شبكة ذي قار
عـاجـل










قلما اجتمعت مناسبات ذات دلالات سياسية ونضالية في وقت واحد. لكن هذه القلة لا تعني الاستحالة والدليل أن أربع مناسبات تستحضر من خلال مشهدياتها تقاطعت في توقيت زمني. فالأولى كانت قبل خمسين عاماً يوم انطلقت الثورة الفلسطينية، مؤرخة لبداية عهد جديد من النضال الوطني الفلسطيني المفتوح على عمقه القومي. وبعد عشر سنين من ذاك التاريخ، كان الجنوب اللبناني على موعد مع ملحمة بطولية، خاض غمارها مناضلون بعثيون على مرمى حجر من أرض فلسطين.


ومنذ ثماني سنوات وقف العالم على مشهدية نضالية كان بطلها قائداً تفتح وعيه السياسي على واقع أمة ترزح تحت وطأة التجزئة والتخلف، وأغمض عينيه وهو مطمئن بأن حصاداً سيقطف وإن طال أمده. وفعلاً، لم يطل موسم الحصاد كثيراً، إذ بعد خمس سنوات، كانت الأضواء تطفئ على ممرات العبور بين بغداد وأم القصر، لحجب الرؤية عن انسحاب قوات الاحتلال التي دخلت على وقع صخب الإعلام ووضح النهار وخرجت في ليلة ظلماء افتقدت إلى بدرها الذي احتمى في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، كي لا يكون شاهداً على جرجرة ذيول الهزيمة لأميركا.


هذه المناسبات التي تقاطعت في الزمان، وتباعدت في المكان، كانت مشدودة إلى جذع واحد في شجرة يصل فيؤها حدود الوطن من المحيط إلى الخليج. وبالتدقيق في الأبعاد، كانت تعبيرات متنوعة عن جوهر قضية واحدة. هي قضية الأمة العربية في توقها نحو التحرر والتقدم والوحدة مختصرة بفلسطين .وعندما وضعت الأمة قضية فلسطين في موقعها الطبيعي بما تعني وما تجسد، فلأنها كانت تعي جيداً أن فلسطين ومنذ بدأ التخطيط الصهيو - الاستعماري لاستلابها، لم تكن مستهدفة لذاتها وحسب، بل أن الأمة العربية هي المستهدفة من خلالها. نظراً للموقع الذي تحتله في الجغرافيا، والمكانة التي تشغلها في التاريخ، والرسالة التي تحمل لواءها. ولو لم تكن فلسطين تتبوأ هذا الموقع، لما وقع الاختيار عليها لتكون أرضها نقطة الارتكاز لرأس بيكار المخطط الاستعماري، وشعاعه حدود الفرات والنيل.


على هذا الأساس، كانت الأحداث، الصغرى والكبرى التي تشهدها الأمة، ترتبط بدلالاتها السياسية والنضالية بفلسطين.


لقد انطلقت الثورة الفلسطينية، قبل خمسين سنة، لتعيد تصويب البوصلة باتجاه الهدف الأساسي الذي يجب الوصول إليها ألا وهو تحرير فلسطين. وهي انطلقت ثورة شعبية، لأنها ثورة أمة بكل مكوناتها وكل أطيافها، وهي في تكوينها البنيوي كانت فوق الهويات القطرية، وفوق كل أشكال التطيف والتمذهب ولهذا رأى الإنسان العربي نفسه منتمياً لها بالهوية النضالية لا بهوية الجنسية. هذا الانتماء النضالي للهوية النضالية، هو الذي شكل باعثاً لدفع الشباب العربي للانخراط في صفوفها، وقبل أن تتقاذفها أمواج الانقسام والتشرذم، وهذه الهوية هي التي جعلت المناضلين العرب يندفعون للدفاع عن هذه الهوية وحمايتها. ولو لم يكن كذلك، لما كانت صفوف الثورة تضيق بهم الأطر التنظيمية وهم يتقدمون الصفوف والمواقع انتصاراً للقضية.


ففي مواقع التخوم الجغرافي لفلسطين، سطرت أروع الملاحم البطولية وعلى سبيل المثال لا الحصر، ملحمة كفركلا التي قادها المناضل عبد الأمير حلاوي وبالأمس القريب أزيحت الستارة عن اللوحة التذكارية للموقعة التي قضى فيها شهيداً. وفي سياقها كانت ملحمة الطيبة التي خاض غمارها أبناء شرف الدين الذي صادف تأريخ ملحمتهم، تاريخ انطلاق الثورة الفلسطينية.


أما في مواقع الجغرافيا العربية البعيدة عن تخوم فلسطين فإن المناضلين العرب وإن كانوا بعيدين في الجغرافيا، إلا أنهم لم يكونوا كذلك بالنسبة لقضيتها التي تجسد الاختصار المكثف لقضايا الأمة. وأنه في طليعة المناضلين العرب الذين رأوا في قضية فلسطين قضية قومية بامتياز، كان البعثيون هم الأكثر طليعية والأكثر التصاقاً، والأكثر معايشة. فهم أينما حلوا كانت فلسطين تتصدر خطابهم السياسي وهذا ما وضعهم ضمن دائرة الاستهداف المركزي لقوى التحالف الصهيو-استعماري المتقاطع مع مناصبي الأمة العداء على اختلاف مشاربهم ومواقعهم الدولية والإقليمية.


لهذا السبب، فإن الحرب على العراق والتي اتخذت بعداً كونياً، إنما ارتبطت بأحد بواعثها الجوهرية بموقفه من القضية الفلسطينية. فالعراق في ظل نظامه الوطني، لم يكن يخوض معركة النهوض الوطني وحسب، بل كان يشكل رافعة لقضايا النضال العربي ويشكل حضناً دافئاً لثورة فلسطين في وقت كان الحصار يطبق عليها من كل صوب وحدب.


وعندما تكون فلسطين بالنسبة للعراق في ظل نظامه الوطني وقائده صدام حسين، أقرب إليه من مرمى الحجر، والنظر إليها بأسرع من لمح البصر، فلأنها كانت تعيش في جوارح حزب الثورة العربية، وهذا ما يفسر مستوى العدائية للعروبة والذي تكنه القوى التي لا تريد للأمة أن تحقق وحدتها و تنهي حالة استلابها القومي والاجتماعي. ومن يقف على حجم الدمار المادي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي ألحقته قوى العدوان بالعراق ،


لقطع الشك باليقين، حول الهدف الأبعد لهذا التدمير. ومن يقف على المشهدية التي نفذت فيها عملية اغتيال قائد العراق ومهندس مقاومته، لتبين حجم الحقد العدائي ببعديه السياسي والعقائدي ضد ما يجسده صدام حسين من رمزية قومية ووطنية وبعثية. ومن يعد عُقد الحبل الذي نفذت فيه عملية الاغتيال، لوجودها 39 عُقدة، أي بعدد الصواريخ التي أطلقت على العدو الصهيوني عام 1991.


لقد أرادت الحركة الصهيونية أن توجه رسالة إلى من يعينهم الأمر، بأنها كانت حاضرة في الإعداد تخطيطاًَ وتنفيذاً في تنفيذ عملية الاغتيال وأن كل صاروخ سقط على كيان العدو، كان مقابله عقدة تشد على عنق الرئيس وهو بطبيعة الحال كان يدرك هذه الحقيقة، وكانت كلماته الأخيرة أشد وطأة على العدو وحلفائه عبر النطق بآخر وصاياه "عاشت فلسطين حرة عربية".


بهذه الوصية التي كانت تتويجاً لموقف مبدأي – عقائدي، ثبت أن صدام حسين كان مسكوناً بفلسطين، كما رفاقه في الطيبة وكفركلا، وكما رفاقه في الثورة الفلسطينية. وأن مصادفة ذكرى الاستشهاد وانطلاقة الثورة وملحمة الطيبة مع بعضها البعض، يعطي الدليل، بأن هذه المصادفة لم تكن لتحصل لو لم يكن أبطال هذه المشهديات يقفون على أرضية موقف واحد وإن تعددت أماكن تواجدهم في الجغرافيا.


إن هذا التقاطع للمشهديات الثلاثة رغم تباعد الزمان والمكان ، أعطى تزخيماً للعمل النضالي، وارتقاء في الأداء واتساعاً في المواجهة واستعداداً غير متناه للتضحية، وكانت أول نتائجه دحر الاحتلال في العراق والذي وإن وقّت المحتل تاريخ انسحابه في يوم تقاطع المشهديات، إلا أن هذا التاريخ بالنسبة لنا هو يوم وطني بامتياز للعراق و يوم قومي أغر للأمة، لأنه اليوم الذي أرّخ فيه انتصار المقاومة الوطنية العراقية على تحالف القوى التي قادتها أميركا لتدمير العراق واحتلاله وضرب الظهير القوى لقضية فلسطين.


على هذا الأساس، فإن هذه المناسبات الأربع ترتبط بمقدماتها وسياقاتها ونتائجها بقضية فلسطين، بدءاً من إطلاق الرصاصة الأولى، في الـ 65 وانتهاء بإطلاق الرصاصة الأخيرة في 2011 على المحتل الأمريكي.


لقد انعش انتصار العراق على الاحتلال المتعدد الجنسيات الحالة الوطنية العراقية، كما انعش الحالة الجماهيرية العربية، بحيث كان للضخ التعبوي الذي أفرزه معطى النضال المقاوم في العراق، دوراً في تثوير الجماهير العربية، التي انطلقت في حراك شعبي لإسقاط أنظمة الارتهان والاستبداد والتبعية. وهذا ما خشيت منه قوى التحالف الصهيو - استعماري الشعوبي، وبما حدا بها لأن تعاود الكرة في عدوانية جديدة تحت حجة مواجهة الإرهاب. وهي بما ترمي إليه حقيقة، هو ضرب النتائج السياسية التي تمخضت عن مقاومة الاحتلال والتي بطبيعة الحال لن تبقى مفاعليها مفتقرة على حدود ساحة العراق، بل ستأخذ بعدها القومي وستكون أولى انعكاساتها الإيجابية على واقع النضال الفلسطيني. وهذا ما يقدم دليلاً جديداً، بأن هذه الهجمة الجديدة، إنما يراد لها أن تضرب حالة النهوض الوطني في العراق، للحؤول دون استعادة وضعه الطبيعي وإعادة بناء دولته على أسس وطنية قوية وهيكلة حياته السياسية على قاعدة المساواة في المواطنة والديموقراطية. وحتى تبقى ثورة فلسطين دون سند قوى ودون حاضنة دافئة لأهدافها. وما سعي القوى المعادية للأمة العربية لضرب وإضعاف مقومات الدولة الوطنية وأنموذجها الصارخ العراق بعد استئناف العدوان عليه الإ رساله أيضاً لفلسطين بأنه الدعوة لقيام دولة فلسطينية بمعايير وطنية هي وهم في ظل الواقع العربي الراهن والحالة الفلسطينية مرآة له. ومن هنا يجب أن نبدأ، أي بالعودة إلى بداية المنطلقات، بداية توحد الموقف الوطني الفلسطيني، وبداية توحد البندقية المقاومة، وبداية إعادة الاعتبار للكفاح الشعبي بكل تعبيراته، وبداية اعتبار انتصار المشروع الوطني في العراق هو انتصار لفلسطين، كما انتصار الحراك الشعبي العربي المحمول على رافعة المشروع الوطني الذي يحمي المقومات الوطنية لجهة وحدة الأرض والشعب والمؤسسات وإقامة النظام السياسي الديموقراطي الذي يمكن الجماهير من ممارسة دورها في تحديد خياراتها الوطنية وحماية خياراتها القومية.


انطلاقاً من هذا المعطى يجب النظر إلى تقاطع المناسبات ذات الدلالات الوطنية والقومية وخاصة الأربع منها والتي باتت بمعانيها ورمزياتها محطات نضالية، ومنصات يُطل منها على مكامن القوة في الأمة العربية والتي من خلالها سوف تبقى الأمة تنبض بالحياة.
 






الاربعاء ٢ ربيع الاول ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / كانون الاول / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة