السياسية بأدوات محلية هي في طبيعتها مكونات مذهبية وعرقية وعشائرية وقبلية  لتفجير هياكل النظم السياسية، لكي تنسحب، من ثم، باتجاه المجالات الحيوية للدول العظمى والكبرى مثل روسيا والصين وباكستان النووية والهند والنمور الآسيوية، طالما أن شعوب هذه الدول تتشكل هي الأخرى من مذهبيات وعرقيات، يمكن التلاعب بها وإثارتها بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة واتخاذها تبريرا للتدخل "الإنساني" على أساس حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها .. ولكن تظل روسيا ليست كاليمن ولا كليبيا ولا كتونس ولا كمصر وسوريا والعراق،إلخ ، لأنها قادرة على تنفيذ مبدأ المعاملة بالمثل ( Reciprocity ) حتى في العمق الأمريكي.. وأمريكا تدرك ذلك جيداً.. إذن ، لماذا المحور الروسي الإيراني السوري ؟! وهذا ما سنعالجه في الحلقة القادمة .

 

إن انهيار التوازن الدولي أدى بدوره إلى انهيار التوازن الإقليمي في منطقة معينة ومحددة هي "الشرق الأوسط"، الذي يعتبر خطوة إستراتيجية مركزية للقفز صوب خارطة جيو- بوليتيكية أكثر اتساعاً، أدخلها المخططون الإستراتيجيون في خانة مصادر التهديدات، التي تعتقد الولايات المتحدة أنها تستوجب الرد.. وهي في حقيقتها ليست تهديدات بالمعنى الذي يفسره القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومن هذه التهديدات ( مجرد عدم استجابة لدى حكومة معينة للقبول بطلب الحكومة الأمريكية في مجال معين، يُعَدُ تهديداً لمصالح أمريكا في هذا المجال ، كما أن التهديدات غير التقليدية والتي يسمونها تحديات قد ترقى، في عرف المؤسسة السياسية- العسكرية الأمريكية إلى مرتبة تعرض المصالح الأمريكية إلى الخطر ) !!

 

تقول " كوندا ليسا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق في مقال لها ( إن التدخل الأمريكي في الأزمات الإنسانية يجب أن يكون أمراً نادراً.. فالسياسة الخارجية تنطلق من المصلحة القومية وليس من مصالح مجتمع دولي له أوهامه ) . أما هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأسبق فيرى ( حيثما تتعرض حياة الأمريكيين للخطر فثمة إدراك بوجود مصالح حيوية أمريكية ) .!!

 

وكما هو معروف فأن التهديدات ومن أي نوع لها مكونين أساسيين ، الأول: وهو النيات، والثاني: وهو القدرات .. وهذا يعني أنه في حال توجيه تهديد تتلقاه دولة ما، يتعين على الدولة صاحبة التهديد أن تمتلك هذين المكونين من اجل التنفيذ .. وهذان المكونان تحكمهما معادلة الجمع بين الغايات والوسائل، كما هو الجمع بين الهدف والقوة في العمل الإستراتيجي .. بيد أن التهديدات لا تعد تهديدات إلا إذا كانت وشيكة ويحددها دستور الدولة لا وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" ، ولا مجلس الأمن القومي، ولا مؤسسات الاستخبارات قادرة على تعريف التهديد .. فالدستور الأمريكي لم يرد فيه ما يشير إلى ما تسميه الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض بـ ( الضربة الإستباقية ) .

 

ويرى المنظرون الأمريكيون إن الإدارة الأمريكية، قد بالغت في رد فعلها إزاء  أحداث الحادي عشر من سبتمبر- أيلول 2001، وأن ( فقدان 3000 في هذه الأحداث والإرتعاب من هذا الرقم لا يتماشى مع موت "15000" ألف طفل أمريكي في كل سنة بأمراض يمكن الوقاية منها وذلك لافتقارهم للتلقيح ) ، كما  جعل  شعوب العالم تتحمل ومنها على وجه التحديد شعب العراق ثمنه الباهظ، فضلاً عن ما دفعه المجتمع الأمريكي من ثمن نتيجة مخطط أرادته الصهيونية العالمية أن تنفذه الإدارة الأمريكية على حساب المجتمع الأمريكي وعلى حساب الشعب العراقي.. هذا ما يقوله الباحثون الأمريكيون وفيه دس رخيص وكأن الغزو الأمريكي هو مجرد رد فعل مبالغ فيه من دولة عظمى. !!

 

أن ما فقدته أمريكا في 11/9  لا يعادل الملايين من العراقيين الذين قتلتهم القوات الأمريكية المحتلة للعراق وأعاقتهم وشوهت أجيالهم وشردتهم، فضلاً عن ما قتلتهم حكومتها العميلة ومليشياتها الفارسية في العراق كل يوم وحتى هذه الساعة.

 

فلماذا يسكت المجتمع الأمريكي والمجتمع الدولي على سلطة تكذب وترتكب مجازر ضد الإنسانية باسم الديمقراطية وتحت ذرائع كاذبة ؟!

 

يتبـــــــــــــــــــــــع ...

 

 





الاثنين ١٥ شعبــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / حـزيران / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة