شبكة ذي قار
عـاجـل










لم تكد الضاحية الجنوبية، تلملم أشلاء الضحايا الذين مزق أجسادهم التفجير الإجرامي الذي أودى بحياة العشرات، منهم الأطفال والشيوخ، من الذين صادف مرورهم يومذاك مسرح الانفجار، والذين كانوا يكافحون الحياة لتأمين ما يسد حاجات الحياة المعيشية، حتى كانت طرابلس على موعد مع تفجير آخر، ضرب المدينة في موقعين وأسفر عن عشرات الضحايا ومئات الجرحى فضلاً عن التدمير الهائل الذي أعاد التذكير بالقصف الصهيوني للأحياء السكنية.

 

هذا المشهد التدميري المأسوي في الرويس أولاً وأمام مسجدي السلام والتقوى ثانياً، أسقط عليه سيل من الشجب والاستنكار والإدانة من كل صوب وحدب، من المتوافقين سياسياً حد التحالف، ومن المختلفين حد الاحتراب، ومن قريب المواقع وبعيده ومن داخل لبنان وخارجه. ولو كان لهذه المواقف التي دانت وشجبت واستنكرت فعالية الحد من إطلاق هذه الحملة الجهنمية من القتل العشوائي، لما كانت تكررت أعمال التفجير ولما كان سقط هذا العدد الكبير من الضحايا، ولما كانت برزت تلك المشاهد التي تقشعر لها الأبدان من هول ما حصل.

 

فور وقوع تفجير الرويس في الضاحية، وقبله بئر العبد، بوشرت إجراءات أمنية في المناطق التي اعتبرت مستهدفة أو هي قيد الاستهداف باعتبارها تشكل حاضنة شعبية لقوى سياسية معينة، في استحضار لمشهدية الأمن الذاتي الذي كان سائداً إبان الأحداث التي عصفت بلبنان منذ اندلاعها عشية الثالث عشر من نيسان عام 1975.

 

وبعد تفجير طرابلس، ارتفعت بعض الأصوات وأُطلقت بعض الدعوات مطالبة بفرض أمن ذاتي أسوة بمناطق أخرى، علماً أن طرابلس تستبطن منذ تفجر الوضع في سوريا، وضعاً أمنياً غير مستقر، إلا أنه لم يأخذ هذا البعد الذي وقف أهالي طرابلس وكل لبنان على هوله.

 

انطلاقاً من ممارسة الأمن الذاتي في مناطق معينة والدعوة إلى ممارسته في مناطق أخرى، يطرح سؤال: هل تستطيع هذه الإجراءات ان تحول دون حصول تفجيرات جديدة كالتي حصلت؟ ولو سلمنا جدلاً ان الإجراءات الأمنية ذات الطابع التقني والفني قادرة على الحد من حصول مثل هذه الأعمال، هل هي من مسؤولية القوى السياسية وقوى الأمر الواقع أم هي مسؤولية الدولة بما هي رمز للشرعية الوطنية؟

 

في الجواب على التساؤل الأول، نقول، ان الإجراءات الأمنية الفنية مهما بلغت تقنياتها المتقدمة، لا تستطيع ان تحول وأحداث أمنية موجهة نحو أهداف خاصة محددة، أو نحو أهداف عامة. وذلك لسبب بسيط، هو أن ما من أمن إلا ويخترق، ومن يستطيع أن يخترق منظومات أمنية ذات تاريخ عريق في العمل الأمني وعلى مستوى دولي، لا تعوزه الإمكانية لاختراق أية منظومات أمنية أخرى. هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإن من يعمد إلى ممارسة إجراءات أمنية مكشوفة، يصبح من السهل تجاوزها، وبالتالي فإن الأمن بمفهومه التقني وان كان يربك من يريد أن ينفذ أعمالاً أمنية إلا أنه لا يستطيع أن يحول دون تنفيذها.

 

أما حول التساؤل الثاني، والمرتبط بمسؤولية الجهة التي تتولى حفظ الأمن من الناحية الإجرائية، فإن الجواب عليه بسيط، إذ أن الدستور قد حصر شرعية ممارسة الإجراءات الأمنية بالسلطة الشرعية عبر أجهزتها ومؤسساتها ذات الصلة وهذا مرده سببان:

 

السبب الأول: ان التفجيرات التي تندرج تحت كافة المسميات، وان كانت تنفذ في مناطق معينة تارة ومناطق أخرى تارة ثانية، إلا أنها باستهدافاتها السياسية العامة فهي موجهة إلى عموم الشعب اللبناني بكل أطيافه وكل فئاته. فإذا ضربت منطقة محددة، فإن الأمن الوطني يتعرض للاهتزاز، وإذا استهدفت رمزية سياسية وأية هيئة ذات صفة اعتبارية فإن الآثار السياسية تطال الأمن السياسي الوطني برمته. ولهذا فإن المسؤولية بتوفير إجراءات الحماية تقع على عاتق من يعتبر بحكم الدستور مسؤولاً عن توفير الأمن وإجراءات الحماية.

 

السبب الثاني: ان إقدام قوى سياسية معينة في مناطق حضورها ونفوذها الشعبي على تطبيق إجراءات أمن ذاتية بحجة أنها مستهدفة، وإن وجدت بداية من يسمترأهذه الإجراءات، إلا أن هذا الاستمراء سيتحول إلى نقمة حتى من قبل أكثر المؤيدين والمتعاطفين مع هذه القوى السياسية نظراً لانعكاس ذلك على دورة عملهم، كما أنه سيحوّل المناطق التي تمارس فيها إجراءات الأمن الذاتي إلى مناطق مغلقة على حركة التواصل الاجتماعي والاقتصادي واستطراداً السياسي، وهذا لن يحل المشكلة بل يزيدها تفاقماً، عبر إضافة عناصر الاستياء الشعبي إلى حالة القلق والتوتر النفسي الذي يرخي ظلاله على كل جوانب الحياة.

 

على هذا الأساس، فإن الإجراءات الأمنية – التقنية التي تمارسها قوى سياسية وقوى أمر واقع في مناطق معينة، لن تحل المشكلة، ولن توفر أمناً وقائياً للمواطنين، لأنها فضلاً عن محدودية تأثيرها، فإنها تعيد رسم خطوط تماس سياسية جديدة انطلاقاً من الزياح الأمني المرسوم على الأرض. ولهذا، يجب الإقلاع عن ممارسة أساليب الأمن الذاتي ومقاومة أي دعوة لاستيلاده مجدداً، وتطبيقه على قاعدة الممارسة بالمثل.

 

إن التجربة التي أثبتت عدم نجاعة الإجراءات الأمنية ذات الطابع التقني بتوفير أمن ذاتي للمواطنين ومعه مستلزمات الأمن الاجتماعي والاقتصادي، يجب أن تكون كافية لعدم التكرار وعدم خوض غمار هذه التجربة مجدداً. لأن البحث عن توفير شروط الأمن الحقيقي يجب أن تبحث خارج سياقات الإجراءات الفنية من حواجز، ونقاط مراقبة، وأعمال مداهمة. وهذه ان كانت ضرورية في إطار الأمن الوقائي فهذه يجب أن تمارسها القوى الشرعية دون سواها.

 

إذاً، أين يجب البحث عن الأمن الذي يوفر مظلة أمان للمواطنين؟

إن الأمن الذي يوفر مظلة أمان للمواطنين، لكل الشعب بكل أطيافه وفئاته وقواه السياسية، هو الأمن السياسي. وهذا الأمن ليس إجراء فنياً يمارس على الأرض، بل هو موقف يتخذه كل من يعتبره أنه معني بضرورة توفير بيئة آمنة لنفسه ولحركة الناس في حلهم وترحالهم، وتوفير بيئة آمنة لحراك سياسي متظلل بالقانون، وعلى أساس القواعد التي تعتبر ان قوة وفعالية العقد الاجتماعي الوطني هي أقوى من أي عقد آخر ذي طابع ديني أو طائفي أو عرقي وهذا العقد الوطني يتقدم في نفاذ أحكامه على أي عقد آخر.

 

وإذا كان العقد الاجتماعي الوطني، يرتكز بشكل أساسي على قاعدة المواطنة في شروط الانتماء الوطني، فإن ارتقاء هذا العقد إلى المستوى الأعلى والأسمى لا يستقيم إلا إذا توفرت له مرتكزات تصل حد الضرورة.

 

أول المرتكزات: ان تكون القناعة ثابتة وراسخة عند اللبنانيين على مختلف تعددية انتماءاتهم الإيمانية، أنهم أبناء بيئة وطنية واحدة وعليه فإن انتماء المواطنة يجب أن يتقدم أي انتماء آخر.

 

ثاني المرتكزات: ان تترجم الدولة اللبنانية بما هي دولة مدنية، انتماء المواطنة في النظام السياسي الذي يدير شؤون البلاد والعباد. وهذا يتطلب أولاً، إسقاط نظام الطائفية السياسية، ليحل مكانه النظام الوطني الديموقراطي، الذي يرى في اللبنانيين، كلاً واحداً، وليس مجموعات لكل منها حدودها السياسية في إطار التركيب البنيوي.

 

إن إسقاط النظام الطائفي ومدخله إلغاء الطائفية السياسية، هو الذي يحول دون تحويل الطوائف إلى أحزاب سياسية، ويحول دون تحويل هذه الطوائف إلى ملحقات دينية واستطراداً سياسية بمرجعيات دينية وسياسية خارجية لها أهدافها ومشاريعها التي لا تستقيم ومصالح لبنان الوطنية.

 

ثالث المرتكزات: ان يتفق اللبنانيون على تحديد العدو والحليف والصديق والشقيق ،انطلاقاً من ثوابت الانتماء القومي للبنان وحسبما ورد في مقدمة الدستور.

 

هذه المرتكزات الثلاث هي التي تشكل الأضلع الأساسية لخيمة التظلل الوطني، بحيث أن أي صراع سياسي ينشأ على الساحة اللبنانية لا يخرق هذه الخيمة يبقى في حدود الاحتواء.

 

بناء عليه، فإن على اللبنانيين بمختلف قواهم السياسية، ان يعوا جيداً، أنهم محكومون بالتوافق الوطني، وهذا التوافق يفرض على الجميع، ان يقلعوا عن سياسة الاستقواء بالخارج على حساب الداخل، وان يقلعوا أيضاً عن سياسة الالتحاق بالخارج على حساب الداخل. فلا سياسة الاستقواء توفر أرضية لعلاقات سياسية داخلية سليمة لأن معطياتها توظف في إحداث خلل في نصاب التوازن الداخلي، ولا سياسة الالتحاق توفر أرضية لسلم أهلي، خاصة إذا كان الاستقواء من ناحية والالتحاق من ناحية أخرى بقوى دولية وإقليمية، يملي اتخاذ خيارات سياسية توظف في تحسين مواقع قوى على حساب أخرى، وفي الانخراط في صراعات لا تملك قوى الداخل اللبناني الموقع المؤثر في تحديد اتجاهاتها. وبالتالي فإن انعكاسات الاستقواء والالتحاق تكون سلبية في محصلتها، لأنها تتم خارج القرار الوطني الجامع الذي يفترض أن تعبر عنه الدولة في موافقها وتعكسه في سلوكها.

 

إن التظلل بالقرار الوطني الجامع، يجب أن يكون مسلمة، يتم الانضواء تحت يافطتها طوعاً، وسنداً لقناعة ثابتة، بأن أحداً لا يستطيع أن يأخذ البلد إلى حيث يريد وفقاً لحساباته السياسية الخاصة دون أن يحدث ذلك، ارتجاجاً سياسياً داخلياً. وأن أحداً لا يستطيع وهو يتخذ خياراته السياسية الاستراتيجية، فرض ها الخيار بقوة الأمر الواقع أو قوة الاستقواء .ولهذا فإن الخيارات السياسية التي توفر تجنب البلاد أزمات سياسية حادة، هي الخيارات التي توجب على أصحابها أن ينظروا إلى خياراتهم ليس من خلال منظارهم الخاص، بل من خلال المنظار الوطني العام. وعندما يمارس الخاص السياسي دوره من خلال قواعد العام الوطني تتسع مساحة العام المشترك على حساب الخاص الفئوي. وهذا العام المشترك يوفر أرضية من ناحية وخيمة من ناحية أخرى لعمل سياسي مشترك يضع مصلحة لبنان، كياناً وطنياً فوق مصلحة الفئويات السياسية أو الفئويات الطائفية.

 

إن العام السياسي الوطني المشترك، يجب أن لا يكون إطاراً نظرياً وحسب، بل يجب أن يقرن بسلوك عملي على مستوى الموقف والأداء، وألف وباء هذا السلوك، هو أن يكون الاستعداد كاملاً وشاملاً لدى الجميع لأن يدخلوا في مشروع الدولة. وعندما يدخل الجميع مشروع الدولة وتصبح هي صاحبة الحق الحصري في إدارة الشأن العام وإدارة السياسية العامة في الحرب والسلم، تصبح هي المؤهلة لتوظيف قدرات الشعب في إدارة الصراع مع العدو وتحديد إطارات التعامل مع الصديق والشقيق والحليف الشفاف والمموه انطلاقاً من أولوية المصلحة الوطنية وليس على حسابها.

 

إن الدخول إلى مشروع الدولة، هو الذي يوفر الأمن الإجرائي الوقائي انطلاقاً من توفير التغطية السياسية الشاملة للقوى الشرعية وهي تمارس عملها الأمني. وأن الدخول إلى مشروع الدولة هو الذي يقوي ركائزها ويعزز فعالية أدائها السياسي، وبالتالي يقوي بنيتها على حساب قوى الأمر الواقع. وان الدخول إلى مشروع الدولة هو الذي يجعل الجميع تحت سقف القرار السياسي الذي تتخذه الدولة عبر مؤسساتها ذات الصلة، في إدارة الشأن الداخلي والتعامل مع الخارج. وان الدخول إلى مشروع الدولة هو الذي يعيد الاعتبار لدور المؤسسات العامة لتمارس دورها بعيداً عن نظام المحاصصة وآليات التعطيل المتبادل.

 

إن الدخول إلى مشروع الدولة تحت هذه العناوين، يعيد الامتلاء إلى الحالة الوطنية العامة، ويضع حداً لهذا الفراغ والإفراغ لدور المؤسسات العامة، التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية، ومعها تعود مسيرة إعادة البناء الوطني لتخطو خطواتها العملية لإرساء دعائمها القوية على قاعدة أولوية الولاء الوطني على أي ولاء آخر.

 

إن الدخول إلى مشروع الدولة، يضع الجميع أمام الامتحان، ويكشف الغث من الثمين في إطلاق المواقف السياسية، ويكشف من يمارس سياسة التقية والتكاذب، وسياسة الصدق في الموقف والسلوك. وإذا ما تحقق ذلك تكون الرحلة الطويلة قد شقت طريقها على أسس صحيحة وسليمة، ومعها يتحقق الأمن الوطني بمفهومه الشامل سواء في مواجهة تحديات الخارج أو في مواجهة أزمات الداخل، وعندها يشعر كل لبناني أنه هو المستهدف من كل تفجير أو تفلت أو اختراق أمني، ولا تعود سلوكية الشماتة المعيبة، تبرز صورها المستفزة في توزيع الحلوى عند وقوع التفجيرات والتي هي واحدة من تعبيرات الاحتقان المذهبي والطائفي المقيت والبغيض والتي لم تكن مرة، معبرة عن أخلاقية اجتماعية أو حس إنساني.

 

إن الذي يوفر أمناً وأماناً للبنانيين على المستوى الوطني، وعلى مستوى ضرورات أمنهم الحياتي والاقتصادي والاجتماعي هو أمن سياسي بالدرجة الأولى. وسبيله الوحيد هو عودة الجميع للتظلل بمشروع الدولة.

 

إننا نرى أن ما حصل كافٍ حتى يجعل اللبنانيون يتعظون ويعون بأن أحداً لن يخرج رابحاً من استيلاد الأزمات، وأن أحداً لن يستطيع توفير بيئة آمنة خاصة به إلا ضمن بيئة وطنية آمنة، وأن أحداً لن يستطيع إلغاء الآخر مهما بلغ فائض القوة المادية لديه ومهما اتسعت مروحة علاقاته الخارجية لأن لبنان أما أن يبقى للجميع، وإلا فلن يبقى لأحد.

 

 

 





الثلاثاء ٢٠ شــوال ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / أب / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة