شبكة ذي قار
عـاجـل










رحل رسام الكاريكاتير العربي، فلسطيني المولد، ناجي العلي اغتيالاً برصاصة في الرأس، أصابته تحت عينه اليمنى عام 1987، وترك صديقه الصغير حنظلة وحيداً، لا أب له ولا أم، وهو الذي جعل له ميلاداً رسمياً بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 ممثلاً شخصية الصبي الفلسطيني ابن العاشرة ربيعاً الذي أراده في هذه السن فلا يكبر إلى أن تتحرر فلسطين، لتنطق رسوماته الكاريكاتيرية، على لسانه بكل ما يعبّر عن ضمير الأمة وفلسطين، في مواجهة التخاذل الرسمي العربي والأنظمة المتاجرة بمصالح شعوبها وكرامة بلادها.

غاب حنظلة عنا منذ غاب ناجي العلي، وكدنا ننسى أنه غاب،
غير أنه بالأمس عاد إلينا طيفاً يجثو على شاطئ بحر ايجه، وكأنه حقيقة، قذفت به الأمواج حاملاً في أعناقه هوية طفل سوري من بلدة عين العرب، لم يستطع من رآه أن يميِّز بينه وبين ملامح حنظلة فلسطين، حيث أن الاثنين يحملان ذات البصمة من البؤس والتشرد وعذابات الضياع والأمل المفقود من كل من جعل من طفولتهما قرباناً لمصالح الدول الكبرى منها والإقليمية، ونخاسة الأنظمة التي تبيع شعوبها دون أن يرف لها جبين من الحياء، وهي تصر على التربع فوق ركام أوطان دمرتها عن سابق تصور وتصميم دون التنازل عن عروشها المتهاوية القائمة على جماجم الشهداء وزفرات الثكالى وبراءة الأطفال والأيتام منهم بشكل خاص، أولئك الذين فيهم اليوم من يحسد الفتى إيلان المسجى جثماناً على الشاطئ إلى جانب والدته وشقيقه، ليس لما نالته هذه المشهدية، المأساوية من تعاطف إعلامي عالمي بشكل أساسي وحسب، وإنما لكبرياء الفتى الغريق الذي غرز وجهه في الرمال مديراً ظهره للسماء وموجهاً حذائه إلى العالم أجمع وكأنه غير آبه بما سيوجه إليه من عتب، شأنه شأن حنظلة ناجي العلي، الفتى الفلسطيني الذي فقد كل أمل بالأنظمة والحكام فأدار لهم ظهره بدوره علَّهم يخجلون ويتحركون وتدب في دمائهم ذرة من حياء وشرف.

هل هي مصادفة أن يموت إيلان سوريا ويغيب حنظلة فلسطين في الوقت الذي تتناقل الأخبار نبأ وفاة والدة الطفل الشهيد علي الدوابشة، الذي لحق به والده أيضاً بعد أيام، وهم الذين قضوا حرقاً داخل منزلهم في فلسطين المحتلة على أيدي عصابات الاستيطان الصهيوني العاملة على زرع فلسطين بالمستوطنات ورفدها بملايين اليهود المتصهينين المستقدمين من كافة إصقاع العالم وأحلالهم مكان السكان العرب الأصليين أصحاب الأرض الشرعيين، وإجبارهم على المغادرة قتلاً بالرصاص أم إحراقاً أم بقوة الترهيب والترغيب معاً،

في الوقت الذي يشهد العالم أجمع موجات النزوح البشري الخطير لملايين السوريين والعراقيين من قراهم ومدنهم وعبورهم جحيم النار إلى جحيم الهرب عبر البحار متجاوزين دروب الهجرة الشرعية إلى الاستعانة بقوارب الموت والصهاريج المقفلة التي أودت بالآلاف منهم اختناقاً وغرقاً، ولم يكن الطفل إيلان القادم من شمال سوريا الأول فيهم، ضحيةً وإنما سبقه الآلاف، وبالتأكيد لن تتوقف المأساة بوجود جثته التي طفت على شاطئ البحر شأنه شأن كل الشهداء الذين قضوا بحثاً عن ملاذات آمنة في بلاد الله الواسعة بعدما ضاقت بلاد العرب بأبنائها فتركتهم للبحار تقذفهم جثثاً، وللدول الكبرى تصادر طفولة أبنائهم وأحلام كبارهم فتترك كل ما سوف يأتي به المستقبل، للمجهول.

تُرى، ماذا يقول ناجي العلي اليوم، لو عاد إلى الحياة ثانية،
وأية صواعق ستقذف بها مفردات رسوماته الناطقة على لسان صبيّه المدلل حنظلة،

وحنظلة هذا، تُراه أين يكون اليوم؟
وهل يرقد مع مبتدعه في نفس الضريح.

أم أُطلق سراحه هائماً على وجهه حزناً على ما يرى من مصائب فقدت الكلمة معناها في تفسير ما يجري ولم يعد من مكان سوى للسلاح المقاوم وإعادة الاعتبار لانتفاضات الأحرار العاملة على تطبيق مقولة العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.

أتراه، حنظلة، يتشارك مع أطفال فلسطين العزاء باستشهاد علي الدوابشة وقبله محمد الدرة، ومعهما حمزة الخطيب في سوريا وضحايا براميل الموت فيها، المتنقلة شرارتها إلى صحارى العراق وأطفاله الذين يقضون يومياً بالعشرات في مسالك التيه وبموجب الفتاوى المسمومة، شأنهم شأن أطفال اليمن الذي لم يعد سعيداً بعد اليوم، وأطماع كسرى لم يعد لشهوات تمددها حدود!

المعذرة حنظلة، ليس المطلوب منك أن تعتذر بعد اليوم على كل هذا الغياب، فما عساه قلبك الصغير أن يتحمل!

نحن من عليه أن يعتذر إليك وإلى كل أطفال الأمة على كل ما فعله السفهاء بنا، وما يتركه المتخاذلون من بصمات خيانة وذل وعار، فأضاعوا قضايا أمتهم، وفرَّطوا بأحلام الجميع، والطفولة منها أول من دفع الثمن.

المعذرة حنظلة ... يوم أضعناك، أضعنا معك البوصلة إلى فلسطين، وأضعنا معك كرامة عروبتنا وحلم طفولتنا،

فما عسى أقرانك أن يقولوا لنا اليوم، سوى أن يعودوا إلى الحجارة والغضب من جديد وهذا هو حقكم المشروع، والأمر لكم.





الاحد ٢٩ ذو القعــدة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / أيلول / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة