شبكة ذي قار
عـاجـل










عندما لا تجد خصماً، يهدد أمنك ومصالحك، عليك أن تختلق عدواً، وأن تهيئ الأرض الخصبة. ثم عليك أن تصب عليه كل النعوت الضرورية لإظهاره بالشكل الذي تريده. ولابد أيضاً من اللجوء لكل الأساليب المغلفة بالعدالة والحقوق، ولابأس من إسقاط الخلفية الآلهية، وكل التبريرات التي تجيزها حتى في غياب المصداقية، لأن الصيد الثمين الذي تريده، يتخطى كل مشروعية إن وجدت.


أن توظيف اللحظة المناسبة، بعد أن تخلق رأياً عاماً موجهاً، ينقاد بسلاسة لجملة العوامل الآنية التي وظفتها ببراعة، يجعل إمكانية فرض الزمان والمكان اختيارياً بما يخدم السلوك الذي تراه مشروعاً حتى لو فقد كل القيم الإنسانية التي تسوغها لديك مشروعية زائفة.


هذه المقدمة ضرورية في إطار تسليط الضوء على عقلية تيار المحافظين الجدد، الذين جهدوا طوال عقود. في تهيئة كل العوامل المؤثرة في إطار تحقيق مشروعهم، الذي كان مكرساً بوضوح جلي ليتخطى كل الأسس المبينة ليخدم تلك المغيبة.


عراة أمام المنطق
إنطلق منظري تيار المحافظين الجدد من فكرة تحتم إعادة تشكيل النظام الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة، في ظل إحادية القطب بعد زوال الإتحاد السوفياتي. وأن القوة العسكرية هي الأداة الأساسية لمواجهة التحديات وتسوية النزاعات في العالم. ورأوا أن أمام أمريكا فرصة سانحة لإعادة صياغة النظام العالمي. وأن على الغرب أن يتوحد خلف القيادة الامريكية كتابعين وليس كحلفاء كما حاول الآخرين تبريره.


وعندما وصل رموز منهم إلى موقع السلطة في امريكا خاصة مع جورج بوش الابن، كانت فرصتهم السانحة لتطبيق نظريتهم، من خلال تبرير التدخل العسكري الفظ، خاصة في العراق، في محاولة لإعادة تشكيل هذا البلد. وما رفض الإدارة الامريكية لنتائج كل لجان التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل، وأصرارهم على امتلاكه لهذه الأسلحة، إلا تندرج في مفهوم "الكذبة النبيلة" التي طورها وتبناها الأب الروحي لهم (ليو ستراوس).


كما إستندوا على مكون فكري نادى به (ستيفن هلبر) و(جوناثان كلارك) الذي يؤكد بشكل مطلق على الصراع بين "الخير" و"الشر". وان بناء امريكا كقوة كبرى لتحارب الشر بالعالم كله ضرورة حتمية. من هنا أيضاً يمكن فهم تبرير آخر لشن الحرب على العراق، بإنه يهدف لإزاحة "نظام الشر" العراقي، الذي يهدد أمن الكيان الصهيوني، ومصالح الرأسمالية المتوحشة.


ولابد أن عامل تأميم النفط العراقي، وسلة العملات الذي رغب النظام العراقي بتحقيقه "دائماَ في ظل الاستفراد الامريكي" كان عاملاً مضافاً. إذا ما لاحظنا العامل الجيوسياسي للعراق ضمن امتداد الوطن العربي كله. فالليبرالية الجديدة التي آمن بها المحافظين الجدد، ترتكز على فرض رؤيتهم على نظام العولمة، بضرورة تدويل شامل على صعيد الإنتاج والسوق والتبادل.


ولابد هنا من إشارة ضرورية للمذكرة الاستراتيجية التي وضعها (ليندون لاروش) ويكشف بها حقائق هامة:"أن هدفهم هو ليس إخضاع مناطق معينة سياسياً كمستعمرات، بل إزالة جميع المعوقات التي تقف في طريق النهب الحر للعالم كله.و إن نيتهم هي ليست فتح أراضي جديدة، بل تحقيق إزالة كل أسس السيادة القومية . فهدفهم في العراق و أفغانستان على سبيل المثال هو ليس السيطرة على هذين البلدين، بل إزالة أمم قومية عن طريق إطلاق قوى الفوضى والدمار. هذا سيكون من قبيل خداع النفس بشكل كبير – حسب تصورهم - اعتبار فشل العمليات العسكرية في العراق كفشل لأهداف إدارة بوش، بل عمدوا من خلال "الفوضى المنظمة والفوضى الخلاقة" الى محاولة التدمير الذاتي لآخر بقايا سيادة الدولة القومية، وهذا ما يحققون فيه نجاحات كبيرة – مع الاسف - في الوقت الراهن، اذا ما تمعنا بما يجري في بعض الاقطار العربية.


و في وثيقة تعود لعام 1996 لمجموعة من مفكري تيار المحافظين الجدد، تتبنى إستراتيجية جديدة لتأمين "مملكة إسرئيل" تضمنت مشروعاً استعمارياً واسعاً للشرق الأوسط. هذه الوثيقة أعدت من قبل فريق منهم، جمعهم (ريتشارد بيرل) تبنت بوضوح أفكار وأطروحات الصهيوني (فلاديمير جابوتينسكي)، إذ دعت الوثيقة إلى:" التنصل من اتفاقيات أوسلو للسلام، والقضاء على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وضم الأراضي الفلسطينية، إلى جانب الإطاحة بالرئيس صدام حسين وتفكيك العراق".


وفي هذا الإطار أذكر ان المناضل الشهيد منصور الكيخيا، بعد عودة من زيارة له إلى الولايات المتحدة آنذاك، أكد لي أن الولايات المتحدة عازمة على غزو العراق لأسباب كثيرة يأتي في أهمها اصرار الرئيس العراقي صدام حسين على التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، وانتهاجه القرار السياسي العراقي المستقل. و بعد تظاهرة جمعتنا بباريس اواخر عام 1990 ضد طبول الحرب التي كانت تقرع بشدة ضد العراق، و كان يتوكأ على عصاه و هو في عمره المتقدم، قال لي المفكر الفرنسي جان دريش: " هذه الحرب ستحصل، و هي تدخل ضمن اهداف الامبريالية التي بلورت آراء خطيرة لرسم شرق اوسط جديد". كما ان المفكر الراحل روجيه غارودي، اكد في جل كتبه، كما في احاديثه و لقاءاته الكثيرة، و منها ما سمعته منه شخصيا، على خطورة المخططات التي ترسم لاستهداف الدول العربية، و تفتيتها و تمزيق الكيانات الوطنية، ضمن المشاريع التي تعد باسم "الشرق الاوسط الكبير" او "الشرق الاوسط الجديد"، و ذلك لخدمة الكيان الصهيوني، و أجندات الرأسمالية المتوحشة.


تحالف المتطرفين
التقت أجندة المحافظين الجدد ـ منذ ظهورهم ـ مع اليمين الأمريكي والتيار المسيحي المتطرف. إذ تحالفوا مع "الجناح اليميني" في الحزب الجمهوري، وجماعات "الأصولية المسيحية" القريبة جداً من اللوبيات الصهيونية، وهو تحالف اعتمد عليه المحافظون الجدد كثيراً للوصول إلى السلطة. وكان الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) قد أشار في كتابه إلى أن ما يزيد الطين بلة هو توافق أجندة المحافظين الجدد مع أجندة متطرفة أخرى، هي أجندة الأصوليين في اليمين المسيحي الأمريكي.


وأخيراً، في هذا السياق، لا بد من الإشارة لأتهامات (بات بيوكانن) للمحافظين الجدد بـ : " بانهم اختطفوا السياسة الخارجية في عهد بوش الابن، كي تقوم امريكا بدور الشرطي في العالم، من خلال سياسة الحروب الإستباقية لدعم الكيان الصهيوني، ومن أجل فرض أفكارهم في العالمين العربي والإسلامي وإعادة تشكيلهما".


وفي كتابه "أين أخطأ اليمين" كشف (بات بيوكانن) أن ايديولوجية المحافظين الجدد تنطلق من مبدأ أساسي وهو توافق مصالح أمريكا مع العدو الصهيوني، وبالتالي فهم يدعون الولايات المتحدة إلى محاربة أعداء الكيان الصهيوني. وقد دفعوا أمريكا إلى شن الحرب على العراق، والتي اعتبرها (بيوكانن) أكبر خطأ استراتيجي أمريكي خلال أربعين عاماً.


من هم الصقور
يؤكد الرئيس الامريكي الأسبق جيمي كارتر في كتابه "القيم الامريكية المعرضة للخطر" : إن خطورة فلسفة المحافظين الجدد إعتمدت على تبني التفرد في الشؤون الخارجية لاعلاء شأن الولايات المتحدة ومصالحها السياسية والعسكرية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا نجد ان ادارة بوش الابن إعتمدت وفي موقع القرار على مجموعة من صقور المحافظين الجدد من أمثال (ديك تشيني) و(رونالد رامسفيلد)، اللذين وصفهما (بوب ادوار) في كتابه "حالة إنكار" أنهما "المسؤولين عن مأزق امريكا في العراق". وهناك أيضاً "أمير الظلام" (بول وولفوتيز)، منظر إحتلال العراق، وصاحب نظرية "استخدام القوة الامريكية لتدمير أعداء اسرائيل". أما (دوجلاس فيث) الذي شغل موقع الشؤون السياسية في البنتاغون فقد أنشأ مكتب الخطط الخاصة، الذي هدف إلى التلاعب بالمعلومات المخابراتية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، لتضليل الرأي العام الامريكي والعالمي، و للتغطية على الدوافع الحقيقية للغزو. أما (جون بولتون) مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة – و هو في ذات الوقت عضواً في "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي"- فقد أعتبر ان هذه المنظمة يجب ان تكون أداة للسياسة الامريكية وان تشكل الغطاء لسياستهم وكان لا يخفي احتقاره لشرعية القوانين الدولية. واعتبر في مقال نشره في صحيفة "وول ستريت جورنال" أن المعاهدات الدولية التي توقعها الولايات المتحدة، لا تعتبر قوانين ملزمة، واجبة الاحترام، ولكن كضرورة سياسية لا بد من التراجع عنها مع تغير الظروف.


أما (ايليوت كوهين) الذي عينته وزيرة الخارجية كونداليزا رايس مستشاراً لها. فقد اعتبر أن العالم يعيش الآن حرباً عالمية ضد العالم الإسلامي ، وقد وصم ديناً كاملاً بأنه يحرض على العنف ويخلق جواً ثقافياً يقود إلى الإرهاب، ومن ثم يروجون بأن الخطر الأساسي الذي يهدد أمريكا هو خطر الإرهاب الذي تقوم به جماعات مسلمة بالأساس. أما (ريتشارد بيرل)فقد رأى :"إن السياسة الوحيدة الممكنة للغرب وللولايات المتحدة الامريكية، في كل حال، هي سياسة المواجهة الطويلة الأمد والمتعددة الأشكال مع العالمين العربي والإسلامي.


وفي حديث لجريدة هآرتس قال (وليام كريستول) حول الدوافع الحقيقية التي شنوا من اجلها الحرب على العراق: "إن هذه الحرب تهدف أول ما تهدف إلى تشكيل وبناء شرق أوسط جديد، فهي حرب لتغيير الثقافة السياسة في المنطقة بأكملها". ويوضح بشكل جلي: "بعد 11 سبتمبر 2001 استيقظ الأمريكيين ليكتشفوا أن هذا العالم أصبح مكاناً خطيراً، ولهذا بحثوا عن مبدأ أو عقيدة تتيح لهم مواجهة هذا العالم الخطير، والعقيدة الوحيدة التي وجدوها هي تلك التي يتبناها المحافظين الجدد، وتقوم على تغيير الثقافة السياسية للمنطقة، وإيجاد نظام عالمي جديد، والإستعداد لإستخدام القوة لبناء وتأسيس هذا النظام الجديد. وعلى هذا الأساس كان غزو العراق ضرورة لهم لبناء النظام العالمي و"الشرق الأوسط الجديد".






الثلاثاء ٢٠ رجــب ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / أيــار / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي نافذ المرعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة