شبكة ذي قار
عـاجـل










أن المصالحة الوطنية بطبيعتها لا تستثنى أحداً من أية فرصة، ولا يستبعد منها أي فرد أو جماعة أو اتجاه سياسي أو تيار فكري أو ديني أو قومي أو مذهبي، مادام المتصالحون غير متورطين في جرائم جنائية أو مالية أو حتى سياسية، بما يجعلها في إمكانيات وسياق المحاسبة وصولا لتطبيق آليات العدالة الانتقالية على الجميع قبل المصالحة وبعدها، بشرط إصلاح المنظومة القضائية التي سادها الكثير من الفساد الإداري والمالي.
أما المصالحة المجتمعية أو الاجتماعية التي تشمل المصالحة بين مجموعة أشخاص أو مجموعات متخاصمة، ومنها المصالحة الأسرية بين أسر متخاصمة، والمصالحة العشائرية بين أفخاذ العشيرة الواحدة أو بين عشيرتين أو أكثر أو المصالحة بين عدد من مكونات المجتمع، وهناك أيضاً ما يسمى المصالحة الدينية والمذهبية وتعني المصالحة بين أديان مختلفة أو بين طوائف ومذاهب متناحرة ضمن الدين الواحد.

هل يحتاج العراقيون إلى مصالحة مجتمعية، كما يفهمها ويرددها رئيس الوزراء حيدر ألعبادي وبقية تجار السياسة في المنطقة الخضراء؟ أم ان هناك حاجة ملحة إلى مصالحة سياسية واجتماعية معا في إطار مصالحة وطنية شاملة، وبمنظور وطني أوسع من حدود الرؤى القاصرة التي لازال يكررها أمثال نوري المالكي، الذي مشى بالضد من ذلك تماماً، وقبلهما أعلن القطيعة مع المصالحة الوطنية بشقيها السياسي والاجتماعي إبراهيم الجعفري في خطابه الشهير في القاهرة في أول ملتقى عراقي عن المصالحة الوطنية بادرت إليه الجامعة العربية ، وتم إفشاله تماماً.

للأسف استهلك مثل هذا الشعار وخطابه إلى حد الابتذال عندما باتت ترفعه جهات عديدة بالحماسة والتبني ألظرفي المشبوه له، أو ترفعه قوى أخرى بالتبعية وبالوكالة أيضا، منها قوى وشخصيات من داخل خنادق السلطة الحاكمة، وأخرى لازالت تلعب في الوقت الضائع خارج العملية السياسية، صارت تتاجر به في مؤتمرات وملتقيات وهي تكرس المزيد من القطيعة والتباعد في الصف الوطني العراقي.

وكي يكون التشخيص للحالة العراقية دقيقا، وبطريقة جراحية جريئة، لا بد من الإقرار ان العراق يتعرض إلى شرخ وطني اجتماعي كبير، يعانيه لأول مرة بهذه الحدة، في ظل وجود الدولة الوطنية منذ استقلال العراق 1921 ، كنتيجة قبلها البريطانيون بعد ثورة العشرين.

لقد تعرض العراق ولأول مرة في تاريخه الحديث إلى حالة تشقق اجتماعي، عملت على تعميقها قوى أجنبية، في صدارتها الولايات المتحدة وإيران، إضافة إلى دول إقليمية مجاورة بنسب متفاوتة.

وفي مقدمتها تتصدر تلك الآلة الدعائية المضخمة حول مظلومية مكون عراقي على يد مكون آخر، سواء طائفيا في صراع أصحاب المذاهب أو قوميا بين ساكنة الإقليم من الكرد شمال العراق مع عرب العراق وتركمانه ، متفرقين هنا وهناك اليوم ، إضافة إلى الجانب القومي والاثني، إلى سنة وشيعة، لتحقيق مآرب ومكاسب سياسية مؤقتة لمصلحة الإقليم الساعي إلى الانفصال وأجندات أصحاب الأقاليم الأخرى الموعودة بالتحقيق والتنفيذ أمريكيا وإقليميا بالظهور، إيذانا بتقسيم العراق، بعد تصفية قضية داعش واستعادة الموصل ومحافظة نينوى وتصفية جيوب داعش في صلاح الدين والانبار نهاية هذا العام 2016 وحتى ربيع 2017 .

على مدى عقود لعبت أدوات الشحن الطائفي المؤتلفة معا من تنسيق أحزاب اسلاموية ومافيات سياسوية وحوزات ومرجعيات، وبتعبئة إعلامية ضخمة مزودة بخدمة ترسانة من الفضائيات والإذاعات والصحف، وتوظيف مليارات الدولارات المنهوبة والمستوردة من النظام الإيراني لتفعل فعلها في تكريس العقل الجمعي الطائفي في مناطق متعددة من محافظات العراق، خلال السنوات التي تلت غزو واحتلال العراق، وبتمكين مقصود من قادة العملية السياسية المضللة التي فتح لها الطريق دستور مشبوه، ليكرس وضعا اجتماعيا وسياسياً عراقيا ممزقا، ومتحاربا، ومتصادما منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً ، خصوصا بعد مؤامرة إدارة بول بريمر وسفراء الولايات المتحدة من إدارة الاحتلال أمثال نيغرونتي وخليل زادة.

وبعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء فسح المجال إلى اجتياح إيراني ونفوذ كاسح لطهران لتكرس وضعا اجتماعيا عراقياً مضطربا، يحتاج إلى مصالحة واعية بعد أن وصل الشرخ الاجتماعي مداه .

هذه الحالة الدعائية المضللة شاركت فيها معظم رموز الحركات الاسلاموية المتحزبة من سنة وشيعة، وفي مقدمتهما حزب الدعوة والحزب الإسلامي في العراق، لتخلق حالة متوترة متصاعدة وصلت إلى ذروتها بعد ظهور داعش لاستغلال التركيز على المحتوى الثقافي والاجتماعي والمذهبي الذي تم زرعه مشوهاً وخبيثاً في عقول ملايين البسطاء والعامة من العراقيين وباستغلال العواطف الدينية الجيَّاشة، وتسريب الأخبار المفبركة، وتشويه مفردات وحالات منتقاة من أحداث التاريخ العراقي القديم والمعاصر بهدف تمزيق وحدة المجتمع العراقي، وتكريس حالة من الانفصال المجتمعي بين مكوناته، نحو خلق مجتمعين منفصلين، يتم تنفيذ ذلك بخطوات ومراحل معدة من الاغتيالات والقتل المستباح إلى التهجير وفرض النزوح ألقسري وصولا إلى استغلال ظهور داعش وتجيش الجموع في إطار الحشد الطائفي المسلح ليشكل قوة مليشياوية باتت تفرض بالقوة عمليات التطهير والديموغرافي والطائفي، تمهيدا للوصول إلى تقسيم العراق مجتمعيا وسياسيا وإداريا تمهيدا لظهور أقاليم يخطط لها الأمريكيون وحلفائهم من وراء الحدود.

ولا يخفى على الجميع ان التعصب المذهبي والطائفي والتجييش القومي والاثني كلها عوامل مدمرة تتكامل وفق سيناريوهات اعتمدها المستعمر الأمريكي الغازي وتبنتها القوى الظلامية التي قفزت إلى السلطة لتحكم باسم الدين والطائفة والادعاء بالتمثيل السياسي لمكونات العراق القومية والاثنية، بدعم من ايران وتشجيع ملموس من بعض دول الجوار الأخرى، حتى بات الخطاب الديني داعياً إلى التكفير والإقصاء والاستبعاد بحق الآخر سياسيا واجتماعيا.

ولهذا فان الداعين إلى المصالحة، عليهم ان لا يتجاهلوا الشق السياسي من المشكلة، إضافة إلى الشق الاجتماعي الناجم عن نشاط سياسي لا زال محموماً تشجعه كل أطراف العملية السياسية وتعبئه على مدار الساعة إعلاميا، ضمن خطاب سياسي محموم ومعبأ بالكيد السياسي والاجتماعي أوصل البلاد إلى حالة التمزق التي يعيشها العراق.

لذلك فان الدعوة للمصالحة الاجتماعية كما يطرحها رموز السلطة الحاكمة في المنطقة الخضراء باتت مشبوهة لأنهم يظنون ان مجرد جمع من شيوخ العشائر والأتباع وعدد من أصحاب الطرابيش والعمائم والصحوات في قاعة فندق جيد التكييف والإطعام سيكون ديكوراً كافيا عن الإعلان لتحقيق مصالحة مجتمعية، يحاولون تعميمها وطرحها وتسويقها على أنها مصالحة وطنية بغياب كلي ومتعمد للحل الأهم والمطلوب، وهو الشق السياسي من المصالحة الوطنية الذي تجاهلته جميع حكومات الاحتلال العراقية المتعاقبة، كما تجاهلته عن عمد كافة القوى السياسية التي انخرطت في العملية السياسية بمختلف مراتبها ووضعها في سلطة القرار ببغداد.

ولو كانت قضية المصالحة في العراق اجتماعية آو مجتمعية ، كما يطرحها قادة حزب الدعوة، وحلفائه لما احتاجوا إلا لخطوات تدخلهم في إطار مصالحتهم الاجتماعية في العراق، بنقل مفهوم العدالة الانتقالية إلى المستوى الاجتماعي والعرفي السائد في المجتمع العراقي، باستغلال بعض من شيوخ العشائر، ومن خلال منظومة القضاء الفاسد حد النخاع في العراق وبتوفير ورشى المال السياسي الفاسد ، وباستخدام الفتاوى والعرف الاجتماعي العشائري في العراق وتجنيد شيوخ العشائر، ومفاهيم الشريعة الإسلامية والأعراف التاريخية العربية، التي تدعو إلى التصالح والتسامح وفق الأعراف العشائرية ، من خلال دفع دية عن كل حالة قتل أو اعتداء على الغير لأسباب عديدة، وفي مواقع وظروف مختلفة، أما من قتل من رجال الجيش والشرطة عن سبق إصرار وترصد، فهؤلاء سيحالون إلى محاكم الدولة وسيجدون عفوا خاصا لهم ، وكل ما دون ذلك يدخل في إطار هذه المصالحة المجتمعية التي تنطبق عليه إجراءات العدالة الانتقالية في تطبيقها الاجتماعي والعرفي.

ولكن هذا الإجراء رغم فائدته النفعية لأصحاب السلطة، سوف لم ولن يحل مشكلة العراق المجتمعية ولا السياسية برمتها؛ كونها قضية أعمق مما يتصورها الحاكمون في المنطقة الخضراء، فقد باتت جريمة الاستحواذ على السلطة والتمسك بها بالتزوير وبحماية ورعاية و نفوذ قوة أجنبية غازية عارا على سلطات المنطقة الخضراء، يضاف لها جرائم يومية تمس فعلا حقوق الإنسان، وحقوق مساواة المواطنة السياسية والاجتماعية لكل العراقيين، إضافة إلى قضايا أخرى باتت شائكة تحتاج إلى حل سياسي شامل، وهي مدركة ان الحل السياسي الضامن للإصلاح واستقرار العراق ويحفظ وحدته سينسف هذه العملية السياسية المشبوهة، ويستدعي تغيير دستورها، ويضع كافة القوى السياسية في العراق على مقاعد الجلوس المتكافئ والمتساوي حول طاولة وطنية مستديرة لمواصلة الحوار وللتوصل إلى المصالحة الوطنية الحقيقية، بشقيها السياسي والاجتماعي، ووفق أجندة يتفق عليها الجميع، تحت ظل حكومة مؤقتة محايدة، تهيأ الأجواء الحقيقية والممكنة لمصالحة وطنية تنهي المأساة الوطنية في العراق.





الثلاثاء ١ صفر ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / تشرين الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة