شبكة ذي قار
عـاجـل










المواقف اللاعقلانية والعنصرية للغرب في تعامله مع الشعوب الإسلامية ـ والعربية خصوصا ـ هي التي تستثير الجانب اللاعقلاني عند المتدينين ، وهو جانب التطرف والانكفاء على الذات ومعاداة الآخر وكلما تمت عقلنه الواقع بجعله قائماً على العدل والإنصاف واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه ، نزعت من المتدينين صواعق تفجيرهم وتحولهم إلى ممارسي سلوك غير عقلاني ، أي إلى ظاهرة التطرف الديني أو بشكل آخر ، كلما جعلنا الحاضر أفضل من الماضي - وهذه هي سنة الحياة وطبيعة التطور الذي يسير إلى الأمام دوما ـ الذي تتقمصه بعض الحركات الأصولية وتجعله نموذجا لما يجب أن يكون ، وكلما أصبحت المجتمعات المسلمة أكثر قدرة على التحكم في واقعها وعلى التحرر من عوامل الهيمنة والاستلاب التي تحكم علاقتها بالمجتمعات الأخرى ، قلت الحاجة إلى الاستنجاد بالماضي وبالسلف الصالح وانتفى مبرر انتشار النزعة الدينية المتطرفة ، إذ الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفجر ظاهرة التطرف واحتدام الصراع بين { الأصوليين من جهة وبين أنظمة وقوى علمانية من جانب آخر } ، هي أسباب دنيوية مشاكل ترتبط بالفقر والبطالة والهيمنة الأجنبية ، والإحباط واليأس المسيطرعلى الجيل الصاعد أي أنها غير مرتبطة مباشرة بالإيمان بالله أو عدم الإيمان به ،

أو بأن نكون مسلمين أو غير مسلمين وبالتالي فإن طرح بعض الحركات الإسلامية الجانب السلوكي والطقوسي من الدين لا يعبر عن حقيقة المشكلة ولن يساعد على حلها ، لأنها ببساطة لا تتعامل مع جوهر المشكلة حتى في الجانب الديني الإيماني فحيث أننا لسنا في زمن الأنبياء والرسل والقديسين ، وحيث أن هذه الحركات أو الأشخاص لا يمكنها أن تدعي أنها على اتصال برب العالمين أو أنها تحتكر السر الإلهي ولا تدعي أنها جاءت بآية قرآنية جديدة ، أو بحديث نبوي جديد ، إذ هي تسعى لتوظيف واستحضار الدين والمقدس الذي هو للجميع ،

من أجل أهداف سياسية واجتماعية أو اقتصادية أي دنيوية بشكل عام لا تعبر بالضرورة عن الحاجات الحقيقية للمجتمع ، نعتقد أن توظيف الدين لصلاح الدنيا ليس بالأمر الخطأ بل هو أساس وهدف الدين ولكن يجب عقلنته من خلال إعادة النظر ليس في الدين بحد ذاته ، ولكن في الموضع الذي يحتله في المجتمع ، فلا شك أن الحركات الدينية تكتسب مصداقية بتموضعها كحالة رفض لواقع لا خلاف على فساده ، وعلى الحاجة إلى تغييره وتتموضع كإطار يملأ الفراغ الناجم عن انسحاب الأيديولوجيات الأخرى ، وكتعبير عن هوية تمايز عن الآخر ـ الغرب الإمبريالي والكيان الصهيوني ـ الذي لا يخفي عداءه القومي والديني والحضاري لكل ما هو عربي ومسلم ، أي أن الإسلام يصبح في هذه الحالة كخط دفاع أخير يستند إليه العرب حتى لا يندثروا وينتهوا كـأمة وكمجموعة بشرية متحضرة والخوف الذي تبديه الدول الأوروبية والكيان الصهيوني من المد الأصولي وتأليبها الأنظمة العربية ضد الأصوليين بل وتأجيجها نار الفتنة وصب الزيت على النار كل ذلك يرجع إلى تحسس الدول الاستعمارية وبعض الأنظمة العربية لما يمكن أن تمثله الحركات الأصولية من فضح للواقع الفاسد واستقطاب للقوى الرافضة له وحيث أن هذا الواقع العربي الإسلامي يخدم المصالح الغربية والكيان الصهيوني ،

فإن مصلحة الغرب الدفاع عن هذا الواقع بمناوأة الحركات الأصولية بنهج سياسة مدروسة ومحسوبة ، أي أنها ليست مناوأة مطلقة لكل الحركات الأصولية ، بل لمناوءة تتماشى سياستها وممارستها مع مصلحة الغرب ولاشك أيضاً في أن الدين كعنصر استقطاب وتميز عن الآخر وكقيم أخلاقية وروحية ، قد لعب عبر التاريخ دوراً مفصلياً في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تُحْسِن توظيف الدين في هذا المجال ولولا وجود مجتمع نشط ومبدع وفاعل ، ووجود مثقفين وعلماء ليسوا أدوات في يد السلطة السياسية أي لولا توافر شروط موضوعية ـ سياسية اقتصادية اجتماعية ـ تهيئ المناخ المناسب للدين ليلعب هذا الدور ، فالفرق بين مسيحية أوروبا في عصر الظلمات ومسيحيتها في عصر الأنوار ،

ليس اكتشاف كتاب مقدس جديد أو نص ديني غاب عن الأولين ، وليس في تخلي أوروبا في عصر الأنوار وما بعد عن الكتاب المقدس ، ولكن الفرق يكمن في تغيير العقليات وفي ظهور طبقات ونخبات جديدة ، تمردت على احتكار الدين من قبل البعض ، وتمردت على تجهيل المجتمع باسم الدين ، وأعطت تأويلاً جديداً للدين ودوره في المجتمع والأمر نفسه بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية ففي ظل الاسلام ـ قرآن وسنة ـ شيد المسلمون حضارة من أعرق الحضارات ، وفي ظل الاسلام نفسه ـ قرآن وسنة ـ وصل العرب والمسلمون إلى الانكفاء والسبات والهبوط الى اوطأ المواقع فالخلل إذا، ليس في القرآن والسنة ، ولكن في البشر المتعاملين معهما الخلل في نظم وقيادات ومؤسسات ومثقفين ، الخلل أن أشخاصا محددين احتكروا السر الإلهي ووظفوا الدين ليس في خدمة الرب ولا في خدمة البشرية ولا في خدمة شعوبهم أو غالبيتها ، لكن في خدمة مصالح شخصية وفئوية ضيقة إذا في ظل المأزق الذي تمر به الأمة العربية ، وفي ظل الهجمة الاستعمارية والصهيونية الشرسة لإفقاد العرب ما تبقى لديهم من منعة وعزة وكرامة ،

يمكن توظيف الدين ليكون عنصر قوة ومنعة ، عنصر توحيد واستنهاض للهمم ، ليقوم بما عجزت عن القيام به الأنظمة والأيديولوجيات المنهارة ، ولكن ليس من خلال التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات – إحيائية - ، بل التعامل معها كحركة مستقبلية ، حركة تعانق الحاضر وعينها على المستقبل وليس على الماضي ـ إلا باعتبار الماضي عبراً ودروساً تستلهم ـ وحصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها ، على أن تبقى العلاقة بين الإنسان وربه ، وعدم قبول تنصيب أي كان نفسه نائباً عن الله في التحريم والتحليل ، وفي منح صكوك الغفران أو الوعيد بنار جهنم ، وما عدا ذلك من أمور يتم التعامل معها كمؤسسات وأفكار اجتماعية تستمد مصداقيتها وأحقيتها في الإظهار على غيرها ، ليس بزعم انتسابها إلى الاسلام ، ولكن بقدرتها على إثبات الذات في معركة الحياة وفي مواجهة المؤسسات والفلسفات والأيديولوجيات الأخرى فمن غير المعقول مواجهة واقع فاسد وحضارة الغرب المادية المتفوقة ، بالروحانيات وبالنصوص وبالتاريخ ، بل يجب أن نواجهها بواقع قوي متماسك ،

وإلا كيف يعقل أن ندعي عظمة الاسلام وعظمة حضارة العرب والمسلمين ونحن ضعفاء متفرقون متخلفون ؟ ذلك أن مجرد امتلاكنا القرآن والسنة النبوية وحفظنا إياهما ، وامتلاكنا تاريخاً مجيداً مليئاً بالإنجازات الحضارية ، لن تغير هذه الأمور في الواقع شيئاً ، فليس تردي واقعنا وتخلفنا من - إرادة الله - بشيء بل هو بإرادة البشر وتقاعسهم والخروج من هذه الحالة لن يكون بانتظار إرادة الله بأن يقول للشيء كن فيكون ، بل يكون بإرادة البشر وعملهم والتغيير الاجتماعي ومسيرة التاريخ هما دائماً يسير حسب إرادة الأقوياء الفاعلين ، وكل عظمة الحضارة العربية الإسلامية التليدة الماضية ، لا تستطيع اليوم أن تطعم طفلاً جائعاً رغيفاً من الخبز إن كل أتباع الديانات الأخرى سماوية أو غير سماوية والتي قد تكون أقل شأناً من الإسلام لم ينتظروا إذناً من ربهم أو وحياً منه ليطوروا أوضاعهم ويحسنوا شروط حياتهم ، ولم يرجعوا نكسة أصابتهم أو أزمة تعرضوا لها إلى إرادة فوق بشرية ،

بل بحثوا في الخلل في ذواتهم ، ونظمهم وعلاقاتهم وبالتالي تحركوا بمحض إرادتهم وعن قناعة عقلية ، وبدافع المصلحة ، محيدين الرب من صراعاتهم وعلاقات بعضهم مع بعض وانطلقوا وهم مؤمنون بأن عملهم على ما فيه خير الدنيا وتحسين ظروف وشروط حياة الإنسان ، هو عمل يرضي الرب لأن الرب لا يرضى لعباده أن يكونوا اتكاليين سلبيين ضعفاء وهم بذلك لم يتخلوا عن دينهم فلا المسيحيون تخلوا عن مسيحيتهم ، ولا البوذيون كفروا ببوذا ، و لا اليهود تخلوا عن دينهم ، فعندما أصبح هؤلاء أقوياء قويت معهم دياناتهم.وعليه ، لا يمكن إنكار أن اللجوء إلى الاسلام كخط دفاع يوقف حالة التراجع العربي ، وعنصر تعبئة وتحريض ، وكتعبير عن رفض الانضواء تحت هيمنة الآخر واستلابه ، وكهوية تمايز يصبح عملاً مشروعاً ومبرراً إلا أنه حتى يكون له الدور الاجتماعي المتضمن في جوهر الإسلام ، باعتباره ثورة ومشروعاً حضارياً ، يفترض أن تكون طريقة توظيف الدين في اتجاه التوحيد لا التفرقة في اتجاه البناء المستقبلي لا النظر إلى الماضي في اتجاه إظهار عناصر التمايز عن الآخر ،

لا على أساس النص الديني أو عظمة الماضي ، بل تمايز يقوم على الأفضلية والإظهار المبنيان على قدرة الفعل في التعامل مع الحاضر ، إنه لمما يتناقض مع جوهر الإسلام ، ومع قدرة الخالق اللا متناهية ، أن نحبسه في نصوص بعينها ، أو نحوزه ضمن أوضاع وظروف دون غيرها ، أو أن يصبح أداة لشخص أو جماعة ، لا يكون الرب حاضراً إلا بها ومعها ولا يعرف أسراره إلا هم وحيث إنه لا يعقل أن يكون الله رب العالمين ضد أن يكون عباده أقوياء ومتحضرين ، فإن الرب ، رب المسلمين والعالمين لابد أن يكون محبذاً بل وداعياً إلى كل ما من شأنه رفع راية المؤمنين ، بل ومحبذاً كسر حاجز الخوف من المحرم المبالغ فيه ، وغير المستمد من نصوص واضحة وصريحة في تناول القضايا الدنيوية ، حيث أن الخوف من المحرم ـ المتخيل والمصطنع بل والمودبلج وليس المحرم الديني الصريح النص ـ وإضفاء صفة التقديس على أوضاع وأشخاص باسم الإسلام ، شيء يتناقض مع جوهر الإسلام ويسيء له أكثر مما ينفعه أمر يرهب الناس ويبعدهم عن الإسلام بدلاً من أن يقربهم إليه مما لا مراء فيه ،

أنه لا يمكن لأحد الآن أن يدعي أنه يملك الحقيقة الإلهية ، أو يزعم أنه موحى له بها ، بالتالي فإن أي شخص ـ أو حركة ـ يتحدث عن الإسلام وباسمه إنما يتحدث عن تأويل خاص أو وجهة نظر خاصة ، فهو غير مفوض له إلهياً ، وليس فوق البشر إن مقياس الحكم على أي تفسير أو ادعاء حول الدين يجد محكه العملي ليس في امتلاكه الحقيقة الإلهية أو الدفاع عنها ـ فهي خارجة عن نطاق البحث لأنه لا يوجد من يجادل فيها ـ ولكن في الواقع الإنساني ، في قدرته على توظيف قيم الإسلام ومبادئه الأخلاقية لخدمة الإنسان والاجتماع الإنساني ، هذا الأخير ، الذي لا يؤسس على المقدس فقط، بل على نظم يضعها البشر ويقيمونها ، وتكييفات لأوضاع مستحدثة لا عهد للأقدمين بها فالإسلام هو سعى متواصل نحو الكمال ، وأي شخص ـ أو جماعة ـ يدعي أنه وصل إلى الكمال الإسلامي وأنه يمثل الحقيقة الإسلامية والنموذج الكامل للإسلام إنما هو ضد الله بما هو مطلق ولا نهائي وضد الاسلام الذي لكل الأزمنة ولكل البشر ،

إن أكثر الناس حرصاً على الإسلام ، هم أكثرهم حرصا على كرامة الإنسان وإنسانيته فالإسلام ليس مجرد رب يعبد ونصوص تحفظ وتقدس ، ولكنه الإنسان أيضاً ، الذي وجد الدين من أجله ، وقد جاء الاسلام لينقل البشرية من وضع التردي والعبودية إلى الحياة الكريمة إن أكثر الناس ـ أشخاص أو حركات وأحزاب وأنظمة ـ إسلاماً هم أكثرهم احتراماً للإنسان وتحقيقا لمصالحه وصونا لحريته والتزاماً بالعدالة والحق والإنصاف والعكس صحيح ولاشك في أن أنظمة فاسدة ونخبات سياسية مأجورة تستدعي النضال ضدها ومقاومتها بكل السبل المتاحة ولكن حيث أن هذا الظلم والفساد هو من صنع البشر وبإرادتهم، فإن مقاومته مهمة وطنية ومصلحة للشعب ولا تحتاج هذه المقاومة إلى إضفاء صبغة دينية عليها لاكتساب المشروعية فلا يعقل استنكار احتكار الأنظمة للدين وتوظيفها له لخدمة أغراضها ، وفي الوقت نفسه تطرح قوى أخرى نفسها ناطقة باسم الدين ! فأي نظام وأي حزب أو جماعة تلجأ إلى الدين لاكتساب المشروعية والمصداقية ، فإنما تعبر عن اعتراف بالعجز عن اكتساب مشروعية شعبية ومصداقية مستمدة من قدرتها على التعامل مع قضايا المجتمع ومشاكله ، مصداقية نابعة من تلمس هموم الناس وإعطاء إجابات وحلول لهذه القضايا والمشاكل ، فالمسلمون تواقون بلا شك إلى اكتساب موقع في الجنة ولكنهم أيضاً في حاجة إلى حياة كريمة في دنياهم وبحاجة إلى عمل وبيت ومدرسة ومستشفى ..... الخ

ألله أكبر    ألله أكبر    ألله أكبر
وليخسأ الخاسئون





الخميس ٢٧ جمادي الثانية ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / نيســان / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب زامــل عــبــد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة