كنت أبحث في ملف قديم جداً عن أوراق خاصة عندما وجدت هذا الحديث الذي جرى أثناء لقاء بين عدد من البعثيين من القطر الجزائري والأستاذ ميشيل عفلق في مقر القيادة القومية ببغداد يوم الخميس 21 آب 1986

أعتقد شبه حازم، أن هذا الحديث غير منشور سابقاً، لأنه مطبوع على الآلة الكاتبة. ولم أجد أي دليل أو مؤشر على نشره سابقاً، فهو يكتسب اذن أهمية خاصة للتاريخ ولمرحلة هامة في نضال حزب البعث القومي وبالقطر الجزائري.

وأيضاً يصادف نشر هذا الحديث مع ذكرى رحيل الأستاذ ميشيل الذي يصادف يوم 23 حزيران.

نص الحديث

م / حديث الرفيق القائد المؤسس
لدى لقائه الرفاق الجزائريين يوم الخميس 21 / 8 / 1986

أنكم متفائلين بالرغم من أن عملكم صعب وفي الجزائر تبقى الأصعب نحن واثقين بعد الجهد والدأب والإستمرار فأن الشعب سيستيقظ ويعي هويته الحقيقية ومصلحته الحقيقية، خاصة وأن الشعب الجزائري مجاهد .. مناضل وأن تراثه النضالي يساعده على تحقيق وعيه .. الشئ الذي نأمله.

أنتم كبعثيين في هذا العدد القليل وفي هذه المعادلة الصعبة بالجزائر تكونوا مدركين صعوبات الواقع وفي الوقت نفسه محتفظين بالإيمان والتفاؤل وحرارة العمل. التفائل لا نريده أن يكون نتيجة الجهل أو عدم رؤية المصاعب وينبغي أن تكون النظرة للمصاعب كما هي .. والمعروف أن أقطار المغرب، والجزائر أكثر من أي قطر في المغرب العربي عاشت في عزلة لمدة طويلة بالنسبة للمشرق العربي للفكرة العربية، والمناخ العربي الحضاري، وهذا أوجد فراغات ولم تبق هذه كفراغات وانما ملأت بمضامين خاطئة أوجدها المستعمر أو الفئات الرجعية الإنتهازية .. فكيف تستطيعون أن تخططوا لعمل نضالي طويل النفس على مراحل ودرجات؟

يجب في هذه الحالة أن تراعي هذه الظروف ويتكيف معها وفي الوقت نفسه أن تحتفظوا بالرؤية الإجمالية الشاملة، أن تجزئة العمل إلى مراحل لا يعني أن نحجب المهمة الأساسية التي هي أساسية وواضحة .. "فالبعثي دوماً" مطلوب منه الجمع بين الأضداد ـ الأطراف التي تبدو متناقضة .. أن يكون في غاية التنظيم في الفكر والعمل والعقيدة وأن يحتفظ بالعفوية.

قلتم كنا نعمل في البداية بعفوية وهذا كنز كبير لا نضيعه وتكسبوا دوماً بالعمل العظيم .. العفوية دوماً هي طريقكم إلى قلوب الجماهير والجماهير قوتها في عفويتها ولا تطمئن إلا بالعمل ذات طابع الصدق "العفوية" تعني الصدق والبساطة بالإضافة إلى ما تعانيه الجزائر من أثر العزلة القومية والحضارية أقول أثر من أثار، ما عاد في عزلة ولكن أثار هذه العزلة لم تنتهي بعد، بالإضافة إلى هذا هناك الوضع الحالي والذي به مفارقة خادعة فالنظام يدعي أنه وريث الثورة وأنه ثوري وتقدمي عربي كذلك تكون الثورة كانت عربية في حينها وهو يناقض في مسلكه كل هذه الادعاءات، فلم يبقى شئ من الثورة لدى النظام وما يسميه تقدمية هي مظاهر زائفة.

وأيضاً هناك مع الأسف الشديد خداع و مخاتلة في موضوع الانتماء العربي يتنازلون عن هذا الانتماء وبنفس الوقت لا يرون خير في مناصرة ايران والواقع هم متمسكون في العزلة القطرية ( وهذا رأس الحكمة عند النظام ) ضمن حدود الجزائر.

قضية فلسطين يعالجونها بالكلام ولما يجد الجد فهم متبرؤن منها يدعون إلى مصالحة بين الفصائل الفلسطينية وهذا عمل مفيد في هذا الوقت والجزائر أجدر من يقوم به ولكن أبسط ضغط من النظام السوري يجعلهم يتراجعون .. وكما حدث قبل سنتين عندما كان الجزائر يفترض أن يستضيف المجلس الوطني الفلسطيني ولكن بعد زيارة حافظ الأسد للجزائر تراجعت.

أقول لو كنتم في المغرب أو تونس كان العمل أسهل رغم أن هناك أنظمة رجعية مرتبطة بالغرب والامبريالية والاستعمار والصهيونية كان إلى حد كبير التوجه إلى الجماهير يلقي صدى أقوى وتجاوب أقوى في حين في وضع الجزائر هناك بعض الغموض وليس هناك وضوح ولا يعرف أين نصنف هذا النظام هل في خانة الرجعية، لا هل هو نظام ثوري تقدمي؟ كلا.

لذلك ترون الجماهير في حالة ضياع شتى الدعوات تجد رواجاً ولو لوقت لملئ الفراغ لان الجماهير لا يستطيع النظام اقناعها وتلبية رغباتها، فالنظام الجزائري غير مقنع.

نحن واثقون بأن جماهيرنا الجزائرية ورصيدها النضالي الضخم لا يمكن في نهاية الأمر أن تسلم زمام أمورها وقيادتها للاخوان وتدجيلهم أنهم تجار دين يستغلون الدين في حين أن الجماهير متدينة بصدق لكن الرواج الذي تلاقيه دعوات الدين نتيجة الفراغ وأيضاً كصورة نوع من أنواع المعارضة للنظام كتعبير عن عدم الرضا عن النظام، لان هذه التقدمية التي يدعيها النظام ليس بينها وبين الشعب أية صلة.

التقدمية هي النابعة من صميم الشعب وتراثه وقيمه الروحية والحضارية لان التراث كما يعرف البعثيون المنبع الروحي العربي وهو ثوري بكل معنى الكلمة فعندما نستمد منه نكون تقدميون منسجمين مع روح وضمير الشعب وليس التقدمية التي تعطي امتيازات للطبقة الحاكمة وللدفاع عن هذه الامتيازات مجال العمل في الجزائر خصب للغاية وأعتقد أن الرفاق البعثيين يجب أن يقبلوا على العمل بلذة فائقة لأن من حظهم الكبير أن يلاقوا أمامهم المجال فيه صعوبات لكن من المؤكد بأن عملهم سيثمر ويعطي نتائج لأن الشعب والأرض والجماهير مستعدة ومهيأة لتقبل هذه الأفكار.

هذه الأفكار لم يخترعها الحزب وإنما استلهمها من ضمير الشعب من حياة الشعب .. العروبة أن تجمع هذا الشعب الذي يقطن هذا الوطن الواسع المترامي الأطراف والذي يتضمن خصوصيات كثيرة .. كل قطر له جملة عادات وظروف سياسية وإجتماعية تختلف عن القطر الآخر .. ولكن الكل يشعرون بأنهم عرب وهذا الشعور العفوي المتوارث منذ أجيالها هو إنتماء حضاري انتماء لشخصية حضارية تكونت عبر الأجيال والقرون، من تفاعل مع الظروف مع أحداث التاريخ، والذي برهن بها الشعب العربي في كل مكان على حرصه على هذه الروابط وأنها أقوى شئ و أعمق شئ في ضميره.

عندما يكون الأمر بين حاكم وجماهير ربما تبرز مسألة الدين إذا كانت الجماهير تحركها دعوات دينية ضد الحاكم، ضد النظام، ولكن في مواجهة مع دولة إسلامية غير عربية يستيقظ الشعور القومي العربي و لا يعود موضوع الدين هو كما كان المواجهة بين شعب وحكام.

في وضعكم بالجزائر قد تلاحظون بعض المفارقة عن هذه القاعدة ولكن أنا قناعتي بأن الشعب في الجزائر إذا أتيحت له معرفة كل الوقائع والحقائق فلن يختلف عن أي قطر عربي في موقفه من حربنا مع ايران.

و ما سئلتكم إذا كان حدث تطور بالوعي من هذه الناحية لأني أقدر لا بد أن هذا حصل .. منذ بداية حربنا كانت هناك أشياء غامضة مجهولة وغير معروفة وطول المدة سمح للذي كان مخدوع يجهل بعض الحقائق ان يطلع ويشغل فكره ويتسائل .. لذلك عملكم في هذه الناحية هو عمل ما عاد بالصعوبة السابقة وأصبح أسهل وأكثر جدوى وعليكم المتابعة.

العالم أجمع فهم واستوعب وادرك النوايا التوسعية والأغراض التوسعية لدى النظام الايراني. العالم بمجموعه بكتلتيه الشرقية والغربية بمجموعه بكل أديانه ومذاهبه أصبح شئ واضح له ان هناك بلد يفوق العراق من حيث المساحة أربع مرات يفوق السكان ثلاث مرات وكل الماضي والقرون الماضية كان هو المعتدي ويطمح للتوسع في الخليج والعراق .. وبعدما فشل نظام الشاه بتحقيق هذا التوسع وجدوا التستر بستار الاسلام يساعد على تحقيق هذه الاطماع.

لا نعتقد ان شعب الجزائر أصبحت لديه هذه الحقائق غير معروفة وفوق قدرته على استيعابها .. من أجل أي شئ الثورة الاسلامية؟

من أجل التبشير في العراق؟ هل لان الشعب في العراق شعب وثني أو غير مسلم. أن النظام في الجزائر الذي يتحمل أكبر قدر من اللوم والمسؤولية في موقفه الجبان والمتذبذب في هذا الموضوع.

ربما الجماهير كانت غير مطلعة ولكن مع الوقت أصبحت مطلعة ومهمتكم المزيد من التوضيح ومهمتكم توضيح المعنى الروحي والحضاري والاخلاقي لمفهوم العروبة، لا هي عنصرية ولا هي ضد فئات .. هذا الوطن العربي تشكل خلال قرون عديدة وامتزج ببعضهم وتفاعل وأيضاً بقيت له خصوصيات وكان دوماً يشعر بانتمائه العربي فوق كل هذه الخصوصيات أو تحت كل هذه الخصوصيات هي اطار حضاري يشمل الكل. وهذا لا يعني ان العروبة تمنع البربر بأن يشعروا بخصوصيتهم. العروبة تطالبهم بأن لا ينقادوا إلى وضع خصوصيتهم في مواجهة العروبة .. لا ينقادوا للدعوات الاستعمارية التي تريد تمزيق الوطن العربي لكي يسهل على المستعمرين استغلال وطننا وثرواته .. يخلق التناحر والتناقض بين هذه الخصوصيات، وبالعكس وهي في الوضع السليم هي مصدر ثراء للحضارة العربية والحياة العربية وبأن يكون عناك تنوع في الوطن العربي.

قبل الاستعمار، متى كان هناك فرق بين البربر والعرب لم يكن.

الحزب منذ ما يقارب النصف قرن كان أفقه واسع ونظرته بعيدة ووضع أسس لحياة عربية راقية حديثة وفي الوقت نفسه تقوية الانتماء لتراثها الروحي والحضاري، نزه العروبة عن العصبيات والنظرة العنصرية واعطاها هذه الشفافية هذه الرحابة .. وأنها راقية روحياً وحضارياً .. واسعة ورحبة ليس فيها قسر ليس فيها ضغط وهذا سر قوتها هي حرة ولكنها تتصل بأعمق أعماق الضمير والوجدان الشعبي، هي متصلة بشكل عضوي بالإسلام يعني لا ينفصم ولا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى ولكن عند ما يراد لأغراض غير بريئة ان يفرق بينها وبين الاسلام أو يوضع الاسلام بمواجهة العروبة .. فالعروبة ليست طرف في أضعاف، لأنها هي تتضمن الاسلام. هي الاسلام.

و معنى ذلك أن يضعون الاسلام في مواجهة العروبة يخترعون شيئاً آخر غير الإسلام، الاسلام هو من ضمن العروبة.

فرصة سعيدة .. نتمنى لكم التوفيق في عملكم ونسمع أخباركم السارة ونأمل بين فترة وأخرى نرى رفاق جزائريين للتعرف عليهم أكثر وهم يطلعون على الحالة التي يعيشها العراق لانها فرصة ثمينة ان تطلعوا وتشاركوا في حالة يمكن بدون مبالغة أن تسمى تاريخية.