شبكة ذي قار
عـاجـل










من الطوباوية الفجَّة القول أن النظام الطائفي اللبناني سيسقط بمجرد إطلاق شعارات إسقاطه من قبل اللبنانيين الغاضبين على الطغمة الفاسدة والمفسدة من حكامها الذين صار من شبه المستحيل الاستثناء فيما بينهم على مدى عهود الحكم المتتالية لِما كان لكل عهدٍ من نصيب وافر في تكريس هذا الفساد وتجذره وتشعبه.

فالنظام الطائفي اللبناني متجذرٌ في بنية المجتمع اللبناني لعقود وعقود من السنين تعود في زمنيتها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أقرب التقديرات، يوم تحالف إقطاع الطوائف في مواجهة ما اصطلح على تسميته آنذاك، بثورة الفلاحين التي قادها طانيوس شاهين في جبل لبنان، ويوم ألزم هذا الإقطاع بدوره مؤرخي تلك المرحلة بتسجيل ما جرى على أنه فتنة داخلية تسببت بها حفنة من الصبية لخلاف تافه على لعبة الكلل، في واحدة من أسخف ما تم تلقينه للناشئة وللأجيال اللبنانية فيما بعد، طمساً لكل تفكير من شأنه أن يهدد التركيبة الاجتماعية – السياسية – الاقتصادية التي استمرت وتجذرت إلى يومنا هذا.

ومن يعود بالذاكرة إلى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى حرب السنتين 1975 – 1976، لا بد أن يصيبه الغثيان عندما يحصر بعض منظري النظام أسبابها بالغرباء، دون أن يتطرق إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي كادت أن تهدد أسس هذا الكيان ونظام أربابه الطوائفي أمام المد الشعبي العارم العابر للمناطق والطوائف والمذاهب، والمُطالب بالتغيير ومحاسبة "أكلة الجبنة" الذين كانوا يتوزعون بدورهم على كافة الطوائف والمناطق والمذاهب، فكانت الحرب إجهاضاً لكل ما توصلت إليه الحركة الوطنية اللبنانية وقوى المجتمع اللبناني المختلفة وفي مقدمها الاتحاد العمالي العام والنقابات من اختراقات لبنية هذا النظام وتركيبته الرأسمالية الأوليغارشية الممثلة لتحالف نفوذ المال والسلطة السياسية معاً.

وبالرغم من بصيص الأمل الذي زرعه اتفاق الطائف في العام 1991 كأفضل الممكن في البدء بتأسيس نظام جديد آخر للبنان، يحفظ حقوق جميع مكوناته الاجتماعية على أساس إلغاء الطائفية السياسية وتطبيق اللامركزية الإدارية وتحقيق الإنماء المتوازن وسن قانون انتخابي نيابي جديد لا مكان فيه لمحادل المال وتجييش المذاهب، وغير ذلك،

فإن هذا البصيص من الأمل، وجد نفسه في مواجهة كل القوى الظلامية الجديدة التي غيَّرت في تكتيكاتها السياسية، بدورها أيضاً، لتنقل دفة القيادة فيها من إقطاع سياسي – مناطقي – طائفي، إلى استقطاع البلد من جديد على أسس مذهبية أخرى لقوى كانت ولم تزل الأخطر والأبشع والأسوأ في تجييش كل من صادرته تحت وصايتها من مكوِّنات شعبية عملت على تخويفها من المكونات الأخرى، واستغلت هذا العامل من التخويف لتجييش ما يمكن تجييشه في صفوفها معتمدة على كل ما تيسر لها من نهب منظم للمال العام والخزينة والمرافق الاقتصادية، مدخلة البلاد في عصر جديد من اللصوصية السيادية التي لم يُشهد لها مثيلاً حتى في دول العالم الثالث من جمهوريات الموز والمافيات الدولية.

وفي اللحظة التي عمت بها تباشير الربيع العربي في العام 2011 حيث كان اللبنانيون أول من التقط التحولات الجديدة بمظاهراتهم الشعبية الحاشدة التي عَبَرَت مختلف مناطق وأقضية ودساكر الجمهورية اللبنانية مطالبة بإسقاط النظام الطائفي السياسي اللبناني.

كانت قوى الظلام المذهبي بالمرصاد كذلك، فلبست لبوس من احتل الشوارع وصادرت شعاراتهم ليس لهدف سوى إجهاض تحركات هؤلاء من الداخل وإحباط كل تفكير قد يراودهم في المستقبل بتغيير منشود وأمل بمستقبل أفضل.

واليوم، ومع اليقظة الجديدة التي تعم الشارع اللبناني، والمتمثلة بالحراك الشعبي العابر للطوائف والمذاهب والمناطق، تحت شعار المساءلة والمحاسبة ومحاكمة الفاسدين الذين فاحت روائح فسادهم لتشمل كل مرافق اللبنانيين الحياتية،

لم تكن قضية النفايات سوى قمة الهرم في جبل الفساد المتعدد الجذور الاجتماعية والاقتصادية، بطالة ونهباً للمال العام وتراكم للديون المليارية بالعملة الصعبة والمياه الملوثة، والكهرباء التي صارت تحل ضيفة على اللبنانيين دون أن تؤنسهم في لياليهم الحالكة، إلى الإلغاء التدريجي للحياة السياسية الداخلية والتعبيرات الديمقراطية لاستبدالها بإفراغ موقع الرئاسة الأولى والتمديد المتكرر للمجلس النيابي وحصر السلطة التنفيذية بحكومة فاشلة وعاجزة،

مع كل هذا الفساد المتراكم، تشمر القوى السياسية الطائفية الحاكمة عن سواعدها لمواجهة الحراك الشعبي الحاصل تحت ستار المطالبة بعدم التعميم في تحديد المفسدين والتبرؤ من الفساد القائم، تارة بالتهديد، وأطواراً أخرى بمحاولة مصادرة الشعارات في الشوارع واختراق الساحات بحراك ومواجهات مشبوهة قد يجد اللبنانيون أنفسهم بعدها، فيما لو تحققت مآرب هؤلاء، يقيدون الفساد ضد مجهول ومن غير المستبعد أن يمتطي المفسدون المعركة ضد الفساد والتشارك في الشوارع مع ضحاياهم، تكراراً جديداً لما فعلوه في العام 2011 عندما نزلوا إلى الشوارع في معركة إسقاط النظام الطائفي وزايدوا على الناس في لعن الطائفية ونظامها، في واحدة من أخطر ما سوف يواجهه الحراك الشعبي اللبناني في الأيام المقبلة، من تحديات مصيرية ومعارك أقسى وأدهى، ينبغي أن لا يساور اللبنانيين والحراكيين منهم في المقدمة، أدنى شك، بأنها معارك سهلة وأن استعادة الحقوق قريبة المنال في ظل وجود هذه القوى الظلامية التي سوف تدافع عن هذا النظام وتستميت من أجل بقائه حتى آخر نفس لديها، ولن تستكين أو تتوقف إلا في اللحظة التي يدرك أربابها أن ما يخسرونه هو أكثر مما يجنونه من هذا النظام الفاسد.

إن قوى التغيير اللبناني، مطالبة اليوم وغداً بأن تُبقى ساحات الغضب التي تعم لبنان، على كامل حيويتها وديناميتها ووعيها، وأن لا تُفرَغ من الحشود الثائرة المطالبة بكسر قيود الذل والإفقار والبطالة والتجهيل والاستزلام التي كبلوها بها تجار الدين والطائفة والمذهب،

وليعي الجميع أن التغيير لا ولم ولن يكون سوى على أيدي الفقراء والمعذبين والمضطهدين والمسحوقين في هذا البلد والذين تقول الإحصائيات الرسمية المحلية والعالمية أنهم قاربوا في تعدادهم ثلاثة أرباع الشعب اللبناني، دون أن يختصوا بطائفة معينة أو مذهب أو منطقة، وإنما المآسي تطال الجميع دون استثناء.

والتغيير لن يكون إلا على أيدي هؤلاء دون غيرهم، طالما لم يتزحزح الفاسدون والمفسدون عن مواقعهم التي تدر لهم اللبن والعسل، وبالتالي فإن هؤلاء لن يستجيبوا للمطالب الشعبية إن لم تهتز عروش مصالحهم وتُقَض مضاجعهم بالتحركات اليومية والطرق على رؤوسهم وفضحهم أمام الرأي العام حتى لا يبقى لهم من بال ليهنئوا به أو مصلحة ينعموا بها بعد اليوم.





الاربعاء ٢٥ ذو القعــدة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / أيلول / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة