شبكة ذي قار
عـاجـل










قيل الكثير عن القمة العربية، وكُتب عنها أكثر، ولم تتجاوز الأحكام على نتائجها انتقاد بعض تفاصيل القرارات، هذا إذا كانت هناك قرارات. بل ما صدر عنها على هزاله جاء ليثبِّت حدود ما يتمناه لها اللاعبون الدوليون والإقليميون، ولم يتجاوز هذا القليل ما يغسل ماء وجه من حضروا. فقد تحولت القمة إلى أشكال فارغة من المضمون، ومهما قيل فيها من نقد وتجريح فهو من قبيل الردح بحق ميت، وليس لجرح النقد بميت إيلام.


لم يعد هناك ما يقلق أعداء الأمة العربية، بعد أن تحول العرب إلى خنادق التفرقة والفرقة:


وهل هناك دليل أكثر وضوحاً من مشهد العرب في الدورة الخامسة والعشرين للقمة العربية، حيث يظهر في هذا المشهد المأساوي، إرهابيون رسميون عرب يقاتلون إرهابيين، وديكتاتوريون عرب يقاتلون ديكتاتوريين من بني جنسهم.


فكيف يكون الحل؟


في جوقة مماثلة لا حلَّ على الإطلاق. بل تبادل الاتهامات بالإرهاب والديكتاتورية، بينما تبقى المسألة الديموقراطية غلافاً جذاباً يزين به أعضاء مؤتمر القمة خطاباتهم وكلماتهم، وإطاراً جميلاً كواجهة تختبئ تحته قبائحهم وجرائمهم.


عرب في مواجهة عرب، بينما اللاعبون من الخارج يتفرجون، يأمرون ويتآمرون، وكل منهم مدَّ نفوذه على مقدار بساط مصالحه، تجمعهم مصلحة أولى هي تمديد العرض المسرحي الذي يقدمه العرب في كواليسهم وكذلك في مؤتمراتهم. فمن وسائل الخارج أن يستغل أمراض الفرقة والتفتيت بين الأنظمة العربية، ويدعهم يتقاتلون ويتبادلون التهم، إلى ما شاء الله، ولكن على أن تبقى ثروات العرب مستباحة لكل من هبَّ ودبَّ من الطامعين ..(استنزاف الثروة العربية) حتى آخر قطرة بترول في آبارهم.


يُؤرَّخ لبداية النهاية في مسيرة القمة العربية، منذ القمة التي عقدت في القاهرة في أوائل شهر آب من العام 1990، التي أَوْكَلَ فيها من اجتمع من الرؤساء العرب مهمة حل القضية الكويتية للولايات المتحدة الأميركية على قاعدة وسائلها في الحل، ولم يكن في جعبتها إلاَّ وسيلة إسقاط النظام الوطني في العراق. ولماذا العراق؟ وجواباً على هذا التساؤل، لأنه لم يبق في السرب العربي سوى النظام الوطني الذي كان يغرِّد خارج سربه، رافضاً سياسة الاحتواء التي كان الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية خاصة، يمارسها على سائر الأنظمة العربية.


وهذا ما حصل بالفعل منذ العدوان الثلاثيني الذي شنته أميركا ضد العراق، وتلاه كل أنواع الحصار. والتي فشلت جميعها، فالحكم الوطني لم يرضخ، وكان يداوي آثار الحصار الظالم وتأثيراته التي أنزلت بالشعب العراقي التجويع، بوسائل مبتكرة وحلول ذكية، في الوقت الذي كان يعمل جاهداً بالوسائل الديبلوماسية لفك الحصار عنه. وكان لا بدَّ بعد هذا الصمود من قرار احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني. وهذا ما حصل في آذار من العام 2003.


لم يسقط النظام الوطني في العراق فحسب، بل سقط أيضاً ما تبقى من هياكل للمؤسسات العربية الرسمية، وفي مقدمتها مؤسسة القمة العربية، التي عقدت آخر اجتماعاتها الجدية في أيار من العام 1990.


وإذا كان يُؤرَّخ لسقوط القمة العربية منذ بداية التآمر على العراق واحتلاله، فإنه سيؤرخ لاستعادة إحيائها بعد تحرير العراق. ولماذا بعد تحرير العراق؟


كان العراق، بعد انتصاره على العدوان الإيراني في العام 1989، مركز الجذب العربي، والمحور الذي لفَّ حوله عدداً من الأنظمة العربية، متناسياً كل خلافاته معها، لأن العمل العربي المشترك هو الضمانة لإبراز قوة العرب، وتناسي الخلافات هو المدخل الأساسي لتلك الضمانة. وهذا ما لا يُدخل السرور إلى قلوب الأنظمة الغربية الرأسمالية، بل أدخل الهم والغم في نفوسها، لأن وحدة العرب بحدها الأدنى هو المقتل لهدف الغرب المتآمر على الوحدة العربية المستندة إلى الأيديولوجيا القومية. تلك الإيديولوجيا تُعتبر النقيض الرئيسي لجوهر اتفاقية سايكس – بيكو، وجوهر وعد بلفور.


لكل ذلك، ومنذ أن أُسقِط النظام الوطني في العراق، أُسقِطت آخر مرجعية قومية جاذبة للعمل العربي المشترك على المستويين الرسمي والشعبي. وبإسقاطه افتقدت ساحة العمل القومي محورها الأساسي، فتناثرت الأجزاء المحيطة به، وألمَّ الضعف بها، وانتاب الوطن العربي حُمَّى الشرذمة والتفتيت، على مستوى حركة التحرر العربي أم كان على مستوى العمل الرسمي، وفرغت الساحة أمام كل المقتنصين للفرص ممن هبَّ ودبَّ دولياً وإقليمياً. وندبت كل قوة نفسها لتملأ الفراغ القاتل. كما فرغت الساحة ولم تجد من يقوم بملئها في زمن ثورة الجماهير، فتلاطمتها أمواج القادمين من خارج، ووجدت فيها فرصة تتغطى بدخانها، لتتولى شؤون الثورة وتدير مراوحها على وقع عواصفها العاتية، لذلك لم تجنِ الجماهير إلاَّ قبضات من رياح الخارج المحمَّلة بالحروب الأهلية، التي ولَّدت كل أنواع الجرائم والموبقات، من تجويع وموت برصاص الفوضى، وموت من الأمراض والتهجير والذل.


وحدها المقاومة الوطنية العراقية ظلَّت محافظة على نقائها وبقائها، وهي تمثل الآن الأمل الذي سيعيد للثورة العربية ألقها، كما أعادت الحيوية إلى الشارع العربي، وسيزداد ألقها وتأثيرها كلما فرضت نفسها على الإعلام، وكلما دخلت أخبارها إلى كل بيت مخترقة حواجز الكونكريت الإعلامي الذي يعمل على حجبها عن الرؤية، ولكن هل يحجب الغربال نور الشمس؟


وحدها المقاومة العراقية التي جمعت ثلاثية المنهج السياسي والقيادة الجماعية والشعب الثائر. وعلى خطى هذه الثلاثية سيسير النظام الذي سيحكم العراق بعد التحرير والاستقلال، خاصة أن الإعلان عن مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية والشعبية والإعلامية جاء ليجعل من الثورة أنموذجاً للتخطيط السليم الواعي، وبها عرفت المقاومة العراقية كيف بدأت خطواتها الأولى وهي تعرف كيف تنظم خطواتها اللاحقة، فثلاثية تحديد أسباب الثورة وتحديد وسائلها واستشراف نتائجها أصبحت منهجاً علمياً يُمحض الثقة التامة والكاملة.


إن ثورة على هذا المنوال، قائمةً على الأسس الجبهوية، ستُنتج نظاماً سياسياً سيعيد العراق دولةً ستشكل المحور الذي سيملأ الفراغ القومي أكان على مستوى الأنظمة الرسمية، أم على مستوى أحزاب وقوى حركة التحرر العربي. وبهذه الصورة التي تصنعها الثورة العراقية التي تجتاح العراق كله، لا بدَّ من أن تعمل على إعادة الفعالية للمؤسسات القومية، وتأتي القمة العربية في طليعتها. وبهذا لن تعود القمة إلى الحياة إلا بالقضاء على الأسباب التي أدَّت إلى موتها. ماتت بعد إسقاط النظام الوطني في العراق، وستحيا بعد بناء نظام الاستقلال والتحرير على أرضه.

 

 





الخميس ٢٦ جمادي الاولى ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / أذار / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة