شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

قال كارل فون كلاوسفتز ( Carl Von Clausewitz ) في معرض حديثه عن العلاقة بين التكتيك والاستراتيجية " إن التكتيك يستخدم لتنظيم عملية قتال الوحدات العسكرية، وأما الأستراتيجية فهي فن القتال الذي يستخدم من أجل الحرب النهائية " ـ التي في ضوئها تظهر اهداف الحرب في نهاية المطاف.

فمن الصعب على الدولة أن تدرك، وهي في خضم أفعال الحرب، أنها ( لم يبق لديها أي خيار ) ، ومن ضمنها قرار التراجع .. وهنا يكمن المأزق - المعضلة ( Dilemma ) .. وعدم الخيار هذا قد لا يعني إنعدام التحالفات .. وخاصة في ما يتعلق بالقرار المتسرع، الذي أخذ مساره نحو التصعيد العسكري الروسي في سوريا ، والذي تشعبت معادلاته من - مساعدة حليف ، إلى دعم قوة على الأرض بسلاح الجو العسكري ، إلى تمكين قواعد في طرطوس وحميميم ، الى معسكرات تدريب ومنتجعات ، إلى إرسال مفرزات سفن حربية دخلت مياه المتوسط ومنها حاملة الطائرات الثقيلة ( الأميرال كوزينتسوف ) ، إلى طرادين أحدهما طراد نووي ، الى سفينتين مضادتين للغواصات - .

والتساؤل ، إلى أين بعد أن طال أمد التدخل العسكري السوري لأكثر من سنة؟ هل هو مأزق يعكس شكل المعضلة، التي أنتجها خيار موسكو الـ ( جيو - سياسي ) في سوريا تحديدًا ؟ ولكن روسيا من المفترض أنها تدرس خياراتها الأستراتيجية ومدى إمكاناتها على التوازن بين قدراتها وأهدافها ، ومن الصعب الأعتقاد بأن الدولة الكبرى أوالعظمى لا تحسب قيمة الهدف على أساس حسابات الربح والخسارة .. ولكن، قد يكون تقدير الموقف قاصرًا في تحديد ما قاله بالضبط المفكر الأستراتيجي " كارل فون كلاوسفتز" بشأن فن الحروب النهائية، التي تختلف تمامًا مع تكتيك تنظيم العمليات القتالية، مخلوطة بالمراوغة والخداع والحرب النفسية .. موسكو مارست مثل هذا التضليل ففقدت صدقيتها ومنطقها السياسي.

تقول الأوساط الروسية، وهي تتحسس الخطر من إستمرار التدخل العسكري الروسي والتصعيد الذي يدفع به القادة العسكريون ورجال الأستخبارات، إن صورة المستنقع تبدو ملامحها واضحة على صفحات الحرب كلما طال أمدها .. وهذا التحسس بات يقترب من آراء المحللين الذين يربطون بين حالة الأستنزاف التي وضعت الجيش السوفياتي في مأزق أرغم موسكو على الأنسحاب، الذي أنتهى بعد ذلك إلى تفكك الأتحاد السوفياتي والمنظومة الأشتراكية وإنهيار حلف وارشو وتهدم جدار برلين ، وبين حالة الأستنزاف التي وضعت الجيش الروسي في مأزق إنعدام خيار القدرة على الأنسحاب، كما أكد ذلك أحد الخبراء الروس، لأعتبارات عديدة منها :

1 - إن نظام دمشق من الضعف بحيث لا يستطيع البقاء من دون الدعم والأسناد الروسي والأيراني .

2 - الشعب العربي السوري يعيش حالتين خطرتين تتمثلان بالمنفى الداخلي والمنفى الخارجي وبالملايين .. ومن هذه الزاوية، يفقد نظام دمشق أحد أهم ركائز الشرعية وهو الشعب .. كما يحصل في العراق .

3 - الحالة التمثيلية لنظام دمشق على المستوى العربي معدومة ، وكذلك على المستوى الأقليمي، أما على المستوى العالمي فالنظام يعيش في عزلة إقليمية وعالمية قاتلة.

4 - يفتقر نظام دمشق للموارد البشرية ( القتالية ) والمالية لتمويل ماكنة إستمرار الحرب وإدارة الأقتصاد، كما يعاني العجز الكامل رغم أن ميزانية العراق، كانت وما زالت، أحد أسباب إستمرار النظام السوري على البقاء في مجال دفع الرواتب وتصريف إحتياجات التدخل المليشياوي العراقي لأغراض الدعم والأسناد .. هذا الواقع المزري يشكل عبئاً ثقيلاً تتكبد نتائجه خزائن موسكو وطهران وبغداد .. فخزينة بغداد مفلسة وخزينة روسيا تعاني من إنفاقات عسكرية متزايدة بملايين الدولارات يوميًا في أوكرانيا وفي سوريا ، أما إيران فمأزقها ( يكسر الظهر ) كما يقال، فهي قد أفرغت خزينة العراق بنفقات حروبها الخارجية ومنها حرب حزب الله اللبناني في سوريا والعراق واليمن والأنفاقات الخاصة بتشكيلات الخلايا النائمة في دول الخليج العربي على وجه الخصوص.

5 - التركة الثقيلة التي يخلفها النظام في دمشق وتراكماتها يوميًا على مستوى الدماء التي تسيل والمدن التي دمرت وتحولت إلى ركام والأسلحة المحرمة دوليًا التي استخدمها النظام كالأسلحة الكيمياوية والفوسفور الأبيض والبراميل المتفجرة على الشعب العربي السوري .. هذه التركة تشكل عبءً مشتركًا تتحمل تبعاته روسيا وإيران ونظام دمشق :

أولاً - هذه الأعتبارات المؤشرة وأخرى غيرها، قد وضعت روسيا في مأزق البقاء أو التراجع .. فأذا استمر التدخل العسكري في سوريا فهو يواجه الأستنزاف ، وإذا تراجعت روسيا عن تدخلها العسكري فستخسر نفوذها وينهار النظام الذي حمته ودعمته .. وما ينطبق على روسيا ينطبق على إيران التي تتدخل وتتمدد بأدوات غيرها ( تُجَمِعْ وتلملم من يواليها طائفيًا من دول أخرى - باكستانيين وأفغانيين وبلوش وآذريين وعراقيين وعرب وأفارقة ، تدربهم وتسلحهم وتدفع بهم إلى بسط نفوذها على وفق ستراتيجيتها - وتتجنب خسائرها البشرية ) ، فأن تراجع نظام طهران إلى داخل الحدود الأيرانية سيسقط النظام ، لأنه نظام بقاؤه يقوم منذ عام 1979 على التدخل والتمدد والتوسع الخارجي .. ومع ذلك فأن الحالة الأيرانية سيف ذو حدين ، كما هي تقريبًا الحالة الروسية، بقاء التمدد إستنزاف والتراجع إنهيار النظام في الداخل ( Dilemma ) يشكل في حقيقته معضلة سياسية .

ثانيًا - المعضلة لا تحل بالحروب الأقليمية، إنما بتشديد الحصار والعقوبات عن طريق قرارات تحكم قبضتها على وفق القرائن والأدلة والوثائق وأحكام المنطق، الذي يعتمد على القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة في مسائل جرائم الحرب أولاً، وخرق السيادة الوطنية ثانيًا، وحقوق الأنسان ثالثًا، والتطهير العرقي والمذهبي رابعًا، وعدم الأيفاء بالألتزامات والتعهدات وتبريرات خرقها خامسًا، ومحاولات الأفلات من العقاب بطريقة التحالفات سادسًا، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت صيغ فاضحة تسمى الأتفاقات الثنائية التي تؤدي إلى التدخل العسكري وإرتكاب المجازر وجرائم الحرب سابعًا .. إلخ .

ثالثًا - الحرب التي تشنها موسكو في سوريا .. والحرب التي تشنها أمريكا في العراق، هدفهما المشترك هو ( محاربة الأرهاب ) .. وعلى هذا الأساس فأن العاصمتين موسكو وواشنطن متفقتان على هذا الهدف، رغم علم موسكو أن السياسة الأستراتيجية لمحاربة الأرهاب هي صناعة أمريكية في بعض أوجهها وصناعة إيرانية بوجه آخر.

نعود إلى موضوعة ( الجغرافية - السياسية ) كمحرك للصراع ، ونقف عند ما قاله " فيرناند برودويل" ( Fernand Braudel ) في كتابه تاريخ الحضارات والدور الأساس للجغرافيا في تشكيلها ( إن الخرائط، هي التي تروي القصة الجغرافية ، وإن الركن الأساس الذي يستند إليه هو الأدراك ( المكاني - الزماني ) الذي يتم تطوره على نحو منسجم مع الوعي بالوجود، الذي يشكل بدوره الأدراك الذاتي لدى الحضارات ) و ( إن الجغرافيا حقيقة موضوعية، أما الخرائط فهي الشكل المادي الذي يجسد هذه الحقيقة عن طريق فهم حضاري ذاتي ) .

ولكن رغم وجود المحددات، فأن الدول العظمى والكبرى، وكذلك بعض القوى الأقليمية تتخذ من الجغرافيا - السياسية قوة لها وفق حجم النفوذ، الذي تفرضه في محيطها القريب أو البعيد في شكل جيو - سياسة برية وبحرية وجوية، وهي دائمًا تطرح جملة من التساؤلات مثل .. .ما المناطق التي ستحقق لها تفوقًا نسبيًا أكبر في دائرة الصراع ؟ وكيف يمكن بسط النفوذ على المناطق الجديدة بطريقة أكثر نجاحًا ؟ وكيف يمكن الحفاظ على النفوذ في تلك المناطق ؟

وتطلق على ذلك بـ ( المجال الحيوي ) ، كماأستخدمت ألمانيا الهتلرية مفهوم المجال الحيوي لأغراض التوسع العرقي على حساب دول العالم .. الآن ، يتكرر تنفيذ هذا المفهوم من قبل إيران، التي تمارس المفهوم العرقي تحت غطاء الطائفية من أجل التوسع والتمدد.

فأذا كانت الـ ( جيو - سياسة ) ، هي التي دفعت موسكو إلى التدخل العسكري في سوريا – وهي حقيقة موضوعية تتعاطاها بعض الدول، التي ترى في جغرافيتها وما يجاورها من جغرافيات مجالاً حيويًا لحرية حركتها ومن ثم نفوذها ومصالحها – كما هو حال هدف النظم السياسية الروسية منذ عهد القياصرة ، الوصول إلى المياه الدافئة - فهل هناك من خطأ في الحسابات أم توافقات إستراتيجية بين الأطراف الذين يديرون الصراع ؟ .

دعونا نستمع إلى ما قالته صحيفة ( تيزافيسيمايا غازيتا ) ، التي تصدر في موسكو :

1 - إن روسيا تنزلق في حرب الشرق الأوسط .

2 - وإن هذه الحرب ستكون متواصلة ولا أحد يعرف متى ستنتهي.!!

3 - وإن الولايات المتحدة لن تكون بكل الأحوال الخاسره، وإنها حققت الحد الأدنى من أهدافها بجر روسيا للحرب في المنطقة.

4 - وأصبح من الواضح أن روسيا تتجه للقتال في سوريا بكل جدية لأنه - لم يبق لها أي خيار آخر - .!!

5 - وإن إدارة " أوباما " ، التي تنتظر إنتهاء فترتها، تمكنت أخيرًا من جر موسكو إلى الحرب .

6 - وإن من الصعب على روسيا الخروج من الحرب، التي ستكون طويلة الأمد دون الأضرار بسمعتها ومكانتها، وتكبدها خسائر بشرية ومالية.

7 - وإن الوجود العسكري الروسي في سوريا، هو للحفاظ على الوضع الراهن ، وهذا الوضع سيجعل الحرب مستمرة ولا نهاية لها .

8 - كما أن الحرب التي تشنها روسيا في سوريا قد ألحقت ضررًا بالعلاقات الروسية - العربية ، وعكرت العلاقات الروسية - الأمريكية ، وأبقت على عقوبات الغرب ، وجعلت روسيا معرضة لأعمال إنتقامية .!!

هذا ما قالته الصحيفة الروسية .. وأخطر ما فيه هو ( لم يبق لموسكو أي خيار آخر ) .. والأشارة هنا واضحة إلى المأزق - المعضلة، التي وضعت موسكو نفسها فيها على أساس الرؤية الجيو - سياسية في المكان وفي التوقيت غير الموفقين، والتصعيد المشكوك فيه، والنتائج الوخيمة التي لم تصل بعد، إلى نهاياتها .

ولكن موسكو لم تدخل المنطقة إلا بعد أن تلقت الضوء الأخضر من ( إسرائيل ) لأن العمليات العسكرية جارية أساسًا على تخوم جغرافية فلسطين المحتلة ، وتطمينات واشنطن على تقاسم النفوذ - روسيا مجالها سوريا ، وأمريكا مجالها العراق ، والذي يضمن المصالح الأمريكية في العراق إيران، التي هي شريك فعلي في سيناريوهات السياسة والحرب - وإرتياح الكيان الصهيوني بأن سياسة الحرب على الأرهاب تخدم أمنها ومصالحها ومخططاتها في المنطقة، لأن هناك من يعمل على إسقاط من حولها من ( نظم ) سياسية وتدمير من حولها من ( دول ) لأغراض التفتيت والشرذمة إبتداءًا من إسقاط النظام الوطني في العراق وتدمير الدولة العراقية بالأحتلالين الأمريكي والأيراني ، وإنتهاءًا بإسقاط النظم السياسية العربية المبرمج ، وتدمير الدول العربية تحت خيمة الربيع العربي .!!

كما أن موسكو لا ينقصها تقديم المبررات والحجج إذا ما أرادت التراجع والأنسحاب من الحرب، كما فعلتها سابقًا حين خففت من وجودها العسكري في سوريا ثم زادته أضعافًا .. ومع كل هذا يظل عامل ( الأستنزاف ) يأكل من جرف موسكو ومن معها ، وخاصة إذا ما تلازم الأستنزاف مع الزمن وإطالة أمد الحرب دون حلول .. فالتدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان كيف حصل وكيف أسفرت عنه النتائج الكارثية التي حلت بكيان ، ليس الدولة السوفياتية فحسب، إنما بالمعسكر الأشتراكي وهياكل نظمه السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية .. وما سيحل بجيش موسكو في سوريا سيحل بمليشيات الطائفيين الأيرانيين في سوريا والعراق وباقي أقطار الأمة التي أصابها الجرب الفارسي .. فلولا الغطاء الجوي الروسي والأمريكي لما تجاسر الفرس إلى هذا الحد من الصفاقة والأستهتار بكل القيم والنواميس الوضعية والسماوية .!!





الاثنين ٧ صفر ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٧ / تشرين الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة