شبكة ذي قار
عـاجـل










أيها إلاخوان (1) :
حديثي إليكم سيكون صريحا بسيطا.. سأوجز ملاحظاتي والخواطر التي أثارتها أقوالكم في نفسي، ولكم بعد ذلك أن تفكروا مليا لكي تكون أعمالكم وخطواتكم وانتم شباب الحزب المناضلون المعتمد عليهم مع الرفاق الذين يتحملون التعذيب والاضطهاد في داخل القطر السوري.. أقول لكي تكون خطواتكم رصينة وفي مستوى المسؤولية غير متأثرة بالانفعال وحالة الألم والنزق التي تنتج عن وضعكم بعد أن اضطررتم إلى مغادرة الأرض والأهل.

الملاحظة الأولى التي أريد أن أذكركم بها هي انه توجد مؤامرة تاريخية على حزب البعث لم تبدأ اليوم ولا قبل سنوات وإنما من سنين طويلة، منذ ان اتضح لأعداء الأمة العربية ولذوي المصالح في هذه المنطقة، لذوي المصالح الأجنبية طبعا، وللرجعية العربية مدى واقعية هذا الحزب ومدى تجاوبه مع الحاجات التاريخية للأمة العربية في هذا العصر، منذ ذلك الحين بدأت المؤامرة ثم اتسعت ودخلت فيها عناصر جديدة وكانت تتجدد في مظاهرها وأشكالها ولكنها تبقى واحدة في أساسها وتصميمها وأهدافها الأخيرة، مؤامرة على حزب البعث أي مؤامرة على يقظة الأمة العربية في هذا العصر وعلى ثورتها وانطلاقتها، أي مؤامرة على وجود الأمة العربية.

هذا الحزب هو من الواقع العربي وبالتالي فلم يكن معقولا أن يأتي منزها عن جميع أمراض هذا الواقع، ولكنه لو لم يكن منزها عن بعضها على الأقل لما احتل المكانة التي احتلها، ولما صمد حتى الآن. لم يسبق تأسيس هذا الحزب إعداد نظري او تنظيمي يكون في مستوى الصعوبات التي كان محتوما على الحزب أن يواجهها. نشأ الحزب كاندفاعة وتلبية صادقة لحاجات الأمة، وفيه ثقة بان الأمة سوف تحتضنه وتمده بالقوة والوسائل بنسبة تفتّح وعيها واستكشاف ما بينها وبين هذا الحزب من صلة ووحدة في الضمير ووحدة في الأهداف. ولكن هذا لم يكن كافيا ليحول دون تسرب تخريب الأعداء إلى داخل الحزب وقد استغلوا كل ما في المجتمع العربي من أمراض ورواسب، ليحاربوا بها الحزب وليفسدوه وسرعان ما ظهرت في الحزب نزعة الاستعجال، أي استعجال الوصول إلى السلطة، في حين كان الحزب بحاجة إلى زمن أطول وتجارب أعمق ليصلب عوده وليكون قادرا على قهر الأمراض، أمراض الواقع العربي وفي مستوى المسؤولية التاريخية، ولم يكن كل الحزب بهذه النفسية وبهذا التفكير ولكن نزعة الاستعجال هي التي تغلبت، وإذا الحزب يجد نفسه بعد ذلك أسيرا لأحد خيارين أو طريقين لا ثالث لهما، إما أن يكون حاكما أو مغلوبا على أمره ومسحوقا، اما أن يكون ظالما أو مظلوما بمعنى انه يحمل من الأعباء والمسؤوليات ما يفوق قدرته وتهيؤه وإعداده فيشعر بالتناقض والتمزق.

بعد ثلاثين سنة من ظهور حزبنا أستطيع أن أقول بأنه الحركة الوحيدة في الوطن العربي التي استشرفت المستقبل بنظر صاف والتي وضعت الأسس لنضال عربي تاريخي قادر على الصمود والإستمرار حتى تتحقق أهداف الثورة العربية المعاصرة، وتجيء الأحداث تلو الأحداث والنكسات والانتصارات أحيانا لتؤكد هذه الحقيقة. إنما الشيء الوحيد الذي ينقص الحزب والذي يكفل له تحقيق أهدافه التي هي أهداف الأمة العربية هو ان يخلص هذا الحزب لنفسه وان يقترب أكثر فأكثر من فكرته وتصميمه الأول وان يراجع نفسه بين الحين والآخر ليقيس المسافة التي ابتعد بها عن تلك الفكرة وذلك التصميم حتى يسيطر على نفسه من جديد.

في إطار هذه الملاحظة العامة نجد تفسيرا ليس فقط لانتكاسة 23شباط وإنما لكل التشويه الذي طرأ على الحزب قبل تلك الانتكاسة بسنين، وخاصة لذلك التزييف الكامل الذي وقع الحزب ضحيته من بعد انقلاب الثامن من آذار.

ليس من المجدي أن ادخل في تفاصيل ولكن لابد ان أصحح للرفيق قوله باني قبيل 23 شباط أشرت بإصبع الاتهام إلى القيادة القومية، كانت تلك الإشارة ليست إلى القيادة القومية بل إلى الفئة التي كانت تتحكم بسورية في ذلك الحين من وراء جميع القيادات. كذلك أحب أن أصحح قول الرفيق بأننا نحن الذين اضطهدنا الشعب وعملنا كل ما عمل في تلك الفترة من اضطهاد واستغلال وغير ذلك. أقول بان الحزب بريء والحزب أخطا عندما وثق بتلك المجموعة من العسكريين واعتبرهم رفاقا حزبيين وإذا باللجنة العسكرية تدبر مؤامرة لتزييف الحزب تزييفا كاملا وللاستيلاء عليه معتمدة على السلاح الغاشم، على الدبابة والمدفع، وقد لجأ هؤلاء إلى أخبث الأساليب من اجل تحقيق أغراضهم وتزييف الحزب فشجعوا الانتهازية إلى ابعد الحدود وشجعوا الفساد وحاربوا الإخلاص وحاربوا العقيدة الحزبية المؤمنة واتوا حتى بأعداء الحزب وأدخلوهم في الحزب ليكونوا عونا لهم ضد الحزب الأصيل. فشهوة السلطة عندما تسيطر على النفس توصل إلى الخيانة وهذا ما قصدته عندما أشرت في كلمتي في 19كانون الأول سنة 1965 بان في الحزب عناصر مشبوهة وان الاستعمار قد دخل إلى داخل الحزب وقد لا ينطبق هذا الاتهام إلا على أفراد قلائل واحدا أو اثنين أو ثلاثة. أي الأشخاص الرئيسيين وهذا كاف لإيصال البلاد إلى كارثة.

ماذا كان يستطيع الحزب وممثلوه الصادقون أن يفعلوا أمام مؤامرة داخلية من داخل الحزب. مؤامرة خبيثة نفذت ببطء وخبث وذكاء على مراحل. عندما كان واحدنا يفكر بان يعلن ذلك على الملأ كان رفاق كثيرون وأكثرهم مخلصون يرفعون أصواتهم بالاحتجاج إذ لا يجوز في عرفهم أن يظهر الانقسام خارج الحزب فيشمت الأعداء وترفع الرجعية رأسها ويتدخل الاستعمار وغير ذلك من التصورات. سأقول لكم واقعة من عشرات الوقائع: في كانون الأول سنة 1964 تم الاتفاق بين أعضاء القيادة القومية على تخصيص دورة لطرح أزمة الحزب، وكان هو الشيء الذي أقنعني

بالعودة من أوروبا بعد ان كنت قد تركت سورية محتجا على الأوضاع الحزبية المزيفة ومعلنا عجزي عن معالجتها ولم تكن القيادة القومية قبل سفري مقتنعة كلها بوجود التزييف والتسلط، وفي خلال خمسة أشهر قضيتها في الخارج حصل من التجارب ما اقنع أعضاء القيادة القومية، وأخيرا طرحت أزمة الحزب واتخذت القيادة القومية قرارات لوضع حد للتسلط والتزييف وجمدت القيادة القطرية ولكن اللجنة العسكرية ومعها العديد من الانتهازيين والحزبيين المزيفين هددوا وضغطوا ولم ترد القيادة القومية أن تصل الأمور إلى حد الانفجار، وفي تلك الأثناء جاءت رسالة من الرفيق منيف الرزاز، رسالة طويلة وكان عضوا في القيادة القومية، وكنت وجهت اليه ثلاث مرات برسائل ورسل دعوته لحضور تلك الدورة فاعتذر، ولكن بعد أن وقعت الأزمة بين القيادة القومية وقيادة القطر المتمردة على القرار، قرار الحل، أرسل الرفيق منيف تلك الرسالة المطولة يضع فيها اللوم على القيادة القومية، وبعض اللوم على الطرف الآخر، ويظهر أسفه وألمه لهذا الانقسام بين رفاق حزب واحد بإسهاب، طلبت قراءة الرسالة أمام القيادة في حين كان رأي بعض الرفاق عدم قراءتها وكنت اعرف مغزاها، وبالفعل لاقت ارتياحا لدى أعضاء اللجنة العسكرية في القيادة وبعد ذلك ببضعة أشهر أي من كانون الأول 1964 إلى انعقاد المؤتمر القومي الثامن في نيسان 1965 بعد ذلك طلبت من الرفيق منيف الرزاز أن يتحمل مسؤولية الأمانة العامة ويجرب بنفسه تحمل المسؤولية، إذن حتى في مستوى أعلى القيادات وأعلى القياديين كان هناك نقص في الفهم وفي التجربة، وآراء عاطفية تدخل في المواقف التي تتخذ من أخطر أزمة مر بها الحزب. وتركت القيادة وأصر القطريون بالذات على انتخابي في القيادة القومية رغم انسحابي وإعلاني المتكرر لذلك الانسحاب، أصروا هم لكي يبقوني داخل سجن التزييف لكي تستمر الأخطاء وتستمر المؤامرة، تنفذ إلى آخر مراحلها، واحمل مسؤوليتها. ولكني قاطعت رغم كل شيء، قاطعت اجتماعات القيادة القومية بعد المؤتمر القومي الثامن ثمانية أشهر، ولم أحضر إلا في ذلك اليوم الذي كاد يحصل فيه اشتباك بالسلاح أي يوم 19 كانون الأول 1965 ضغط علي الرفاق لكي أذهب إلى القيادة القومية وأهدئ الجو، وألقيت تلك الكلمة التي أشار اليها الرفيق.

أيها إلاخوان
أتمنى لو تستجمعون كل انتباهكم وتجربتكم النضالية لتفهموا ما أريد إيجازه لكم في هذه الكلمة لأني حريص ألا تفقد اللغة المشتركة يني وبين أعضاء هذا الحزب. ألا تفقد الصميمية والمفاتحة الوجدانية. إن المؤامرة التاريخية على حزب البعث التي ذكرت لكم شيئا عنها في بدء هذا الحديث، كان من أوضح تعبيراتها ومظاهرها التحامل على شخصي والمستهدف هو الحزب وليس الشخص، ولكن في حساب الاستعمار والقوى المتآمرة أن تحطيم الشخص يوصل إلى تحطيم الحزب أو إنزال الأذى الكبير به. وهذا ما يفسر كيف أني بعد أن علمتني التجارب الطويلة صرت احرص على الإبتعاد عن المسؤولية على ما في ذلك من الم في نفسي لكي أفوت على المتآمرين بعض الفرص. وقد حدثتكم حديثا صريحا بينت فيه أن الحزب منذ نشأته لم تترك له الظروف والأحداث فرصة ومجالا لتكوين نفسه فكريا وتنظيميا وتربويا التكوين الصلب الذي يجعل منه جسما واحدا موحدا كالرجل الواحد، بل حمل الكثير من أمراض المجتمع ودخلته الدسائس والأصابع المشبوهة ولكن بذرته الطيبة ضمنت له الصمود رغم كل شيء. إذن لم يكن باستطاعتي أن أتكافأ بالوسائل والسلطة مع كل تلك الفئات التي اغتصبت اسم الحزب اغتصابا وعملت على تشويه وجهه وحقيقته. لم يكن ثمة أدنى حد من التكافؤ لان الحزب لم يكن موحدا ولم يكن سليما في الداخل بل كان شتاتا من الفئات والأهواء والمصالح فلكي ننقذ سمعة الحزب وفرصة تجدده في المستقبل ونهوضه من عثاره كان لابد أن نفضح التزوير

والتزييف بالابتعاد. وخرجت من تلك التجربة بدرس نهائي وبقناعة نهائية انه بالنسبة لي على الأقل ليس من مصلحة الحزب أن أضع نفسي في الواجهة وأمكن أعداء الحزب وأعداء الأمة من أن يصيبوا الحزب من خلالي، وصممت أن يقتصر دوري على الناحية الفكرية وهذا ما أطبقه وأمارسه منذ ذلك الحين حتى الآن وتعرفون ولابد أن تكونوا عرفتم باني في المؤتمر القومي العاشر الأخير بعد أن تعذر إقناع الرفاق أعضاء المؤتمر والرفاق العراقيين بخاصة بان يعفوني من مسؤولية الأمانة العامة حتى من المسؤولية الإسمية وافقت على قبول الصفة دون ممارسة المسؤوليات ووافق المؤتمر على طلبي بان انقطع للجنة شكلها المؤتمر باسم اللجنة الفكرية. مع العلم باني اشعر برابطة قوية بيني وبين الرفاق المتسلمين للمسؤولية في هذا القطر، واطمئن إليهم واثق بنزاهتهم وأخلاقيتهم وأصالتهم الحزبية كما اشعر نفس الشعور نحو رفاقي في القيادة القومية واعتقد وأؤمن بان هذا الظرف الذي نحن فيه هذا الظرف الذي لا ترون أيها الرفاق منه إلا وجهه المظلم لأنكم عانيتم من الإضطهاد على أيدي تلك الفئة المشبوهة التي اغتصبت اسم الحزب في القطر السوري. هذا الظرف بالذات له وجه آخر مشرق وإشراقه يربو على ظلمته أضعافا مضاعفة، هو اكبر فرصة تاريخية أعطيت لحزب الثورة العربية لحزب الوحدة العربية، لكي يقوم بدوره الأصيل بينما تتخاذل الأنظمة العربية وتتآمر لفرض حلول تعادل الانهزام والموت، لأنها فضلت نفسها وأشخاصها وطبقتها الحاكمة على الأمة العربية بإمكانياتها الزاخرة الوفيرة التي تستطيع أن تحارب عشرات السنين وان تصمد وان تنتصر فيما لو وجدت القيادة الشجاعة والواعية والثورية بالمعنى الصحيح التي ترى إمكانيات المستقبل وتراهن عليها وتطلقها وتفجرها بدلا من أن تخنقها وتتآمر عليها. فالطريق واضحة وبسيطة طريق الثورة، ثورة الشعب، عندما يندمج الحزب بالشعب وهي كما قال رفيق آخر مرتبطة بالمعركة المصيرية في فلسطين فإذا قام الحزب بواجبه على الجبهة الشرقية فان أمر المعركة يكون سهلا وقد قلت قبل عام لرفاقنا في القيادة القومية في أوائل آب عندما طرحت موضوع الوحدة وضرورة وضع خطة لتحقيقها بان طريق الوحدة يمر بفلسطين.

اكتفي بهذا أيها الرفاق وبعد أن وضحت ما أستطيعه وما لا أستطيعه أعدكم بان ابذل كل جهودي في هذا السبيل شريطة إلا نعود إلى الإلتباسات الماضية التي لم يستفد ولن يستفيد منها إلا أعداء الحزب وأعداء الأمة.

تموز 1970
(1) حديث ألقي على عدد من المناضلين السوريين في تموز 1970، ونشر في ( نقطة البداية ) تحت عنوان طريق الوحدة يمر من فلسطين.
 





الاحد ٢٠ جمادي الاولى ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / شبــاط / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة