شبكة ذي قار
عـاجـل










حدثني صاحبي قال كنت قد تجاوزت السبعين من عمري ، وقد أنهكتني الحياة ، ولكنها لم تتمكن من ارادتي ، فقد كدحت كثيراً ، واصررت على مواجهة كل الظروف القاسية التي واجهتني ، حتى تمكنت من تعليم أبنائي وبناتي ، تجاوزت بهم الحياة الجامعية ، ومكنت كل واحد منهم بالحصول على وظيفة ، وتخيلت أنني بت في حل من أمري،حيث ظننت واهماً أنني امتلكت قسطاً من الراحة ، بما تبقى لي من عمر وما املك من حطام الدنيا ، ولصعوبة الحياة وقسوتها كنت قد ظننت أن كل واحد فيهم سيبحث في جيوبي ليتأكد من أنني بحاجة إلى ما يجعلني قادراً على أن اعيش بقية عمري براحة وأمان ، ولكنني لم اتخيل بأنني ما زلت بقرة حلوب ، حيث يقبض كل واحد فيهم راتبه ، ويظن أن البيت فندقاً ومطعماً بالمجان ، وما علي إلا أن استمر في العطاء رغم شحة الحال ، وضيق ذات اليد ، فتفكرت في أمر هذا الجيل ، هل هذا عقوق الوالدين ، أم أنه سوء في الاخلاق وقلة في التربية ، ولم يفهم كل واحد فيهم ما جُبل عليه الإنسان ، وما يجب أن يقوم به ، فأين الحياة التي تربينا عليها .

فأجبت صاحبي هذا السبعيني الذي ما زالت الدنيا في عينيه ليست كما يراها هذا الصغير في الهمة والادب والاخلاق ، وأن هذه الدنيا التي نتلوث فيها ليست بذات الدنيا التي كان فيها آباؤنا ، الذين نالوا من شظف العيش ، وجبلوا أبناءهم بصعوبة الحياة ، ولكنهم صنعوا منهم تربية ليست بهذه النوعية من التربية الفاسدة في الادب والخلق ، فضاعت الحياة بعد أن ضاعت القيم ، فباتت حياتهم بلا قيم ، وباتت معيشتهم رديئة بلا قيمة ، فضاعوا وأضاعوا ، فكيف لهم أن يبنوا جيلاً بعد أن دمروا أجيالاً ، وكيف لهم أن يبنوا حياة بعد أن دمروا كل ما هو جميل بهذه الحياة ، أليست القيم التي تربينا عليها هي أجمل ما في هذه الحياة ؟.

دهش صاحبي من عرض الحال أمامه ، وأن هذا الجيل الذي أتحدث عنه ، هو جيل من يدمر ما بنى الذين سبقوه ، ولوثوا الحليب الذي رضعوه من ثدي أمهاتهم ، وداسوا على قيم الخير والحب التي تربوا عليها ، فما هي الحياة بدون قيم، وكيف تستسيغ بدون محبة وخير وعطاء ، فإذا كان نكران حقوق الوالدين يمر أمام أعينهم بهذه السهولة ، ودون أن تخدش الحياة لديهم بأية وخزة ، فكيف لهم بالسعي لبناء جيل يتنطع لمواجهة الحياة بحلوها ومرها .

أعاد لي صاحبي السؤال ، وما العمل يا صديقي ؟ ، فأجبت إنها التربية يا صاحبي ، لقد فقدنا معاييرها ، وفقدنا مع هذه المعايير قيماً غرست في نفوسنا وآبائنا وأجدادنا، وفشلنا في غرسها في نفوس أبنائنا ، فضاعوا ولن تقوم لهم قائمة ، إلا إذا نحن امتلكنا قيادة السفينة حتى بعد طول عمر ، وما بقي من هذا العمر كاف من أن نعيد البوصلة بالاتجاه الذي نرى فيه بصيص الامل ، وما علينا إلا أ نكبح الضعف والوهن الذي يدب في عروقنا ، ونتمسك ببقية الارادة التي ما زلنا قابضين عليها كما نقبض على جمر الحقيقة ، التي بقيت لنا مع بقية ما بقي لنا من هذا العمر .

لست في معرض الفلسفة عليك يا صديقي ، ولكنها هي الحياة ، هي مدرسة لكفيلة أن تعلم تلاميذها كل ما يتسلحون به في معترك الحياة ، فالحياة تربية وأخلاق وقيم، ورغم استراحة المحاربين على قارعة الطريق ، ولكن في هذه الاستراحة تأمل وتفكر، وفي هذا التأمل والتفكر ما يغذي النفس ، ويدفع بالإنسان أن يبث همومه ليس توجعاً والماً منها ، بل لتكون عبرة لمن يأتي من بعده ، حتى لا تضيع بوصلة هؤلاء ، فيفقدوا الامل ومعها الحياة فلا حياة بلا أمل ، فهم رغم قسوتهم هم فلذة اكبادنا .

اراح صاحبي رأسه على كتفي وقال أهي الاخلاق نبراس كل دين التي لم نصنع غرسها في نفوس من نحب ؟ ، ومن المسؤول يا ترى نحن أم هم ؟ ، فقلت له كلانا، ولكنهم الاكثر مسؤولية منا ، لأنهم غرفوا من العلم ونهلوا من معين الحياة اكثر منا، ونحن الذين نلنا قسطاً من هذا وذاك ، بقدر استطاعتنا كنا اكثر عطاء لمن لم ينالوا حظاً منهما ، و لم نسلك طريقاً يسلكه أبناؤنا في الجهل في المسؤوليات الملقاة عليهم اتجاه والديهم ، الذين اناروا لهم الطريق ، وقدموا لهم رحيق الحياة، و بذلنا لهم مهجة ارواحنا ، ولكنهم ناكرون ليس لنا ، بل ولمن خلقنا واياهم ، ولأنفسهم اليوم وفيما بعد ، هداهم الله ومكنهم من فهم قيمة الاخلاق عندما تتوطن النفوس.





الخميس ٢٧ ذو الحجــة ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / أيلول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور غالب الفريجات نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة