شبكة ذي قار
عـاجـل










بعد صلاة الفجر يقترب الجيش الرومي من الجيش الإسلامي ويبدأ الاستعداد للقتال في اليوم الثاني 5 من رجب سنة 15هـ, وكان هذا اليوم صحوًا ليس فيه مطر؛ فعَلِمَ المسلمون أن القتال سيدور في هذا اليوم، وأتى الروم في جموع كالسَّيْل والليل كما يقول الرواة، وهذا تشبيه صائب ودقيق؛ لأننا ذكرنا أن الجيش الرومي اصطف في أرض مساحتها حوالى 10 كيلومترات، وقد صفَّه قادته صفوفًا؛ فصفوف المشاة عشرون، وعددهم كان 120 ألف جنديٍّ من المشاة، إذًا عرض الجيش الرومي 6000 فرد في عشرين في العمق, ولو حسبنا أن لكل واحد من الجنود مترًا ونصفا يتحرك فيه فمعنى ذلك أن عرض الجيش الرومي 9 كيلومترات، أي 9000 متر؛ فأقبلوا على المسلمين كالسيل لا يُرَى أوله من آخره، وفرسان الروم كانوا 80 ألف فارس، هذا في أصح الروايات، ولكن بعض الروايات تذكر أن الجيش الرومى كان 240 ألف وليس 200 ألف فقط، وروايات أخرى تذكر أنهم 400 ألف, وهذه الروايات جاءت على لسان باهان قائد الروم نفسه عندما كان يخاطب جيشه فيقول لهم: أنتم 400 ألف, أنتم عشرة أضعافهم، ويبدو والله أعلم أنه كان يحمِّس جيشه، ولكن الصحيح والله أعلم أن عدد الجيش الرومي كان 200 ألف مقاتل: 80 ألف فارس و120 ألفًا من المشاة؛ منهم 30 ألف جنديٍّ من المشاة مسلسلين في القيود: كل عشرة في قيد وذلك ليمنعوا هروبهم وفرارهم من المعركة، ويبدو أن هؤلاء الـ 30 ألفًا هم من جُمِعُوا بالقوة والإجبار والإكراه وليسوا ممن تطوع لمحاربة المسلمين فى هذه المعركة. وأقبل الروم ولهم دويٌّ كدوي الرعد وأثاروا غبارًا شديدًا، وجاءوا بأعداد ضخمة رافعين الصلبان وواضعين على مقدمتهم القساوسة والرهبان الذين جعلوا يحمسون الجنود، ويقولون لهم: إن هذه معركة بين الإسلام والمسيحية؛ لِيُلقوا في قلوبهم الحمية لقتال المسلمين، وهم يعلمون أن هؤلاء الرهبان ذاتهم قد فرُّوا من المسلمين من قبل في كثير من المواقع وليس في موقعة واحدة، ويتقدم الجيش الرومي ناحية الجيش المسلم في وقع يهز أشد القلوب جسارة، وأشد النفوس قوة، ولكن يبدو وسبحان الله أن الجيش الإسلامي ليس من البشر، فما حوله لا يهزه ولا يحرِّك له ساكنًا؛ فثبت المسلمون ولم يلتفتوا إلى هذه الأعداد الضخمة الرهيبة القادمة من ناحية الروم بل زادتهم إيمانًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران 173: 175].

غرس الحماسة في قلوب المسلمين :
يسمع خالد بن الوليد وهو على رأس الجيش مقولة من أحد الجنود لم تعجبه (ويبدو أنه كان مضطربًا ولا يعرف كيف يزن الأمور)؛ فقال الجندى: ما أَكثر الرومَ، وما أقلَّ المسلمين! 200 ألف ضد 33 ألف, 1:6 أي لا بد للمسلم أن يهزم ستة من أجل أن يحقق النصر فى المعركة، فغضب خالد غضبًا شديدًا، واحمرَّ وجهه، واهتز وهو يقول له: بل ما أقلَّ الروم، وأكثر المسلمين!! لا يُنصَرُ الناسُ بالعدد، وإنما يُنصَرون بنصر الله I لهم، ويُخذَلون بخذلان الله I لهم، واللهِ لوددتُ أن الأشقرَ بَرَاءٌ (الأشقر هذا هو فرس سيدنا خالد بن الوليد، وهو الذي حارب عليه في كل فتوح العراق، وكان مريضًا فى هذه الموقعة فلم يحارب عليه فيها) وأنهم ضوعفوا في العدد يعني أصبحوا 400 ألف بدلاً من 200 ألف فى سبيل أن يكون الأشقر سليمًا، فهو يَعُدُّ الأشقر بـ 200 ألف رومي أتخوفونني بالروم, وكانوا عنده كالذباب لا يمثلون أي شيء، وأشار سيدنا خالد إلى الدعاة أن انطلقوا وحَمِّسوا الناس؛ لأنه شعر أن بعض الأفراد قد هزتهم هذه الكثرة، فانطلق الدعاة يحمسون الناس ويرغبونهم في الجنة فقام سيدنا أبو عبيدة بن الجراح t وأرضاه أمين هذه الأمة؛ فقال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإنَّ وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، فلا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق أي الدروع والزموا الصمت، إلا من ذكر الله، وسبحان الله كان هذا الصمت له فعل شديد على القلوب الرومية فقد هزهم هذا الصمت، فهذا الجيش يقف ساكنًا لا ينادي بكلمات الجزع، ولا يهرب ولا يفكر في الهرب وهو صامت، وكأن شيئًا لا يعنيه، وكأنهم لا يرون هذه الجموع الرومية كلها إلا كالذباب، كانت هذه خطبة سيدنا أبي عبيدة في اليرموك، وانتقل بها من مكان إلى مكان ينشرها بين الناس، ثم قام سيدنا معاذ بن جبل t وأرضاه أعلم أمة محمد بالحلال والحرام وإمام العلماء يوم القيامة يقول: يا قُرَّاءَ القرآنِ، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى، وأولياء الحق، إنَّ رحمة الله والله لا تُنال، وجنته لا تُدخَل بالأماني، ولا يؤتي اللهُ المغفرةَ، والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله عزَّ وجلَّ، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه وليس فيكم متعزِّز بغير الله، كانت هذه خطبة معاذ بن جبل قالها فى ميمنته ودار بها على الجيش يقولها ويحمس الناس، ثم قام سيدنا عمرو بن العاص؛ فقال: يا أيها الناس، اشرعوا الرماح والزموا مراكزكم ومصافكم, فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فَثِبُوا في وجوههم وُثُوبَ الأسد.. (يعني لا تبدأوا بالهجوم إلا إذا اقتربوا منكم وصاروا قريبين جدًّا من أسنة الرماح) فوالذي يرضَى الصدقَ ويُثيب عليه، ويمقت الكذبَ ويعاقب عليه، ويجازِي بالإحسان، لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا (يعني بلدًا بلدًا) وقصرًا قصرًا، سمع ذلك من رسول الله r، وبشرهم الله I بفتح هذه البلاد في غزوة الأحزاب، والمسلمون محصورون في المدينة، سبحان الله فلا يهولنَّكم جمعُهم ولا عددُهم فإنكم لو صدقتموهم الشدة لتطايروا تطاير أولاد الحجر بعض الطيور الصغيرة عندما تهش تطير أي وهم كذلك يطيرون، ولا يقفوا لكم ولا يثبتوا أمامكم ثم قام القاص (والقاص هو الذي يحمس الناس) وهو سيدنا أبو سفيان صخر بن حرب t فيقول: يا معشر المسلمين لا ينجيكم اللهُ منهم اليوم وتبلغون رضوانه إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا إنها سُنَّةٌ لازمة، سنة لازمة أن يحارب المسلمون الكفار وأن يثبت المسلمون في المواطن المكروهة فيحقق الله I لهم النصر، وإن الأرض وراءكم بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبَرارٍ (بينكم وبين أمير المؤمنين والمدد مسافات بعيدة جدًّا فلا تطمعوا فى مدد) ليس لأحد فيها معقل إلا الصبر، ورجاء ما عند الله فهوخير معوَّل، فيقول: فاحتفظوا بسيوفكم وتقرَّبوا بها إلى خالقكم ولتكن هي الحصون التي تلجأون إليها وبها تمتنعون، الله الله إنكم أنصار الإسلام وهم أنصار الشرك.

عودة إلى اليرموك :
جاءت الجيوش الرومية وعلى مقدمتها جبلة بن الأيهم الغساني، وتقترب من الجيش الإسلامي والمطر لا يتوقف، فتقف الجيوش ساعة منتظرين القتال ولكن الجيش الرومي يفكر في الانسحاب وعدم القتال؛ فيطمئن المسلمون لذلك ولا يبدأون بالقتال حتى ينسحب الجيش الرومي مرة أخرى ويعود إلى معسكره في انتظار توقف المطر.. سيمر هذا اليوم دون قتال، يوم 4 من رجب سنة 15هـ، و هذه الليلة ليلة 5 من رجب سنة 15هـ يقضي كل الجيش الإسلامي النصف الأول من الليل في قيام الليل وسبحان الله في هذا الجو العصيب, وفي هذه الأخطار المحدقة بالمسلمين وفي الترصد من الروم للجيش الإسلامي, وعلى الرغم من ذلك كل الجيش الإسلامي يقف ويصلي قيامًا لله I.. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نفهم ذلك إلا إذا فهمنا أن قيام الليل هذا لبنة من اللبنات المكونة للمجاهد، فتركيب المجاهد تركيب صعب، بناء المجاهد بناء صعب، فليس من السهل أن يصبح المرء مجاهدًا، فقيام الليل لهذا المجاهد لبنة من اللبنات التي تقيم ذلك البناء الصعب، وصلاة الفجر، و قراءة القرآن لبنة من لبنات المجاهد، وحب الخير للناس والسعي لنشر هذا الخير، والجهاد في سبيله لبنة من لبنات المجاهد، وعدم الخوف من أحد غير الله I وعدم الخوف على الرزق وعدم الخوف على الأجل كل هذا لبنة من لبنات المجاهد, وهذه الأمور جميعًا إذا اجتمعت تكوِّن المجاهد، لذلك تستطيع أن تجد فقيهًا ولكنه ليس مجاهدًا وتستطيع أن تجد قارئًا للقرآن ولكنه ليس مجاهدًا، قد تستطيع أن تجد عالمًا أو ناسكًا أو داعيًا لله ولكنه ليس مجاهدًا، ولكن من الصعب أن تجد مجاهدًا في سبيل الله ليس فيه هذه الصفات، فالمجاهد جمع كل هذه الصفات؛ ولذلك جعل الرسول r الجهاد ذروة سنام الإسلام، لأنه جمع كل خصال الخير، فإذا كنت تريد أن تكون مجاهدًا فاعلم أن الطريق طويل وأن البذل كثير وأن الأجر إن شاء الله تعالى على قدر المشقه وعلي قدر الجهد

المصدر :
قصه الاسلام / د. راغب السرجاني 





الاربعاء ٣ جمادي الثانية ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / أذار / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي عبد الله الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة