شبكة ذي قار
عـاجـل










في عهد الوحدة (1) كانت الطليعة العربية الثورية تعيش اعمق واعنف أزمة في تاريخ نضالها. لقد أسهمت في صنع حدث تاريخي عند قيام الوحدة بين مصر وسورية. واذا هي تصاب بعد زمن قليل بخيبة أمل كبرى نتيجة التشويه والتزييف اللذين داخلا تطبيق هذه الوحدة. ولقد زاد ازمة الطليعة العربية حدة وتعقيدا إدراكه بعد فوات الوقت انها لم تكن في مستوى الخطوة التي أسهمت في تحقيقها، وانها لم تكن مهيأة لتصحيحها وحمايتها. ولكن ذلك لا ينقص شيئا من مسؤولية نظام الحكم الذي كان سبب التشويه والانحراف. ومن أسباب صعوبة تلك الازمة وتعقدها ان ذلك الحكم كان قد استطاع قبل تحقيق الوحدة وبهذا التحقيق بالذات ان يكون لنفسه رصيدا من الثقة الشعبية على نطاق الوطن العربي كله لم يسبق ان توافر لحاكم من قبل. وهكذا مرت سنوات عهد الوحدة في جو من الالتباس الخطير. فالجماهير عاجزة عن أن تنظم نفسها وتلم شتات وعيها امام الضغط الهائل للاجهزة البوليسية وأجهزة الدعاية التي كانت تفتت التنظيم والوعي على حد سواء. وكان في نفس الطليعة العربية، المقهورة امام وسائل الدولة الضخمة، خوف عميق، تتمنى إيصاله الى كل فرد عربي وإشاعته بين الجماهير خوفا على المستقبل العربي كله من ان يتخذ ذلك السبيل الزائف ويبنى على تلك الاسس الواهية كما كان في نفس الطليعة العربية حرص عميق على بقاء الوحدة وعلى امكان معالجة الأخطاء والانحرافات التي شابت تطبيقها، لإيمانها بان الوحدة العربية يجب ان تبقى حركة تاريخية جدية ولا يجوز ان تكون كغيرها من المشكلات السياسية المحلية عرضة لتقلبات السياسة واخطاء الحكم.


ولكن التمادي في الاخطاء، من جهة، وتآمر قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية، من جهة اخرى، قد عرضا تلك الخطوة التاريخية لانتكاسة قاسية ووقع الانفصال قبل ان تتاح للطليعة ان تتصل بالجماهير وان توصل اليها خلاصة تجربته مع ذلك الحكم، بغية ان يدفعها وعي هذه التجربة الى الضغط وتصحيح الاخطاء دون التفريط بالوحدة. وهكذا نشأ وضع جديد يحمل في طياته تناقضات العهد السابق وتناقضات جديدة. فالقوى الاستعمارية والرجعية والشعوبية التي عملت منذ اليوم الاول للوحدة على تهديم الوحدة، وجدت في الانفصال الذي غذته، فرصة العمر لها، تغتنم ما فيه من يأس وتشتت وفقدان للتنظيم الشعبي، وتتخذه مناسبة نادرة لتسديد ضربتها وسط بحران الشعب وضياع اهداف المعركة، ولتهيئة شروط في سورية والبلاد العربية تنتفي معها لأمد طويل امكانية قيام وحدة جديدة. وبذلك تحاول ان تجعل من الانفصال حقيقة ايجابية تحل محل الوحدة وتقتلعها من جذور ضمير الشعب العربي كفكرة وعقيدة.


وخطورة الانفصال هي في كونه وضعا جديدا يستمد مقوماته وطبيعته من فشل تجربة الوحدة وليس هو -كما قد يظن- مجرد عودة الى اوضاع التجزئة التي كانت قائمة قبل الوحدة. فالتجزئة في ذلك الحين لم تكن سوى ذلك الواقع المريض الذي كان يتراجع يوما بعد يوم أمام يقظة الوعي الشعبي. ولقد كانت التجزئة واقعا لا يتضمن فكرة ولا يجرؤ ان يكون له اسم او منطق، كانت واقعا منفصلا مشتتا يقف موقف الدفاع امام فكرة الوحدة وتيار الوحدة الذي كان هو التيار الفعال النشيط المهاجم المتماسك.


واليوم بعد ان تحققت أول وأثمن تجربة للوحدة، وبعد ان فشلت هذه التجربة يمثل الانفصال تجزئة من نوع جديد ترتكز الى أسس ومنطق ومبررات، وتوحد قواه التي هي قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية والشعوبية لا لتواجه اي احتمال لقيام وحدة جديدة فحسب، بل لتلاحق فكرة الوحدة والقوى الوحدوية وتدمرها في كل مكان. فالانفصال هو تحقيق التجزئة اي جعلها حقيقة وحقا. انه محاولة تريد ان تجعل من فشل تجربة الوحدة شيئا يدحض الوحدة من اساسها ويعطي البرهان العملي على ان واقع التجزئة أصيل ابدي وان وجود الكيانات العربية المستقلة هو الوجود النهائي الخالد.


امام هذا الواقع وجدت الطليعة العربية نفسها مطالبة بواجبين وبأن تخوض معركتين في آن واحد: المعركة الاولى هي الدفاع عن الوحدة ضد الانفصال والقوى المعادية للامة العربية التي تريد ان تكرسه وتخلده. الدفاع عن الوحدة وفكرته وواقعيتها وقابليتها للتحقيق، والدفاع عن تقدميتها وارتباطها بمصلحة الجماهير وعن جديتها وضرورة وضعها فوق الظروف العابرة وفوق الانفعالات والأحقاد.


واما المعركة الثانية فهي التي لم تتمكن الطليعة العربية من خوضها في حينها، اي معركة تصحيح أخطاء التجربة الأولى للوحدة، تلك الأخطاء التي لا بد من الكشف عنها ونقدها لكي يبقى وعي الشعب سليما ويكون المستقبل العربي في مأمن من الضلال والخطأ.


فلقد كنا زمن الوحدة امام نظام للحكم يمثل من حيث ضخامة وسائله وتأثيره على الجماهير العربية ونزوعه الى الامتداد والسيطرة والشمول شيئا جديدا في حياة العرب. لقد كنا نواجه نظاما جديدا كل الجدة يختلف اختلافا كاملا عما عرف قبله من انظمة: فهو يتمتع برصيد شعبي ضخم وهو قادر بفضل أجهزته الضخمة ان يزيد من هذا الرصيد ويصل الى قناعة عشرات الملايين من أبناء الشعب العربي، ليعطيهم بفضل هذا كله صورة عن القومية والنظام الاجتماعي والوحدة، فيها تشويه اساسي وانحراف خطير رغم ما يخالطها من بعض الصفات التقدمية ما يكمن وراءه من كفاءة وقدرة على الانجاز. وجوهر هذا الانحراف ما يتصف به الحكم من فردية وتأليه للحاكم وإلغاء لدور الشعب واستعاضة عن الشعب الحقيقي الواعي المنظم بالغوغاء والفئات المرتزقة والمتملقة، وما اعطاه للقومية العربية من مفهوم منحرف يقيم في صلبها بذور التمييز الاقليمي والتسلط فالوحدة التي هي أمل الشعب العربي كله لم تفهم ولم تطبق من قبل نظام حكم الوحدة إلا على انها وسيلة لتوطيد هذا النظام في الاقليم المصري ولمد نفوذ هذا الإقليم على سائر أجزاء الوطن العربي. ولقد كانت ضربة الانفصال جديرة بان تهز اعماق كل مخلص للوحدة ولقضية الشعب العربي، ولكنها لم تغير في عقلية النظام واسلوبه شيئا، وظلت دعوته للوحدة في البلاد العربية وفي سوريا خاصة، مسخرة لهدف أساسي هو حماية نفسه في مصر، وفي هذا استمرار في الإساءة الى قضية الوحدة وإعطاء أسلحة جديدة لاعدائها لكي يطعنوها ويطعنوا من خلالها حرية الشعب ومكاسبه الاجتماعية التي حققها بالنضال الطويل.


ان اخطاء وانحرافات حكم الوحدة تتخذ اليوم ذريعة وستارا لتنفيذ اكبر مؤامرة على الامة العربية في تاريخها الحديث يحيكها الاستعمار والصهيونية بالتعاون مع الرجعية والشعوبية على نطاق الوطن العربي كله. وأدهى ما فيها انها هذه المرة تعمد الى تفتيت جسم الامة من الداخل بالانقسام والتناحر والتشكيك في العقيدة القومية بكل الأساليب والوسائل. ولما كانت الطليعة العربية الثورية هي القوة المهيأة والمسؤولة تاريخيا عن رد كيد هذه المؤامرة الرهيبة لتواصل امتنا العربية سيرها الصاعد المنتصر نحو اهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية، لذلك وجب ان يزال كل التباس يمكن ان يجزئ تفكير هذه الطليعة ونضالها في سبيل هذه الاهداف، ووجب بالتالي ان ينقد نظام حكم الوحدة نقدا موضوعيا صريحا لكي ينتزع هذ السلاح من أيدي الرجعية وتفوت عليها فرصة ضرب الاهداف القومية والمكاسب الشعبية وتخليد الانفصال وتنفيذ مؤامرات الاستعمار بحجة مكافحة الدكتاتورية والحكم الفردي. وعندما يزول الالتباس من صفوف الطليعة المخلصة، ويتوضح امامها الطريق، طريق الوحدة بمحتواها الشعبي الديمقراطي وبارتباطها الوثيق بالحرية والاشتراكية. وعندما تتضح امامها مهمتها في هذا الظرف العصيب، وهي التغلب على نكسة الانفصال وما تلاها من ردة رجعية شرسة، يصبح أمر انحراف أفراد قلائل عن الركب الثوري بدافع الكسب السياسي الشخصي او الانجراف مع الاحقاد الشخصية، امر غير ذي بال. المهم ان تعي الطليعة العربية دورها التاريخي وان تقوم به. ولقد برهنت الطليعة على هذا الوعي عندما اقامت تنظيمها ونضالها، قبل عشرين عاما، على نطاق الوطن العربي كله، وتحدت بذلك العقلية الإقليمية والانتهازية، والمكاسب الآنية.

 

ولا يعقل ان ينتكس ايمان الطليعة بالوحدة العربية وايمانها بوحدة تنظيمها ونضالها، اذ انها هي المطالبة بمداواة النكسة والابقاء على شعاع الفكرة في وجه العواصف. فما دامت النكسة عميقة والاخطار جسيمة ومداهمة، وكل موقف اما ان تتناوله القوى الرجعية لتستغله في تكريس الانفصال وضرب قضية الشعب، واما ان تتناوله أجهزة الحكم الفردي لتخلق الالتباس حول الوحدة ومفهومها في أذهان الشعب. فليس امام الطليعة العربية الا ان تجدد معنى الرسالة التي ندبت نفسها لها قبل عشرين عاما، عندما ارادت ان تمثل، من فوق الحدود الاقليمية، والمصالح المحلية المؤقتة، ضمير الأمة الواحد، ومصلحتها العليا الدائمة. ولئن كان واجب الطليعة ان تدخل في هذا الظرف معركتين في آن واحد، فمن واجبها ايضا ان تظهر من الوعي والتجرد ما يرفعها فوق المعترك.


21 تموز 1962
(1) جريدة البعث، العدد 1، 21 تموز 1962.
 






السبت ٥ ربيع الاول ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / كانون الاول / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة