شبكة ذي قار
عـاجـل










في كل حرب تندلع، تنشأ على جوانبها مآسٍ إنسانية. ومع كل صراع يتفجر ويأخذ طابعاً عنفياً معسكراً ينتج عنه وفي سياقاته أزمات اجتماعية حادة، خاصة إذا ما طال أمده وتعددت أطرافه وتداخل داخله بخارجه وخرج عن ضوابطه.

إن الحروب والصراعات تقع بين البشر وعلى أرض يسكنها بشر، وكلفتها تكون باهظة بكل عناوينها، عندما تكون الخنادق متداخلة وتضيق فواصل أسبابها الداخلية والخارجية، بحيث يختلط "الأهلي" بالإقليمي والدولي. وفي هذه الحال تصبح الأماكن السكنية والأحياء الآهلة مسرحاً للعمليات العسكرية أما أصلاً وأما بالتبعية.

وعندما تصبح الأماكن المأهولة مسرحاً للعمليات العسكرية، ترتسم خطوط التماس بين الأحياء أو على تخومها، ويصبح المجتمع المدني بين نارين، نار المهاجمين ونار المدافعين، ومعها يقع أفراد هذا المجتمع أمام خيارين لا ثالث لهما. اما التمكن من الخروج إلى ملاذات أكثر أمناً وإما البقاء ولأسباب عديدة وتحمل عبء ضغط العمليات العسكرية، وفي كلتا الحالتين تكون المأساة شديدة الوطأة على من خرج أو على من بقي. فالخروج سيدفع أفراد المجتمع المدني إلى عالم الشتات ومواجهة ظروف المعيشية القاسية، حيث في الحل ( بكسر الحاء ) فإن الأكثرية الساحقة تعيش على قسائم المساعدات مع إذلال الحياة اليومية كما في الترحال إلى أماكن لجوء الأمن الحياتي والأمان السياسي.

وإذا كانت الأزمات الإنسانية التي ترافق الحروب وتتولد عنها، تتعدد مشهدياتها إلا أن أقساها وأخطرها ثلاث : هي الحصار والتجويع والتطهير.

فالحصار للمدنيين تمارسه القوى المحاصرة ( بكسر الصاد ) لكسر إرادة الطرف الآخر عبر استغلال ضغط الحالة الإنسانية للمجتمع المدني المحاصر، والتجويع يمارس كورقة ضغط على الكتلة البشرية المحاصرة ( بفتح الصاد ) لتحقيق أهداف عسكرية واستطراداً سياسية في سياق الصراع المفتوح.

وإذا كان الحصار والتجويع يجسدان مشهدان خطران على مقومات الحياة الإنسانية، إلا ان ما يفوقهما خطورة هو التطهير، لأنه في استهدافاته يراد توظيفه بإحداث تغييرات في التركيب الديموفراغي للمجتمع المدني. وتتجلى عمليات التطهير بالإخراج القسري للسكان من مناطق سكنهم التي التصقت حياتهم بها. وهذا ما يكون عادة مقدمة لإفراغ المناطق من سكانها الأصليين لإسكان آخرين مكانهم عبر عمليات استيطان أو عبر استقدام آخرين من مناطق أخرى داخلية أو بتوطين آخرين من خارج الإطار الوطني وكما حصل في عمليات الاستيطان في جنوب أفريقيا وفي فلسطين المحتلة وكلا الحالتين ارتبطتا بمقدمات إنفاذ مشروع سياسي على حساب سكان البلاد الأصليين وهو ما ينفذ اليوم في العراق.

وإذا كان العالم قد وقف في الآونة الأخيرة على حجم المأساة الإنسانية التي برزت من خلال مشهديات حصار "مضايا" والعديد من مدن وضواحي ريف دمشق من داريا إلى المعضمية إلى كفريا والفوعا في ريف ادلب وتلك المحاصرة في مدن الشرق السوري وفي أحياء حلب وريفها وحمص وريفها، وكلها تندرج تحت عنواني الحصار والتجويع في سياقات الضغط العسكري لأهداف سياسية ترتبط بأجندة القوى المحاصرة ( بكسر الصاد ) إلا أن الأخطر من كل هذا هو ما تتعرض له مناطق عديدة في العراق وخاصة في محافظة ديالى، حيث تنفذ عملية ممنهجة لإفراغ المحافظة من سكانها الأصليين ليس بأسلوب الحصار والتجويع الذي تمارسه ميليشيات أو قوى مصنفة نظامية بل بأسلوب ارتكاب المجازر المروعة بحق المدنيين وبواسطة قوى معروفة، ترتبط بمركز توجيه وتحكم خارجي، وهو معروف جيداً ولا يخفي وجهه بقفازات كما يحلو لرئيس مجلس نواب العميلة السياسية أن يقول، بل هو معروف جيداً أنه النظام الإيراني.

وإذا كان التطهير السكاني الذي تمارسه ميليشيات تدار من مركز التحكم والتوجيه الإيراني ينصب على ديالى بشكل رئيسي نظراً لأهمية موقعها الاستراتيجي بين بغداد والحدود الإيرانية، فإن هذا العمل الخطير الذي يطبخ على نار المحفزات المذهبية المحمولة على رافعة التدخل الإيراني ذي الطبيعة الاحتلالية، ليس العمل الخطير الوحيد الذي يهدد طبيعة التركيب الديموغرافي لشعب العراق. إذ ثمة أخطار أخرى تتمثل بأعمال تطهير تقوم بها قوى تكفير مذهبي وترهيب سياسي في مناطق أخرى من مناطق الاختلاط، وأخرى أيضاً – تطال العراقيين العرب في مناطق الاختلاط مع "الكرد" في الشمال العراقي، ونموذجه الحسي إزالة معالم قرى بأكملها عن الخريطة العمرانية، لمجرد أن سكانها هم عراقيون عرب بهويتهم القومية. وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على أن مخطط ضرب وحدة العراق أرضاً وشعباً لا تستكمل إلا بأحداث التغيير في التركيب الديموغرافي لشعبه.

فإذا كان البعض لا يدرك خطورة هذا المخطط فتلك مصيبة، وإذا كان يدركه ولا يعمل شيئاً لإسقاطه فالمصيبة أكبر. وفي الإطلالة السريعة على مسرح العمليات التي تنفذ فيها عمليات التطهير عبر الاخراج القسري للسكان على وقع المجازر البشرية والتدمير العمراني، يرتسم مجدداً مشهد التقاطع الأميركي – الإيراني على أساس تكامل الأدوار بينهما والذي بدأ قبل العدوان على العراق واحتلاله ويستمر اليوم بآليات وأدوات تصب نتائج أعمالها في خدمة المشروع الرامي لإسقاط الكيان الوطني العراقي وإعادة رسم أوضاعه السياسية على قاعدة المحاصصة المذهبية والعرقية والارتهان للخارج الإقليمي والدولي وخاصة الموقعين الإيراني والأميركي.

فالنظام الإيراني يشرف مباشرة على عمليات التطهير السكاني في ديالى وبغداد ومحيطها وكل مناطق الاختلاط السكاني في معتقداته الدينية والمذهبية، وأميركا تشرف وتغطي عمليات التطهير في مناطق الاختلاط السكاني على أساس الهوية القومية ما بين عرب "وكرد". وهذا ما يجعل من عمليات التطهير تفوق في خطورتها عمليات الحصار والتجويع، لأن الأخيرة يمكن احتواء نتائجها السلبية في بعدها الإنساني من خلال فك الحصار وإدخال المساعدات إلا إذا ربطت بعملية تبادل سكاني، وأما الأخيرة فهي ترتبط بمشروع هادفٍ لتقويض الوحدة الوطنية عبر تغيير طبيعة التركيب الديموغرافي والولاء الوطني.

وإذا كانت أعمال الحصار والتجويع والتطهير تصنف كجرائم ضد الإنسانية، وفق ما نصت عليه أحكام القانون الدولي الإنساني، وما تضمنه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو عامل مهم في إطار الردع القانوني للجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية ومنها جرائم الحصار والتجويع والتطهير، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم بل تبقى سيفاً سلطاً فوق ركاب مرتكبي هذه الجرائم، سواء كان في موقع سلطوي او ميليشوي إلا أن هذا لا يكفي لردع من يحاصر أو يجوع أو من يقوم بأعمال التطهير، خاصة إذا كان سجله حافل بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان ولا يقيم اعتباراً للمنظومة القضائية الدولية. ولهذا فإنه في موازاة توثيق الجرائم لا حالة مرتكبيها على المحاكم ذات الصلة للمقاضاة، فإن الحملات الإعلامية والإنسانية التي تستطيع أن تساهم في تكوين رأي عام ضاغط لفك الحصار وإنقاذ المحاصرين والمتضرعين جوعاً ومرضاً كحد أقصى أو إيصال المساعدات الإنسانية، الغذائية والطبية منها كحد أدنى لا تكفي لوحدها لوضع حد لعمليات التطهير.

ولذلك، فإن مواجهة أعمال التطهير يجب أن تكون عبر وسيلتين، الأولى،عبر إطلاق أوسع حملة إعلامية وسياسية حول أعمال التطهير التي تحصل في العراق، خاصة وأن الأمور باتت مكشوفة حيث الضحايا معرفون، والسفاحون معروفون أيضاً سواء على مستوى أصحاب القرار أو على مستوى أدوات التنفيذ، والثاني بإسقاط المسببات التي أنتجت مثل هذا السلوك الإجرامي الذي لا يقيم اعتباراً للقيم الإنسانية والأخلاقية وحسب، بل ينفذ أجندة مشبوهة تطال المكون الوطني العراقي برمته.

ان النظام الإيراني ضخ وسرب ثلاثة ملايين إيراني إلى الداخل العراقي، وهؤلاء منحوا الجنسية من حكومة المنطقة الخضراء وهذا يعني أن ذلك تم عبر رموز العملية السياسية وبتواطؤ أميركي مكشوف، والميليشيات التي اجتاحت المقدادية وقبلها العديد من المدن والنواحي والقرى في ديالى وارتكبت مجازرها، سوف تنقل أفعالها إلى مناطق أخرى وخاصة، في سامراء وصلاح الدين وبابل، لتغييرطبيعة التركيب الديموغرافي الذي بات ينفذ بإشراف إيراني وغض نظر أميركا التي استعادت بعضاً من حضورها تحت حجة مواجهة قوى الإرهاب.

من هنا، فإن الخطورة المترتبة على البنية الوطنية العراقية شعباً وأرضاً، باتت موقفاً واضحاً من الذين وقفوا طويلاً في دائرة الضبابية ولم يقدروا جيداً خطورة البعد الاستراتيجي للحرب على العراق واحتلاله،ولاخطورة البعد الاستراتيجي للدور الايراني الذي تحين الفرص للانقضاض على العراق وعبره الى العمق القومي العربي .

على هذا الاساس،فإن النظام الايراني الذي يصارع في العمق القومي مباشرة وعبر اذرعه الامنية والسياسية والتي تلك ترتبط بولايته الفقهية،يعتبر العراق ممر العبور الاستراتيجي لمشروعه الى العمق القومي العربي.فإن تمكّن من ضرب مخالبه في العراق،أمكن له تحقيق اهدافه ،وان اسقط مشروعه في العراق،سيعود منكفئاً الى حدوده الداخلية ليواجه ازمات الارتدادات السياسية والاقتصادية لهذا الانكفاء والانكسار .

وبما ان الوضع على خطورته لم يعد يحتمل التذبذب في تلاوين المواقف،فإن انقاذ العراق بوحدة ارضه وشعبه لا تكون الا عبر مشروع سياسي محمول على رافعة وطنية عابرة بقواها للطوائف والمذاهب والمناطق،ومتوفرة لها كل وسائل الدعم والاسناد العربي.

ان قوى المشروع الوطني في العراق اعلنت موقفاً لا لبس فيه حول اهمية الدور العربي في اليمن وتصديه للتغول الايراني وبالتالي فهي ايدت هذا الدور ضمن ضوابط الحل السياسي الذي يحمي وحدة اليمن ارضاً وشعباً وهوية قومية ،وما على قوى هذا الدور إلا ان تعتبر ان اسقاط التغول الايراني في العراق لا يقل اهمية عن اسقاطه في مواقع اخرى لا بل هو الاهم وهو الذي يحتل الاولوية،لأنه لو لم يسقط العراق في براثن الاحتلال الاميركي وبعده الاحتلال الايراني،لما كان بإمكان احد من رموز النظام الايراني التفوه بأن ايران باتت تسيطر على أربعة عواصم عربية .ومن ادرك مؤخراً بأن الصراع مع المشروع الايراني هو صراع قومي بامتياز عليه ان يترجم ذلك موقفاً سياسياً واسناداً مادياً للقوى التي اخذت على عاتقها مقاومة الاحتلال الاميركي ودحره وتأخذ اليوم على عاتقها مقاومة الاستعادة الأميركية ومقاومة التغول الايراني،لأن كلا الطرفين يتكاملان في ادوارهما في عمليات التطهير التي تدار بإشرافها وديالى هي نموذجاً .

فهل يستحضر دور عربي في العراق؟ انه المطلوب ليس تكفيراً عن اثم سياسي ارتكب بحق العراق وحسب،بل لضرورة الدفاع عن الامن القومي العربي من بوابة العراق أولاً .
 





الاثنين ١٥ ربيع الثاني ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / كانون الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة