شبكة ذي قار
عـاجـل










في خطاب تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، بعدد كلماته الألف، تناول دونالد ترامب مسألتين أساسيتين، وهما :

- تحديد سياسة إدارته الداخلية : أغدق الرئيس ترامب الوعود على الشعب الأميركي بما يقارب التسعماية كلمة، تناول فيها شتى الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

- تحديد سياسة إدارته الخارجية : بما يقارب المائة كلمة، انتقد ترامب سياسة الإدارات الأميركية السابقة، وأشار فيها إلى انعكاساتها السلبية على الداخل الأميركي من جهة، وعلى الإضرار بالعلاقات الخارجية لأميركا مع دول العالم من جهة أخرى. ومن بعدها رسم سياسة أميركا الخارجية البديلة، بالطريقة التي يحسب فيها أنها ستصلح ما أفسدته الإدارات السابقة.

كان الخطاب كما يبدو مركزاً بشكل أساسي على الوضع الأميركي الداخلي، وبعبارات يستثير فيها عواطف الأميركيين ويحضِّهم على التمسك بوطنيتهم، حيث أعلن أن ( أميركا أولاً ) .

وإن تركيز ترامب على هذا الجانب يشكل أساساً متعقلاً لأي مسؤول يتولى شؤون بلاده. ولكن ما جاء في خطابه يختلف عن السياسات التي مارستها الطبقات الحاكمة سابقاً في أنها كدَّست ثرواتها بمعزل عن التفكير بهموم الأميركيين، لا بل اعتبر ترامب أن تلك الطبقات أنفقت مداخيل الطبقات الأميركية المتوسطة والفقيرة في حروب الخارج من أجل مضاعفة مداخيلها. أي بمعنى أنها أنفقت المليارات، حسب تعبيره، لحماية مصالح الدول الأخرى وأمنها، من دون الاهتمام بحماية حدود أميركا وأمنها.

ولأن الجانب الداخلي هو شأن أميركي صرف، نرى أنه من غير المفيد الاسترسال بتحليله. وأما السبب فعائد إلى أننا نحترم حقوق الدول في رسم سياساتها الداخلية وحقها في تقرير مصيرها، لكن على ألاَّ تكون على حساب مصالح الدول الأخرى. ولذلك سنولي الاهتمام بما جاء في خطاب ترامب حول سياسة أميركا الخارجية، التي على الرغم من شدة الإيجاز فيها، فإنها تحمل عناوين رئيسة تستدعي الوقوف عندها.

سياسة أميركا الخارجية حسب خطاب الرئيس ترامب :
إذا قرأنا ما جاء في خطابه عن السياسة الخارجية، نجد أنه وضعها في فقرتين موجزتين، وهما :

- الأولى : وفيها وجَّه النقد إلى السياسة الخارجية للإدارات السابقة.

- الثانية : وفيها حدد مبادئ رؤيته للبديل الذي يصب في مصلحة العالم ومصلحة أميركا معاً.

حول الفقرة الأولى، أو الجانب النقدي لسياسات الإدارات السابقة، فقد جاء ما يلي: ( لعدة عقود، أثرينا الصناعة الأجنبية على حساب الصناعة الأمريكية. دعمنا جيوش بلدان أخرى في وقت تضاءل جيشنا للغاية بشكل محزن. دافعنا عن حدود البلاد الأخرى بينما رفضنا الدفاع عن أنفسنا. أنفقنا تريليونات من الدولارات في الخارج في حين تردت حال البنية التحتية في أميركا التي هي في حالة سيئة ومضمحلة ) .

من قراءة هذه الفقرة يُخيَّل إلينا أنها جاءت في خطابه وكأنه يرفض تحويل أميركا إلى إمبراطورية تمد أذرعها بشكل لافت خارج حدودها الوطنية طمعاً بالاستيلاء على أرضها وقرارها السياسي. ومن المعروف أن الاستراتيجيات الإمبرطورية تحتاج إلى صرف القليل من أجل الحصول على الكثير، ولكن الإدارات السابقة قد أنفقت الكثير ولم تحصل حتى على القليل. وكأنه بذلك يندد باستراتيجية جورج بوش الإبن الذي استخدم سياسة الصدمة والترويع وأنفق تريليونات المليارات في عدوانه على أفغانستان وعلى العراق. كما يندِّد بسياسة القفازات الحريرية التي استخدمها أوباما ولو أنها لم تصرف الكثير إلاَّ أنها لم تنجز حتى القليل أيضاً، لا بل خلقت عداوات جديدة لأميركا، وبها خسرت الكثير. ولأن ما أنفقته تلك الإدارات كان على حساب أميركا والمواطن الأميركي، اعتبرها سياسات خاطئة، وعد بأنه سيقوم بتصحيحها.

وأما عن الفقرة الثانية، والتي تتعلق برؤيته الجديدة في تحديد السياسة الأميركية. وجاء في هذه الفقرة بالنص الحرفي ما يلي: ( سنسعى للصداقة وحسن النية مع دول العالم. ولكننا نفعل ذلك مع الإدراك بأن من حق كل الدول أن تضع مصالحها الخاصة أولاً. نحن لا نسعى لفرض أسلوبنا في الحياة على أي شخص، ولكن بدلاً من ذلك سنتألق كمثال يُحتذى به للجميع. وسنعزز تحالفاتنا القديمة ونشكل أخرى جديدة، وسنوّحد العالم المتحضر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف، الذي سنزيله من على وجه الأرض ) .
من قراءة مظاهر الفقرة لا يمكننا إلاَّ أن نصفها بأنها تنادي بمبادئ إنسانية على دول العالم أن تعمل من أجل تطبيقها، خاصة تأكيده على أن أميركا بتطبيق تلك المبادئ ستكون المثال الذي ( يُحتذى به للجميع ) . وفي مبادئه المعلنة في خطابه، كأنه جاء ليعيد إحياء ذكرى المبادئ الأربعة عشرة التي أعلنها سلفه تيودور ولسن، الرئيس الأميركي، في منتصف العشرية الأولى من القرن الماضي. وكان من أهم تلك المبادئ : ( الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها ) .

تلخِّص الفقرة الثانية من خطاب الرئيس ترامب استراتيجية أميركا بالمبادئ التالية :

1- حق الدول في وضع مصالحها الخاصة أولاً. وهذا يعيد التأكيد على مبدأ ولسن في حق الشعوب في تقرير مصيرها. وكنا نتمنى التأكيد على أن لا يكون حق الدول في وضع مصالحها أولاً، على أن لا يكون هذا الحق على حساب مصالح الدول الأخرى.

2- ستكون أميركا المثال الذي يُحتذى في الامتناع عن فرض أسلوب أميركا في الحياة على الآخرين، وهذا يعني إلغاء تاماً لمبدأ صراع الحضارات الذي أعلنته إدارات اليمين الأميركي المتطرف بإخضاع العالم لمبادئ الحرية والديموقراطية الأميركية، وهذا ما اشتُهر بمقولة ( نهاية التاريخ ) التي أطلقها المفكر الأميركي فوكوياما.

3- تقليص عدد العداوات وتوسيع رقعة الصداقات. وفيها إشارة واضحة لأخطاء خاصة لأخطاء إدارة الرئيس أوباما الذي وسَّع رقعة الأعداء، وضيَّق رقعة الأصدقاء.

4- توحيد العالم لمحاربة الإرهاب. وإذا كان هذا المبدأ يعني كل دول العالم، ولأنه حصر الإرهاب في ( الإرهاب الإسلامي المتطرف ) ، فهو يغض الطرف عن الإرهاب الصهيوني، والفارسي، وحتى الأميركي استناداً إلى ما ذكرته صحيفتا التايمز البريطانية وبيلد الألمانية، في 16/ 1/ 2017، وفيها دان الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، قرار غزو العراق في عام 2003، وجاء في إدانته ما يلي: ( كان واحداً من أسوأ القرارات، وربما أسوأ قرار اتخذ في تاريخ بلادنا على الاطلاق ) .

في نتائج القراءة :
ليس وعود أي مسؤول أميركي صادقة :
ولأننا لا نثق بوعود الرؤساء الأميركيين على قاعدة ( أن من يتَّخذ القرار ليس الرؤساء، بل الحكومة الأميركية الخفية ) ، فمن المتعارف عليه أن الرؤساء الأميركيين يعدون بما لا يستطيعون تنفيذه، ويعلنون ما لا يبطنون، والسبب أن الحكومة الخفية هي التي تتخذ القرار وتلزم الرؤساء بتنفيذ استراتيجيتها الثابتة. وإن كان هذا هو واقع الحال في أميركا، لكننا على ضوء ما ارتكبته الإدارات السابقة من أخطاء أشار إليها الرئيس ترامب في خطاب تنصيبه، والتي دفعت فيها أميركا شتى أنواع الخسائر وأفدحها، والتي لايمكن تعويضها إلاَّ بتصحيح تلك الأخطاء فالاستمرار فيها يعني دفع المزيد من الخسائر. وهذا ما يدفعنا إلى عدم إقفال الباب أمام كل الاحتمالات ومنها إمكانية تغيير في السياسة الخارجية الأميركية، لتصحيح الأخطاء في التطبيق التي وقعت فيها الإدارات السابقة، وهذا الاحتمال لا يمكن حتى للحكومة الخفية أن تتجاهله. وكان من أكثر الأخطاء لفتاً للنظر والأكثر إيذاءً للمصالح الأميركية هو تمادي الإدارات السابقة في التدخل الخارجي الذي كلَّف المواطن الأميركي، كما جاء في خطاب ترامب، إنفاق تريليونات الدولارات من دون جدوى واحتلال العراق هو المثال الأبرز في الإنفاق. وهنا لا ننسى أن أميركا خسرت أيضاً صداقاتها القديمة جراء أخطاء سياستها الخارجية، ومن أهمها خسارة صداقتها مع السعودية وتركيا، وكسبت عداواتها نتيجة التمادي في علاقاتها الودية مع إيران. هذا ناهيك عن وضعها في أتون صراع ساخن مع الدول الكبرى، وفي طليعتها الصراع مع روسيا. وبالإضافة إلى ذلك، هناك الكثير من الأمثلة التي على إدارة ترامب أن تقوم بتصحيهها من أجل تقليص الخسائر المادية والسياسية وتصفيرها، والحصول على أرباح مجزية كما تنص على ذلك استراتيجيتها الثابتة.

ختام القول، نرى أن المراهنة الكلية على متغيرات جذرية في سياسة أميركا هو الوقوع في فخ الاستسلام والانتظار. وعلينا أن نتذكر أن من أوقع أميركا في تلك الخسائر كانت المقاومة الوطنية العراقية وأداؤها العالي في مواجهة الاحتلال الأميركي. وإذا كان لا بُدَّ من انتظار احتمال حصول متغيرات في سياسة الخصم التاريخي فمن الخطأ أن تتوقف عن مقاومتك، لأن المقاومة هي بالأساس أرغمته على قبول مدَّ اليد باتجاه الليونة السياسية. فعلى المقاومة أن تستمر، وعلى الدول الأخرى العربية والإقليمية الممانعة أن لا تسترخي أمام الوعود المعسولة، فعليهم أن يستمروا في الطرق على الحديد وهو ساخن، لأن تركه حتى يبرد يؤدي إلى صعوبة تصنيعه من جديد.





الثلاثاء ٢٦ ربيع الثاني ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / كانون الثاني / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحرر الأسبوعي في طليعة لبنان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة