شبكة ذي قار
عـاجـل










كم لبناني ولبنانية اليوم، دون الأربعين ربيعاً، يعرفان شيئاً عن صحف لبنانية ذات ماضٍ وتاريخ عريق مثل "بيروت" و"المحرر" و"الأحرار" و"لسان الحال" و"الشعب" إلى غيرها من قائمة طويلة تضم العشرات من المطبوعات اللبنانية، التي كانت ولعقود طويلة من السنين بعد الاستقلال، تصدر بشكل دوري، يومياً كان أم أسبوعي، ثم اضطرت إلى التوقف عن الصدور تحت ضغط ظروف شتى، لا تشكل الحرب الأهلية اللبنانية، سوى الجزء اليسير منها لتتوزع الأسباب الأساسية لناحية أمرين اثنين وهما:

1- التضييق السياسي ولاحقاً الأمني، وممارسة الضغوط على عدد من هذه المطبوعات بهدف إسكاتها، أو الحد من التعبير عن مواقفها الحرة المستقلة التي يكفلها الدستور اللبناني من جهة، وتقاليد الإعلام "الليبرالي" التي كانت سائدة في هذا البلد، يتباهى بها أمام كل صحافة العالم ودولها الشقيقة منها والصديقة في آن، من جهة أخرى.

2- الشح المالي ونقص الموارد التي تسمح لهذه الصحف بالاستمرار، وهذه المسألة، وأن كانت تعني وقف التمويل الخارجي لها، فإنما لأن القيمين على هذا التمويل لم يجدوا في بعض هذه المطبوعات ضالتهم، الترويجية، فتوقفوا عن دعمها، مستمرين في دعم غيرها من مطبوعات تتوسع وتستمر بفضل هذه الإعانات، الأمر الذي يطرح في نفس الوقت حق تلك التي لم تنل من حظوظ الدعم، ما يبقيها على الاستمرار وأن تأخذ حقها من دولتها والحكومات المتتالية فيها، أقله احترماً لهذه الصحف وتقديراً على مواقف أجبرتها على التوقف عن الصدور مكتفية بذلك دون أن تمد يدها إلى الآخرين فتدفع ثمن ذلك المزيد من التنازلات والمواقف غير المنسجمة من ناشريها والمشرفين عليها.

كم لبناني ولبنانية يعرفان اليوم أن البيان الأول لإعلان العملية الفدائية الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة صدر في إحدى الصحف القومية التي كان يصدرها البعثيون في العاصمة بيروت مع مطلع العام 1965، فيما كانت غيرها من العواصم العربية مُحرجةً ومحتسبة لألف حساب وحساب دون أن تفعل ذلك، فكانت بيروت بحق عاصمة الحرية والتعبير عن الرأي شاء من شاء وأبى من أبى.

كم لبنانية ولبناني يعرفان اليوم، أن العاصمة بيروت كانت الملجأ الأول لكل المضطهدين السياسيين العرب خاصة أولئك الذين لم يروا غير لبنان وجهة لهم، في زمن الانقلابات في خمسينات القرن الماضي، وكان اللبناني يشاهد بأم العين أعداء الأمس من طالبي اللجوء السياسي، وزراء وحكاماً، تغص بهم مقاهي الروشة والحمراء وشوارعها وشققها المفروشة، وسط تسليط الصحافة اللبنانية أعينها وألسنتها على كل ذلك بالمزيد من الإثارة والتشويق وألوان "السبق" الصحافي التي لم تسبقها عليه أية صحافة أخرى.

كم لبناني ولبنانية، يعرفان اليوم أن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ما كان ليبدأ نهاره، قبل قراءة الصحف اللبنانية، على طاولته، وهي الصحف التي كانت تشكل على تنوعها واختلاف وجهات نظرها، المرآة الحقيقية لما يجري في الوطن العربي، كل صحيفة تعبر عن وجهة نظرها التي تتطابق مع هذا النظام العربي أو ذاك دون حرج لما يربط أصحابها بحكام هذه الأنظمة من وشائح، سبق للرئيس الراحل شارل حلو أن عبر عنها بطرافه وبنقد سياسي غير خفي عندما استقبل يوماً رؤساء الصحف اللبنانية مرحباً بهم بالقول:

أهلاً بكم في بلدكم الثاني لبنان.

وحتى في عز أيام الوحدة المصرية – السورية في العام 1958 وما تلاه من أعوام، وعلى الرغم من قوة وتنامي نظام الوحدة آنذاك داخل الساحة اللبنانية، وظهور العديد من الصحف والمطبوعات المؤيدة لذك،

لم يمنع هذا الوضع استمرار صحف معارضة للوحدة تنتقد وتهاجم وتتعرض للهجوم الإعلامي المضاد والعنف اللفظي الكلامي، فكانت "الناصرية" صحفها، ولـ "البعث" مطبوعاته ولـ حلف بغداد مؤيديه وللرجعية العربية أبواقها، لكل منها إعلامه غير المهادن أو المنبطح أمام الآخر، واستمرت كذلك حتى عندما خرق هذا الواقع حدثان أمنيان كبيران تمثل أحدهما باغتيال الصحافي نسيب المتني صاحب جريدة التلغراف والآخر عندما اغتيل الصحافي كامل مروه صاحب "الحياة".

وفي ذروة الحرب اللبنانية عامي 1975-1976، لم تمنع الانتماءات السياسية للمطبوعات الصحافية من أن تتضامن مع بعضها البعض لدى كل تهديد أمني أو مادي، فترى على سبيل المثال صحيفة "بيروت" تفتح مطابعها لغيرها من الصحف حرصاً عليها من التوقف عن الصدور أو التأخر عنه،

غير أن هذه المبادرات لم تشفع لـ "بيروت" أن تكون أولى أهداف قوات الردع العربية بتشكيلاتها الإقليمية المعروفة، الدخول إلى مقر الجريدة واعتقال محرريها ونهب محتوياتها ومصادرة مطابعها، وسط صمت الجميع من الصحف الزميلة إلا ما ندر، كما أن اختطاف الصحافي اللبناني صاحب مجلة الحوادث سليم اللوزي شكل وصمة عار صارخة بحق الأجهزة الأمنية والطبقة السياسية مجتمعة خاصة أن كل من شارك في الخطف والقتل والتمثيل بالجثة كان معروفاً وعلى رأس السطح.

وما تعرضت له جريدة "بيروت" حصل لجريدة "المحرر" التي أُوقفت عن الصدور إلى يومنا هذا، وبدأنا نعيش أزمة الصحافة المهاجرة، وبروز صحافة أخرى تنمو وتتوسع على حساب تغييب زميلاتها اللواتي قبلت التعايش مع قوى الأمر الواقع وتناست أن تمددها إنما كان على حساب تغيب غيرها، واستمرأت هذه الحال، ولم تدفعها المناقبية الصحافية حتى نحو إثارة قضايا غيرها المستباحة، أقله التزاماً بأدنى مقومات حرية التعبير التي بدأت تتلاشى لمصلحة الرأي الواحد والموقف الواحد، وأن تعددت الوان هذا الراي وذاك الموقف بتلاوين مذهبية وطائفية لم تخرج جميعها عن السياق العام لما يتطلبه الرقيب السياسي والأمني بالترافق مع تأمين الجهات المالية الجاهزة لتمويل هذه الصحيفة وتلك طالما أن الإيقاع لم يتعدّ حدود الوصاية الرابضة على الحياة السياسية الداخلية، مع السماح لمطبوعات بعينها على استمرار إرضاعها المالي الخارجي وجلّه من المال الخليجي بغية الاستمرار والتنامي أيضاً طالما أن هذا الخارج يشكل المظلة السياسية الواقية للوصاية على الداخل.

إن كل ما تقدم من معطيات ووقائع مضى عليها ما يزيد عن الأربعين عاماً حتى الآن،
لم يسبق لمن يتباكون على الصحافة اللبنانية اليوم، الإضاءة عليها ولو من باب تسمية الأشياء بأسمائها، سيما وأن الإعلام اللبناني تراه اليوم يندب ما تتعرض له الصحافة اللبنانية من تهديد بالتوقف عن الصدور، كانت باكورتها في إغلاق إحدى الصحف المعروفة منذ أشهر، وإقدام أخرى على صرف كتابها ومحرريها وموظفيها بالجملة، مكتفية بالقليل تحت ذريعة "تدوير" أزمتها المالية شأنها شأن غيرها التي تترنح باحثة عن ممولين صار البحث عنهم هذه الأيام شبيهاً بالبحث عن الأبرة تحت أكوام القش، لانحدار تعبر عن قباحته وتفصح عن جوهر الأزمة الحقيقية التي تعاني مها الصحافة اللبنانية عندما يأتيك الجواب: أن الدول النفطية غير قادرة على أي تمويل إعلامي بسبب انخفاض سعر البترول العالمي وكأن هذه الأزمة تقف عند هذا الحد ولا مجال بعدها من اجتهاد آخر.

هذا الاجتهاد الآخر، تسنى التطرق إليه على ما يبدو من قبل الوزير الجديد للإعلام في الحكومة اللبنانية الحالية محاولاً أن يلامس الأزمة المستعصية التي تمر بها الصحافة المكتوبة اللبنانية عبر جملة من الأفكار التي من شأنها توفير الحد الأدنى من الالتزام المالي المطلوب توفره بغية تجنيبها كأس الإغلاق وتشريد محرريها وموظفيها.

ومع أهمية ما تقدم فإن الوزير المعني مطالب بما هو أكثر، وهو الملتزم الذي يمثل في الحكومة تياراً سياسياً يشارك في "كعكة" الحكم بعد سنوات من الاضطهاد الأمني والسياسي ويدرك جيداً كم تعرضت وسائله الإعلامية إلى المصادرة ووضع اليد الأمنية عليها وبعضها ما زال يصارع لاستعادة ملكيتها في المحاكم ولذلك فهو أي الوزير ومن يمثل، يدركان أكثر من غيرهما مقدار الضرر والأذى اللاحق بقوى وأحزاب وتنظيمات منعت من العمل السياسي لعقود من السنين وطُوقت إعلامياً وجرى عليها الحظر ولم يزل بشكل أو بآخر، بعدما نال الإعلام في لبنان بدوره ما ناله الانقسام العامودي السياسي المشطور بين 14 و8 آذار وصار كل من لا يلتحق بهذين الشطرين بمثابة المستبعد والمحظور والملغى وكأن كل طرف ممن تقاسم اللعبة السياسية الآذارية قد أصبح بحاجة موضوعية لوجود الآخر، يمعن كل منهما في تعميق الخنادق المتبادلة التي يراد لها أن تأخذ الطابع الطائفي والمذهبي وللأسف،

من هنا، فليدلنا أحدهم عن سر ديمومة أية صحيفة بارزة، توزيعاً وتمويلاً، دون أن يكون من يرعى سقفها من هذه القوى وامتداداً الجهات والنظم الإقليمية التي تقف وراءها وتدعمها.

وإن أولى متطلبات معالجة الأزمة الصحافية الورقية في لبنان، تكمن في إعادة الاعتبار لحرية التعبير وعدم مصادرتها، وليطلق بعدها سراح عشرات الصحف والمجلات والمطبوعات اللبنانية المتوقفة عن الصدور لسنوات وسنوات،

وكما أن الحكومة البريطانية التي تفتخر منذ ما يقارب الثلاثة أرباع من القرن، بإذاعتها الناطقة عن هيئة الإذاعة البريطانية وموضوعيتها فتوفر لها الدعم المالي المستمر طوال تلك السنين دون اللجوء حتى إلى المعلن.

وتفرض مقابل ذلك ضريبة خاصة على البريطانيين ليكون لهم إعلامهم المستقل عن أي تدخل خارجي، مالي وغير مالي.

فلماذا لا يضع الوزير الجديد بعضاً من هذه التجارب ويتوسع بالاطلاع على أحدثها وأكثرها مواءمة بين مصلحة الناشر والمزاج السياسي للقارئ فيسعى لمزج هذه "الخلطة" عبر تشريعات تسمح بقبول التبرعات المالية أو اقتطاع نسبة ما من الضرائب العامة لمصلحة الحفاظ على المؤسسات الإعلامية اللبنانية وتقديم أدنى متطلبات الدعم لها، حفاظاً على استمراريتها وتحقيق الأمن الاجتماعي للعاملين بها، والاستعانة بما تملكه شركات الإعلان من خبرات حول ذلك بعد دراسة سوق الصحافة الورقية وعديد من يقرأ الصحيفة اليومية مع قهوة الصباح.

وللعمري، لو توفرت صحافة حرة مستقلة تشفي غليل القارئ مما يريده من معرفة وحقيقة،
لتغير وضع هذه الصحافة إلى الأفضل،
ولأيقن الجميع أن الأزمة رغم أن في بعض ظواهرها، المال،
فإن منشؤها هو غير مالي وإنما يعود إلى الكلمة، والكلمة وحسب،
هذه الكلمة التي اغتصبت حريتها في لبنان ولم تزل.





الاربعاء ١٨ جمادي الاولى ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٥ / شبــاط / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة