شبكة ذي قار
عـاجـل










عبقرية القعقاع الحربية
يخرج القعقاع بن عمرو التميمي بحيلة جديدة في هذه الليلة أيضًا، فبعد أن انتهى القتال في منتصف الليل، وانفصلت الجيوش لم ينم سيدنا القعقاع وفرقته مثل بقية الجيش لكي يستريح ويستعد لليوم التالي، ولكنه أخذ يسرب جيشه كله ( الألف مقاتل ) بعيدًا عن الجيش في اتجاه الشام بنحو كيلو أو اثنين، وقال لهم: عندما يأتي اليوم التالي ( وهو اليوم الثالث في القادسية ) تأتون إلى أرض المعركة مائةً مائةً تكبرون، وكأنكم مدد جديد جاء للمسلمين؛ فيزيد ذلك من بأس المسلمين، ويضعف من عزيمة الفرس. وفعل سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أيضًا نفس الفعل، ولا ندري أهو اتفاق بين القعقاع وأخيه عاصم بن عمرو التميمي، أم أن هذه فكرة طرأت للاثنين في ذات الوقت؟! فقد سرَّب فرقته وكانت كلها من الخيول وهو قائدها (وهي أيضًا من قبيلة تميم) في اتجاه آخر غير اتجاه سيدنا القعقاع ناحية الجنوب؛ فأصبح الجيش الإسلامي في اليوم التالي تأتيه فرقة من الشمال من جيش القعقاع بن عمرو التميمي يكبرون على أنهم المدد للمسلمين، وتأتي فرقة أخرى من الجنوب من جيش عاصم بن عمرو التميمي كل مائة يكبرون أيضًا، وكأن المدد يأتي من الشمال والجنوب، والمسلمون لا يعرفون من أين يأتي كل هؤلاء الرجال؟ وكذلك الفرس، وكان لهذا الفعل أثر إيجابي جدًّا على نفسية المسلمين، وسلبي على الفرس.

وفي آخر ألف القعقاع بن عمرو التميمي في ثالث يوم، كانت بداية وصول سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في بقية الآلاف الخمسة، وكان على رأس أول 700 فحكَوْا لسيدنا هاشم حكاية القعقاع؛ ففعل فعله، وقسَّمَ فرقته إلى عشرة أقسام: كل قسم سبعون رجلاً يكبرون: الله أكبر! وكأن المدد لا ينتهي سبحان الله وكان قائد ميمنة سيدنا هاشم بن عتبة سيدنا قيس بن مكشوح وهو ممن دفع رِدَّةَ الأسود العنسي مدعي النبوة في اليمن؛ فقد اشترك في قتله مع فيروز الديلمي، وفعل نفس ما فعل هاشم بن عتبة t، وسيدنا قيس هذا كان قد فقد إحدى عينيه في اليرموك، ولم تمر شهور على هذه المعركة، ومع ذلك جاء ليقاتل في العراق في موقعة القادسية بعين واحدة سبحان الله كما فعل عمرو بن معديكرب t أيضًا، حيث فقد إحدى عينيه في اليرموك وجاء ليقاتل في القادسية تمامًا مثل قيس بن مكشوح رضي الله عنهم جميعًا. وفي هذا اليوم أيضًا يخرج القعقاع بفكرة وابتكار جديدين هذا الرجل لا تنتهي أفكاره وابتكاراته، وبالفعل كان وجوده في الجيش مؤثرًا تأثيرًا شديدًا فمع الفرس أفيال كان لها أثر شديد في القتال في أول يوم، ورغم أنه لم يشاهدها؛ لأنه لم يكن موجودًا في أرض المعركة، إلا أن المسلمين أخبروه بأمرها، وما فعلت بهم؛ فقال: وأنَّى لنا بأفيال؟! ( أي: ونحن نريد أفيالاً ولكن من أين نأتي بها؟ ) فأَتَى t بالجمال، ثم أحضر صوف الخيام، وجعل الجيش كله يصنع منه طيلة الليل لباسًا يغطي الجمال؛ فغطاها كلها ولم يظهر من الجمال إلا العيون فقط، وعلق بها الأجراس، وبعض الأشياء المصنوعة من الحديد (ونحن نعلم أن الجمل في حجمه من حيث الشكل أكبر وأعلى من الفيل)، ثم جعل كل ثلاثة أو أربعة يركبون جملاً ومجموعة من الخيول تحرس الجمال، ثم دخل بها في أول اليوم الثالث من أيام المعركة على الفُرْسِ الذين قد فَرَغُوا من إصلاح توابيتهم، ودخلت أفيال الفرس على فرسان المسلمين، فدخلت الجمال على فرسان الفرس، وعندما شاهدت خيول الفرس هذه الجمال بهذا الشكل والأجراس تصدر أصواتًا شديدة نفرت من هذا المنظر العجيب، أما خيول المسلمين فقد كانت معتادة على ذلك، وكان لذلك أثر شديد في جيش الفرس سبحان الله كما كان للفِيَلَة أَثَرٌ في جيش المسلمين في أول يوم، وكان من أقوى الفيلة في الجيش الفارسي: الفيل الأبيض والفيل الأجرب، وكانت كل الأفيال تتبعهم، وكان الفُرْس قد رَوَّضوا الفِيَلَةَ بحيث يتبعون هذين الفيلين الكبيرين.  وبعد أن بدأت المعركة أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص رسالة إلى من يظن فيه الخير لكي يكفيه أمر هذه الفيلة؛ فبعث برسالتين كانت الرسالة الأولى إلى سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي وعاصم بن عمرو التميمي، وقال لهما فيها: "اكفياني الفيل الأبيض"، والرسالة الثانية إلى سيدنا حمال بن مالك والربيل بن عمرو وقال لهما: "اكفياني الفيل الأجرب"؛ فأخذ القعقاع وعاصم كل واحد منهما فرقة صغيرة من قبيلتهما "قبيلة تميم"، وقبل أن يهجما على الفيل سألا سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يستدعي المسلمين الذين أسلموا من الفرس؛ فاستدعى من أسلم منهم مثل: مسلم والرفيل، فمسلم كما ذكرنا أسلم على يد طليحة بن خويلد الأسدي بعدما أسره، والرفيل أسلم بعدما سمع الرؤيا التي رآها رستم وفيها الرسول  ؛ فاستدعى هؤلاء الفرس، وقال لهم: أين مَقَاتِلُ الفيل؟ أي المناطق التي إذا ضرب فيها يُقتَل، أو على الأقل لا يقاتل؛ فقالوا: إذا أُصِيبَ في عينه ومشفاره ( خرطومه ) فلا فائدة منه.

وعَلِم المسلمون هذه الحقيقة، فتقدم القعقاعُ وأخوه عاصم بفرقتين من اتجاهين مختلفين، وهجما على الفيل، وكان كل تركيز حراس الفيلة أن يحموا التابوت والأحزمة، فتركوا مقدمة الفيل في وجه المسلمين؛ لأنهم لا يتخيلون أن يهجم المسلمون على الفيل نفسه، وحمل كلا البطلين العظيمين رمحًا في يده ونزلا في تناسق عجيب في لحظة واحدة سبحان الله على عيني الفيل، فوضعا رمحًا في عينه اليُمنى، وآخر في عينه اليُسرى؛ فخار الفيل، وجلس وجثا على ركبتيه؛ فنقل سيدنا القعقاع بن عمرو الرمح بيده اليسرى وتلقى السيف بيده اليمنى، وأطاح بخرطوم الفيل؛ فسقط الفيل الأبيض قتيلاً في أرض المعركة في أوائل اليوم الثالث، وكان لذلك أثر شديد على أهل فارس، فالمسلمون يقتلون الأفيال! وهذا أكثر مما توقعوه أو تخيلوه، وفعل حمال بن مالك والربيل بن عمرو بالفيل الأجرب كما فعل سيدنا القعقاع وسيدنا عاصم، ولكنهما اتفقا أن يضرب واحد منهما الخرطوم، بينما يضرب الآخر عينًا من عيني الفيل، ولكنه لم يمت مثلما مات الفيل الأبيض، وكان ذلك خيرًا للمسلمين؛ لأنه عندما أصيب هذه الإصابة القاتلة ترك أرض المعركة، وفَرَّ في اتجاه نهر العتيق هربًا من القتل، وكما نعلم فإن الأفيال كلها كانت تبعًا له، فعندما هرب سارت خلفه في اتجاه نهر العتيق، وعبرت الردم إلى الناحية الأخرى سبحان الله دون أن يشترك المسلمون في قتل أي فيل آخر من الأفيال الإحدى والثلاثين؛ لأنهم تركوا أرض المعركة بتوفيق الله I، وبفضله وبرضاه عن أهل القادسية.

وعد الله ورسوله بفتح فارس:  يقوم قيس بن مكشوح t وهو فاقد إحدى عينيه يقول للمسلمين: "يا معشرَ المسلمين، إنَّ الله قد مَنَّ عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد؛ فأصبحتم بنعمته إخوانًا: دعوتكم واحدة، وأمركم واحد بعد أن كنتم يعدو بعضكم على بعض عَدْوَ الأسد، ويتخطف بعضكم بعضًا تَخَطُّفَ الذئاب؛ فانصروا الله ينصرْكم، وتَنَجَّزُوا من الله فتحَ فارس؛ فإن إخوانكم أهل الشام قد مَنَّ اللهُ عليهم بفتح الشام، وامتلاك القصور الحُمْرِ. فهو يذكرهم أن الرسول كان قد بشرهم من قبلُ بامتلاك القصور الحمر في موقعة الأحزاب وهم يحفرون الخندق، كما بشَّرَهم بفتح فارس والشام واليمن، وهو يقول لهم: إنهم بالفعل قد امتلكوا القصور الحمر التي بشرهم بها رسول الله، ومِنْ ثَمَّ سيمتلكون المدائن، والمدائن بعد القادسية، ولكي يمتلكوها لا بُدَّ من النصر في القادسية، فهو يبشرهم بالنصر، ويثبتهم على ذلك. وفي هذا اليوم كما ذكرنا وصل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بجيشه، وكما فعل القعقاع بن عمرو التميمي يفعل هاشم بن عتبة، فينزل في أرض القتال ويطلب المبارزة، ويبارز من الفرس مَن شاء الله I أن يبارز؛ فيقتل منهم الكثير، ويُثبِّت ذلك المؤمنين، ويفُتَّ من عَضُدِ أهل فارس، وكان القتال في هذا اليوم في منتصف أرض القادسية لا في جهة المسلمين، ولا في جهة الفرس، وكانت أعداد الفرس ضخمة كما ذكرنا من قبل، وكان القتال أيضًا في منتهى الشدة في ذلك اليوم. وفي هذه الأثناء تصل أنباء إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص بوجود مخاضة من مخاضات أهل فارس في يمين القادسية ( مكان تتجمع فيه المياه وكان المسلمون يأمنون هذه الناحية )؛ يستطيع الجيش الفارسي أن يخوض من خلاله، وهكذا حتى أثناء احتدام القتال له عيون يبحثون له عن الأماكن التي يؤمّنون بها جيش المسلمين؛ فعلموا أنه من الممكن إذا عَلِمَ الفرس بها أن يعبروا منها للمسلمين، وحتى هذه اللحظة لم يعلموا بها، فاستدعى سيدنا سعد بن أبي وقاص فرقتين من المسلمين وأَمَّر عليهما اثنين ممن يرى فيهما البأس والشدة، وهما: طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب، وأمرهما بالوقوف على هذا المكان وحراسته، وألا يُحْدِثوا أمرًا إذا لم يعلم الفرس بهذا المكان، وإذا علم الفرس فَقِفُوا لهم في هذا الموقف وقوفَ الرجال؛ وهذه نصيحه سيدنا سعد لهما .





السبت ٢٠ جمادي الثانية ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / أذار / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي عبد الله الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة