شبكة ذي قار
عـاجـل










طالما وجه إلي أعضاء الحركة وأصدقاؤها السؤال عما نعني بالرسالة الخالدة. وكنت دوماً أجيب جواباً بسيطاً لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر، واعتبرت هذه النظرة بعيدة عن الحياة وعن التجربة، ورأيت أنهم يحسبون الرسالة شيئاً جامداً منفصلاً عن نفوس أبناء الأمة وحياتها وتجاربها. فكنت أجيب دوماً بأن رسالة العرب الخالدة ليست للمستقبل وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة وهذا القبول بان تكون نهضتهم نتيجة التعب والألم، هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت حياتهم ومجتمعهم، هذه الصراحة في رؤية عيوبهم، هذه الجرأة في الاعتراف بها، وهذا التصميم الرجولي على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية غير معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر، هذه التجربة المرة المملوءة بالكوارث... هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة، لأنهم في هذه التجربة سيعرفون من جديد ما معنى العمل والتضحية،

 

ما معنى التفكير السليم المستقل الذي لا يخاف ضغط الغوغاء، ما معنى الخلق الحر الذي لا يستسيغ التقليد. في هذا الحاضر الذي يبدو أسود قاتماً بشعاً فقيراً، تكمن الكنوز الوفيرة، الكنوز الروحية والخلقية والفكرية للنوع السليم من العرب، ففي كل عربي بذور السلامة والصحة. إن القيم التي نتغنى بها والتي نعرف معرفة سطحية جامدة أن جدودنا الأبطال قد مثلوها، ثم نعجز عن تحقيق جزء بسيط منها في حياتنا، علينا أن نستكشفها من جديد، وهذا هو معنى التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة بأنها تنكر التراث القومي والأخلاق القويمة، بينما هي في الحقيقة وصول صحيح إلى القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية والتي لا يمكن أن ترجع إلينا من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا بها ولادة جديدة واكتشفناها اكتشافاً جديداً. أيها الاخوان، في الوقت الذي تكثر فيه موجات التشاؤم والتخاذل، وتتكاثر فيه الكوارث والنكبات، يشعر العرب الصادقون بأن يوم الخلاص قد قرب، لأن الطريق قد فتح لتهتز النفس العربية أخيراً، لتهتز اهتزازاً عميقاً، لتتذكر ذاتها ومهمتها وتنتفض بانطلاق وحيوية وإيمان مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل تحقيق رسالتها في الوجود. في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب ويكثر المتشائمون يجب أن يظهر المؤمنون الحقيقيون، ولا يأتي الإيمان الحقيقي إلا بنتيجة التجربة والمعاناة، ونتيجة الامتزاج الفعلي بين الأفراد وبين مصير أمتهم. عندما يتم هذا الامتزاج نستطيع أن نثق بأن العرب يسيرون إلى ظفر محقق في آخر هذه التجربة، وأنهم سيحملون ثماراً روحية وخلقية وفكرية لا تغذي مستقبلهم فحسب وإنما بمقدورها أن تنقذ الإنسانية مما ينتابها من اضطراب في القيم،

 

ومن تشويه فيها لأن هذه التجربة التي يمر العرب بها اليوم لا أعتقد بأن امة غير العرب قد عانتها، فإذا كان ابتلاؤها بهذه المصائب أليماً موجعاً، فعلينا أن ننظر أيضاً إلى حكمة القدر الذي يوصل الأمة العربية للعظمة والمجد حتى في أوقات محنتها وتأخرها، فارتقاؤها يكون عظيماً وقيمتها أيضاً عظيمة، ولا تكون الآلام عميقة إلى هذا الحد إلا لكي نستكشف كنوزاً عجزت عن الوصول إليها أمم غيرنا. وما هذه التجارب التي يفرضها القدر علينا إلا في سبيل أن نخرج من بعد طول القعود والسبات بتجديد وإكمال للرسالة وللقيم وللحضارة العربية التي إنما قدر لها أن تتغذى دوماً بالآلام والأتعاب.

 

( عام 1950 )






الاحد ٦ ربيع الاول ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / كانون الاول / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة