شبكة ذي قار
عـاجـل










الذين يتعاملون في القرن الواحد والعشرين بعقلية الذين عاشوا في عصور ما قبل الميلاد ويفسرون الأمن المجتمعي على أنه بندقية وجدران عالية ومشانق وسجون معتمة وأقبية تعذيب مبتكرة، لا يصلحون للعيش في هذا الزمن الذي لم يعد فيه للخنادق والأنفاق وجدران الفصل أيا كان دافعها وتبريرها، دور في تحقيق الأمن الذاتي الذي لا تحققه إلا العدالة المطلقة في مجتمع عاني من ويلات الإقصاء والتهميش لنصف السكان ومحاولات التذويب المنهجي من عام 2003 وبلا توقف، فهل تصلح الأسوار لتأمين مدينة كبيرة مثل بغداد؟ هل هي عودة إلى بناء الأسوار حول المدن كما كان الأمر يحصل في الأزمنة الغابرة ؟ وماذا نفعت الأسوار في حماية الأرض والإنسان ابتداء من سور الصين العظيم وصولا إلى جدار برلين الذي بتهديمه انتهت حقبة تاريخية من الحرب الباردة التي أسقطت النظام الشيوعي ليس في ألمانيا الشرقية وحدها وإنما في أوربا بكاملها وأدى إلى تقسيم الاتحاد السوفيتي ونشوب نزاعات مسلحة بين روسيا والجمهوريات التي انسلخت عنه أو فيما بينها، وكان من نتيجة إزالة جدار برلين نشأ نظام دولي جديد وعودة الوحدة بين شطري ألمانيا كما كانت قبل الاحتلال الذي تعرضت له مع نهاية الحرب الثانية وسقوط الرايخ الثالث رغم أنف الشرق والغرب، وهناك جدار آخر ما زال يتحدى الشرعية الدولية والإنسانية هو جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل تحت لافتة حماية المدن والمستوطنات الصهيونية من العمليات الإرهابية.

وهكذا تلتقي العقليات العنصرية والمتخلفة على خيارات واحدة في ترجيح البطش، فإذا فهمنا نزعة الصهاينة العنصرية لتهويد الأراضي الفلسطينية، وإذا تفهمنا بصعوبة موقف السوفيت من إقامة جدار برلين الذي أقيم لمنع هرب الأمان الشرقيين من جحيم الشيوعية، فإن جدار الفصل العنصري الطائفي في بغداد سيبقى عصيا على فهم أي إنسان عاقل وسوي، لأن الأمن لا يتحقق من خطوة كهذه، فالأسلحة المتطورة التي دخلت الخدمة منذ بدايات استخدام المدفعية في جيوش العالم أسقط القيمة الحقيقية لأي جدار مهما ارتفع بنيانه، والخنادق لن تنفع في منع نوايا من يريد الإخلال بالأمن لأن التطور في إقامة الجسور العسكرية، أنهت وإلى الأبد أي دور للخنادق في منع حركة من يريد الوصول إلى هدفه، ثم إن السيارات والعجلات الملغمة بالمتفجرات لم تترك مجالا لجدار أن يوفر الحماية لموقع أو هدف إن أراد أحد الوصول إليه.

فهل كانت قيادة قوات بغداد متأكدة من أن التهديد لأمن بغداد يأتي من خارجها؟ أم أن المليشيات الإيرانية الولاء والمرتبطة بسلطة المنطقة الخضراء هي التي تعصف بالأمن وتهدد المواطن بحياته وحياة أفراد أسرته وممتلكاته؟

الهدف كما يبدو ليس هدفا أمنيا على الإطلاق بل هو هدف سياسي يخفي وراه نوايا شريرة تعمل على تنفيذها حكومة حيدر العبادي بالتواطؤ مع أمريكا وإيران، ترتبط بمشروع تقسيم العراق الذي يبدو أنه يطبخ الآن على نار حامية ويتطلع لإقامة أربعة أقاليم وليس ثلاثة، فبالإضافة إلى الأقاليم الثلاثة المعروفة، هناك نية لجعل بغداد إقليما قائما بذاته، من خلال الجدار البالغ طوله 300 كيلومتر ويعزل بغداد عن كل المحافظات التي تحيط بالعاصمة، مع خندق بعرض ثلاثة أمتار وعمق مترين، وطريق موازٍ للجدار والخندق مع أبراج مراقبة وأجهزة كشف المتفجرات، حسنا ماذا لو وقعت تفجيرات بعد إنجاز هذا المشروع وإقامة كل هذه التحصينات؟ هل سيعترف رئيس الحكومة وقائد قوات بغداد الذي ألبسوه ثوب المسؤولية عن إقامة الجدار بآن إخفاقا كبيرا، هما من يتحمل مسؤوليته؟

عندما تصل وقاحة القرار الرسمي إلى حد إقامة جدار لمنع المواطنين من دخول عاصمة بلدهم وتحويل بغداد إلى جزيرة معزولة عن كل ما يحيط بها من مدن ومحافظات فإن الشرفاء من العراقيين مطلوب منهم وقفة أخلاقية وتاريخية تمنع وضع حجر الأساس لتقسيم العراق وبغداد إلى كانتونات متصارعة أو متصادمة المصالح وكأن تفتيت العراق لا يكفيهم فراحوا يمزقون أوصال بغداد.

سواء كان مصدر القرار سياسيا أو عسكريا، فإن موقف حيدر العبادي رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة والذي أعلن وقوفه ضد المشروع وضد عزل بغداد عن بقية المدن العراقية، ثم تبني المشروع عمليا بعد ذلك بتوقيعه على إقامته هو الذي سيحمل وزر هذه الخطوة إلى أن ينهض الشعب العراقي لتهديم الجدار، لأن قائد عمليات لا يستطيع الإقدام على خطوة بهذا الحجم من دون موافقة القائد العام للقوات المسلحة، وإلا فإنه سيعد متمردا على الأوامر العليا مما يقتضي إحالته إلى محكمة عسكرية، ثم إن هذا التضارب والتناقض في المواقف المعلنة يعكس في واقع الحال طابع الشخصية المهزوزة للعبادي وعجزه عن الإعلان عن موقفه الحقيقي، فهو الذي وقع على قرار إقامة الجدار وأعطاه تفسيرا أمنيا ورفض التفسير السياسي له، ماذا لو وحّد هؤلاء الكذابون خطابهم السياسي كي لا يتحولوا إلى أضحوكة.

العراق على مفترق طرق، فإما أن يؤكد شعبه كما كان يسمى في الماضي بأنه "بروسيا" العرب التي وحدت ألمانيا وتوحدت مرة أخرى بعد زوال جدار برلين استنادا إلى النزعة الوطنية التي غرسها بسمارك، أو أنه سيخلد إلى الأرض ويتبّع هواه وحكامه البغاة، فيخسر فرصته التاريخية.

أما الحديث عن قضم هذا الجزء من هذه المحافظة أو تلك إلى بغداد فهو حديث قاصر عن استيعاب حجم المشروع الذي يعد لتدمير العراق وإقامة كانتونات صراع بلا نهاية على الحدود والثروة وغيرها مما سيتفجر من أزمات مستحدثة.





الاربعاء ٢ جمادي الاولى ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / شبــاط / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة