شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ تفتح الوعي السياسي العربي الحديث، وأعين العرب شاخصة إلى مصر، كي تلعب دورها في لملمة الوضع العربي الذي تشظى في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. فمصر بالنسبة للأمة هي في موقع القلب من الجسم، وهي بتاريخها وثقلها البشري وموقعها الاستراتيجي كانت دائماً مؤهلة لدور محوري، وهي كانت في المفهوم الشعبي "أم الدنيا"، وهو مفهوم بقي راسخاً ومتداولاً حتى بدا عنواناً تعرف به.

مصر التي كانت حاضنة حضارات قبل رسالات التوحيد السماوية ونقطة تقاطع بين الاستراتيجيات الدولية المتقابلة، نظراً للميزات التي تتوفر لها، هي اليوم غير ما أرَّخت له مرحلة حكم محمد علي، وغير ما انطوى عليه دورها في الحقبة الناصرية، وغير ما كانت فيه ملاذاً لكل دعاة الحرية والتحرر والتحديث في الفكر الديني والسياسي.

مصر اليوم والتي عاشت مناخات انتفاضة شعبية قل نظيرها في الواقع القومي العربي، منطوية ومنكفئة على نفسها بعكس ما هو مؤهل ومطلوب منها.

إن مصر التي لعبت دوراً في تحفيز حركات الاستقلال الوطني العربية والتي لعبت دوراً بارزاً في عملية الاستنهاض القومي بعد ثورة 23 يوليو / 1952، وأعادت الاعتبار لنفسها ولأمتها من خلال دورها الذي خرجت به إلى خارج حدودها، فلأنها خرجت بخطابها السياسي القومي إلى فلسطين والى الجزائر والى اليمن والى سوريا والعراق وكل ساحة عربية كانت تنوء تحت وطأة استعمار، أو وطأة نظام سياسي مرتهن للخارج الدولي. وبخروجها إلى الساحة القومية، فرضت نفسها موقعاً أساسياً في تأسيس منظومة دولية خارج الثنائية الاستقطابية: فكانت واحدة من الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز، ووقفت في صف الكبار / الهند وأندونسيا، ويوغسلافيا ومؤتمر باندونغ خير شاهد على ذلك.

مصر التي كانت زيارتها حلماً لدى المواطن العربي، وكانت حلماً لقوى التحرر والثورة العربية انطلاقاً من إمكاناتها لتكون رافعة وحاضنة لعمل قومي عربي تحرري، هي اليوم في الاتجاه المعاكس، وهذا جاء نتيجة للتراجع الانحداري في مسيرتها السياسية منذ تم احتواء نظامها السياسي وفق مقتضيات اتفاقيات كمب دافيد، والذي بالاستناد إليه، أعادت تموضعها السياسي في موقع نقيض للطموح العربي في توقه نحو التحرر والتقدم والوحدة.

لقد بررت المنظومة السياسية التي أمسكت بزمام الأمور بعد حرب 1973، بأن إعادت التموضع السياسي تحت مظلة الخيمة الأميركية، لكون أميركا باتت تملك 99% من أوراق التأثير في تحديد اتجاهات المسارات السياسية في النظام الدولي.

ولعل أبرز تجليات إعادة التموضع هذه، هو في الدور الذي لعبه النظام الحاكم يوم انفجر الوضع بسبب تداعيات الأزمة مع الكويت.

لكن رغم انكفائية الدور المصري، وإعادة تموضع النظام السياسي بعكس ما كان قائماً إبان الحقبة الناصرية، فإن الأمة لم تكن تعيش تحت وطأة هذه الانكفائية القاتلة لأن ثمة مواقع أخرى كانت تملأ بعضاً من الفراغ على الساحة القومية عبر الدور الذي كان يؤديه العراق، بعدما تحول إلى المرجعية القومية في مواجهة المشاريع المعادية التي تستهدف الأمن القومي.

بعد احتلال العراق، سقط آخر مواقع الامتلاء العربي وباتت الساحة العربية تعيش تحت وطأة الفراغ، الذي أفسح المجال أمام تمادي الأدوار الدولية وتقدم دول إقليمية لملء هذا الفراغ لبواعث بعضها مرتبط باستراتيجية قديمة – جديدة ضد العرب والعروبة، ونموذجه المشروع الإيراني الذي يستبطن عدائية قومية فارسية شوفينية ضد القومية العربية، كما نموذجه سيلان اللعاب التركي على استعادة دور فعال في الإقليم وحفظ موقع لنفسه في الترتيبات السياسية لنظام إقليمي جديد يقوم على أنقاض النظام الإقليمي والذي كان النظام العربي هو محوره الأساسي.

لقد تكررت المطالبات السياسية إلى مصر لاستعادة دورها وموقعها، ولكن دون جدوى، وبقيت تلامس القضايا الأساسية، ملامسة خجولة، وكانت ذروة هذه الانكفائية متجلية بالتعامل مع الموضوع الفلسطيني باعتباره قضية أمنية ومعابر، وفي التعامل مع موضوع الاحتلال الأميركي للعراق ومن بعده الاحتلال الإيراني وكأن العراق ليس أرضاً عربية محتلة، ومن ثم التعامل مع الصراع المتفجر في اليمن وانسحابها من التحالف العربي، وكأن الدور الإيراني لا يهدد الأمن القومي العربي. وقس على ذلك، والفاجعة الكبرى كان الموقف المصري في مجلس الأمن، عندما صوت ممثل مصر على قرارين بالإيجاب في سابقة لا مثيل لها في تاريخ الدبلوماسية.

وإذا ما أخذ بعين الاعتبار عدم قدرة مصر في ظل نظامها الحالي على كبح جماح أثيوبيا بالنسبة لسلبيات سد "النهضة" الذي يخفض من كمية مياه النيل المتدفقة إلى مصر، فإن عدم القدرة على لعب دور أساسي في حل الأزمة في ليبيا إلا من خلال ما يضطلع به اللواء حفتر، فإن مصر هي اليوم في أدنى درجات سلم حضورها السياسي.

قد يذهب البعض، إلى النقاش، في أن مصر لا قدرة لها على مقاومة عوامل التأثير الأميركية، وهذا سبب إعادة تموضعها السياسي، ولنسلم جدلاً أن هذا المنطق يتحمل نذراً من الصحة رغم رفضنا لهذا المنطق، وأن يذهب بعض آخر إلى أن أزمة مصر الداخلية / الأمنية والاقتصادية، هي وراء انكفائية دورها، لأنها تعطي أولوية لمعالجة القضايا الداخلية على حساب القضايا الخارجية. ولنسلم جدلاً أيضاً، أن بعض هذه التبريرات تنطوي على نذر من الصحة، علماً أننا نرفض هذا المنطق، لأن هذه الأزمات الداخلية لم تكن يوماً مغيبة، ومع هذا كانت مصر توازن بين ضرورات دورها في الخارج لحاجة الأمن القومية، ووظيفتها الداخلية لحاجة الأمن الوطني.

إن كل ذلك يمكن أن يكون مثار جدال ونقاش من موقع التأييد لهذا المنطق أو الرفض. لكن أن تتوسط إيران لدى أميركا لدعوة مصر إلى اجتماع لوزان للبحث في الأزمة السورية، فهذا ما لا يمكن تصوره، ولا يمكن القبول به.

إن مصر التي وقفت ضد حلف بغداد، ورسمت خطوطاً حمراء لدور دول الإقليم في الوطن العربي، باتت اليوم مجرد حالة متلقية، معدومة التأثير، والطامة الكبرى أن تتوسط لها إيران.

فمصر في وضعها الحالي لم تعد تجسد موقعاً ملتحقاً بالخيار الأميركي وحسب، بل باتت تلتحق بالمواقع التي تنفذ الاستراتيجية الأميركية – الصهيونية لخلق واقع تفتيتي جديد وهذا هو الإثم الكبير.

وعليه فإنه عيب على النظام المصري أن يتنكر لتاريخ مصر الوطني، ويكون ملتحقاً بقوى التحالف الصهيو الأميركي، والعيب الأكبر أن يكون ذيلياً في حجز موقع سياسي لمصر عبر البوابة الإيرانية.

إن شعب مصر يرفض هذا الإذلال السياسي، والأمة العربية ترفض هذا الالتحاق، وجماهير الأمة التي تفتح وعيها السياسي على دور نهضوي لمصر ودور تحرري، تأمل بإعادة الاعتبار لهذا الدور وهذا لا تكتسبه بالرضوخ والإذعان والالتحاق والذيلية، بل بإعادة التموضع مجدداً، في قلب المشروع القومي المقاوم للتحالف الصهيو – الأميركي والذي يتولى النظام الإيراني وقوى التكفير السياسي والديني تنفيذه على الأرض.

عيب على النظام المصري أن لا يكون داعية للوحدة، وعيب عليه أن لا يكون داعماً وحاضنة لمقاومة العراق وفلسطين وكل مقاومة عربية ضد الاحتلال ...

عيب على النظام المصري أن يلتحق بأميركا وحلفائها، وعار عليه أن تكون إيران قاطرته السياسية إلى المنتديات الدولية ....

كلمات يجب أن تسمع بداخل مصر وخارجها ..





الثلاثاء ٢٤ محرم ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / تشرين الاول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة