شبكة ذي قار
عـاجـل










يعتبر العراق واحداً من البلدان القليلة في العالم التي تستطيع توفير التوازن بين مصادرها الإنتاجية وحاجتها الاستهلاكية. وهذه السمة كانت قائمة قبل تأميم النفط، أما بعد التأميم وارتفاع أسعار النفط، فإن ميزان المدفوعات سجل فائضاً نقدياً، وبما جعل من الدينار العراقي أقوى العملات الخليجية علماً أن دول الخليج تملك ثروة نفطية كبيرة. لكن ما ميز العراق عن سار الدول النفطية، أنه لم يعتمد على مخزونه النفطي، وما يمثله من مردود وحسب، بل وظف بعض هذا المردود من فائض الاحتياط في مشاريع النهوض الاقتصادي والإنمائي وإقامة شبكات البنى التحتية، بحيث أصبح العراق على مشارف الدخول نادي البلدان التي تشق طريقها بسرعة لبناء القاعدة المادية الصلبة في حقول الزراعة والصناعة والاتصالات والقضاء على الأمية وتعميم شبكة الضمان الصحي وتحويل العراق إلى خلية عمل شاملة وهي تعتمد على الكفاءات الوطنية.

هذا العراق الذي بات مثالاً يحتذى به بالاستناد إلى تجربته في مسيرة التنمية البشرية الشاملة، لم يرح الذين يريدون أن يتعاملوا مع شعب العراق كما مع غيره من أبناء هذه الأمة باعتبارهم مادة استهلاكية وهذا كان أحد الأسباب التي أضيفت إلى تلك التي جرى الاستناد إليها لشن الحروب المتتالية عليه وأوقعته تحت الاحتلال.

كما أنه في أقسى الظروف الذي عاشها العراق في ظل الحصار الذي فرض عليه، كانت البطاقة التموينية تغطي مساحة العراق وقد اعتمدت أساساً في إعادة تنظيم سجلات الأحوال الشخصية، بعدما أقدمت عصابات التخريب وأصحاب المشاريع المشبوهة على إتلاف أو إخفاء سجلات الأحوال المدنية بغية إعادة وضع لوائحها وفق مستلزمات التغيير الديموغرافي الذي كان وما يزال هدفاً مركزياً يخامر حكام طهران.

فالعراق في ظل الحرب والحصار، لم يحجب الرغيف عن أبنائه من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. وفي ظل الحصار كانت الكهرباء تصل إلى آخر قرية في مناطقه النائية، وكانت الشبكة الصحية تغطي بخدماتها كل محافظات القطر وفضلاً عن كل ذلك كان الأمن الحياتي يظلل حياة المواطنين في حلهم وترحالهم.

أما اليوم وبعد اثنتي عشرة سنة على وقوع العراق تحت الاحتلال، ترتفع الأصوات لتطالب بسلة الخدمات الأساسية، من استشفاء وطبابة وتعليم وتأهيل المرافق الحيوية والحياتية ولكن لا أحد يستجيب، وتصم الآذان عن سماء أنين المرضى ومطالبة الجياع برغيف الخبز، وإيصال الكهرباء إلى حيث هم، لكن لا حياة لمن تنادي، وهذا ما دفع كثيرين مما من كانوا في المعارضة السياسية للنظام الوطني، إلى شن حملات سياسية على حكام العراق الجدد مسقطين عليهم كل النعوت التي تصف سلوكهم بالفساد والرشوة والارتهان للخارج الإقليمي والدولي. وأكثر من ذلك، فإن يقظة الضمير بدأت تطرح نفسها بشدة عند كل من وقع أسير التضليل السياسي والإعلامي، ظناً منهم أن إسقاط النظام الوطني كان سبيلاً لحياة جنة النعيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإذ بهم يجدون أنفسهم متلظين بنار جهنم الاحتلال وردائفه وإفرازاته، وأن لا هم عند هؤلاء الذين نصبوا حكاماً في إطار ما سمي العملية السياسية، إلا ملء جيوبهم بأموال العراق ولو كان على حساب خواء بطون الجائعين والذين باتوا يعيشون في ظل عتمة ليل طويل سببته العتمة السياسية التي تلف حياة العراقيين من كل جوانبها،

لقد نزلت الجماهيرالى الميادين في الجنوب والفرات الأوسط وبعض أحياء بغداد، تطالب بمحاسبة المسؤولين ولو كانت الظروف الأمنية ملاءمة في محافظات الغرب والشمال والوسط، لكانت الجماهير نزلت إلى الشوارع هاتفه بمثل ما يهتف به أبناء المحافظات المنتفضة على مصاصي خيرات العراق. وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على أن الطغمة السياسية الحاكمة لا علاقة لها بمعاناة الشعب ولا بتلبية حاجاته المعيشية والحياتية. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لطبقة سياسية تفتقد إلى المشروعية السياسية أساساً لأنها جاءت على متن الدبابات الأميركية واستمرت محمولة على رافعة التدخل الإيراني في كل شؤون العراق، ومن عمل على إفراغ العراق من مضمون دوره الوطني، هل تعني له شيئاً عملية إفراغ خزائن العراق؟ ومن يعمل على جعل الخواء السياسي يخيم على الحياة العامة، فهل تعني له شيئاً عملية تعميم مفاعيل خواء البطون و ثروات العراق تنهب لتوظف في خدمة المشروع الإيراني وأتباع نهم شركات النفط الاحتكارية، وما تبقى يذهب لجيوب الذين يعيشون لحظة الترقب لمغادرة البلاد عند حلول أجل الاستحقاقات السياسية ولحظة المحاسبة؟

إن الجماهير التي نزلت الى شوارع بابل وكربلاء والناصرية والبصرة وشرق ميسان، مطالبة برغيف الخبز وحبة الدواء والكهرباء هي نفسها الجماهير التي حشدت مواكبها لملاقاة الحراك الشعبي في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى لأكثر من سنتين، وهذه الجماهير التي تنزل إلى الشوارع اليوم هي نفسها الجماهير التي عاشت مرحلة النهوض الوطني، وحالة العزة الوطنية، وهي نفسها التي قدمت فلذة أكبادها دفاعاً عن عروبة العراق وحريته ووحدته.

هذه الجماهير وهي تنزل إلى الشوارع لتعبر عن رفضها للسياسة التي تدار بها شؤون البلاد والعباد، إنما تستفتي على مشروعية التمثيل السياسي الحاكم، وهي في الوقت نفسه تدلي بصوتها الجمعي على مشروعية وشرعية النظام الوطني الذي تستمر روحيته السياسية في المشروع الوطني الإنقاذي الذي تحمل لواءه جبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن ما يجدر التوقف عنده، أنه في نفس الوقت الذي يناقش فيه مجلس النواب الذي أفرزته العملية السياسية اللاشرعية أصلاً مشروع اجتثاث البعث، يأتي الصوت الجماهيري الصاخب ليقول أن شعب العراق لا يقيم اعتباراً لهؤلاء الذين يصادرون إرادة الشعب ولا يهمهم جدلهم العقيم، وكل ما يهمهم أنهم يريدون استعادة كرامتهم الوطنية، وهذه فرصة يجب التقاطها ليؤسس عليها باتجاه تعميم هذا الحراك الشعبي ليأخذ بعده الوطني الشامل. وإذا كانت آلة حكومة المالكي الميليشياوية قد حالت سابقاً دون تواصل الحراك الشعبي تحت عناوين المسألة الوطنية، وعمدت إلى قمع الاعتصامات، فإن استقبال هذا الحراك الشعبي والتواصل معه بالموقف والشعور، يعيد فتح معابر التواصل الشعبي التي قطعت أوصالها الحكومات التي أفرزها الاحتلال وردائفه ويفتح قنوات جديدة لهذا التواصل تحت عناوين المسألة الاجتماعية والتي لا يمكن فصلها عن عناوين المسألة الوطنية وبما يثبت أن لا أمن وطنياً دون أمن اجتماعي ومعيشي، ولا أمن اجتماعياً ومعيشياً دون أمن وطني وهذا هو صلب المشروع السياسي الذي طرحته قوى المقاومة والتحرير. وعليه فإن الاحتضان الوطني لهذا الحراك الشعبي تحت عناوين المسألة الاجتماعية هو واحد من نقاط القوة التي يجب الاستناد إليها لإظهار أن الوطنية العراقية بمضامينها الاجتماعية هي أقوى من كل المشاريع التي تريد إسقاط مقومات هذه الوطنية عبر تطييف ومذهبة الحياة السياسية.

إن ثورات الجياع هي أهم الثورات في التاريخ البشري. هذه إذا كانت لتحصيل الرغيف وإملاء البطون الخاوية، فكيف إذا كانت مشبعة بباعث استعادة السيادة الوطنية والدور وتحقيق الإملاء السياسي الوطني؟ إنها بلا شك ثورة مكتملة وهي وأن تعثرت في بعض خطواتها، إلا أنها لا شك واصلة إلى مبتغاها وهذا ما سيحققه شعب العراق الذي بدأ يشق طريقه نحو خلاصه الوطني ولن يطول الوقت طويلاً لظهور نتائج هذا المخاض لأن الاستواء الوطني والاجتماعي شارف النضوج وتباشيره هو هذا الحراك الشعبي الذي بدا يأخذ طابعه الجماهيري من حيث ظن حكام العراق المنصبين ان هذه البيئة مؤيدة لهم، فإذ بها تثبت العكس، عبر استحضار طبيعتها الوطنية الأصلية ضد محاولة التطبيع التي يراد فرضها عليها

إنها انتفاضة الرغيف والكرامة وكل ما عدا ذلك تفاصيل.
 





الاربعاء ٢٠ شــوال ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أب / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة