شبكة ذي قار
عـاجـل










الجيش الفارسي ينهار :
أصبحت ميسرة الفرس محصورة تمامًا بين قبيلتي قيس وبكر من ناحية، وبين قبيلة تميم من ناحية أخرى، كما كان هناك بعض المستنقعات التي لا تمكّن الجيش الفارسي من الفرار، وتقدمت قبيلة قيس وحاصرت الميسرة تمامًا، وبدأ المسلمون في حصد ميسرة ومؤخرة الجيش الفارسي، وعلى الناحية الأخرى كان الجالينوس والهرمزان يقفان قريبًا من الردم، حيث كانت مقدمة الفرس وميمنتهم قريبة من الردم وهو على نهر العتيق، وبدأ المسلمون يبيدون ميسرة الفرس، في حين يدعو الجالينوس جيشه للهرب من المنطقة، وكان يريد الفرار بالجيش من أرض المعركة.

وبدأ الجالينوس والهرمزان يقودان عملية الانسحاب للجيش الفارسي، فعبر الجالينوس الرَّدْم، وبدأ الانسحاب في اتجاه الشمال وتبعه الهرمزان بعد ذلك، وبذلك تكون منطقة الميسرة والمؤخرة للجيش الفارسي قد حصدت تقريبًا، وقتل معظمهم، ومن فرَّ من الجيش الفارسي قذف بنفسه في نهر العتيق، وسبح إلى الناحية الأخرى حتى يهرب من سيوف المسلمين، وقتل في هذا اليوم من الفرس ثلاثون ألف قتيل، وكان هذا قبل أذان الظهر في يوم 16 من شعبان سنة 15هـ، وبدأ الفُرْسُ يُسْلِمون أَنفُسَهم للمسلمين، ووقعت الذلة والهوان في قلوب الفرس وقوعًا شديدًا؛ حتى إنه يقال: إن المسلم كان ينادي على الفارسي، فيأتيه فيعطيه سيفه، فيقتله به.

وحقًّا إن المسلمين إذا ابتغوا العزة في الإسلام أعزهم الله، وإذا ابتغوا العزة في غير الإسلام أذلهم الله، وهذا الموقف تكرر في التاريخ الإسلامي بعد ذلك، ولكن على عكس الأمر؛ فعندما حدث هجوم التتار على الدولة العباسية، كان الرجل من التتار ينادي على المسلم، ويأخذ سيفه ويقتله به، والمسلم لا يدافع عن نفسه؛ لأن هذه الفترة كانت فترة من فترات الضعف الإسلامي، وكان الناس منشغلين بالشعر والعطر والأغاني، وتركوا الجهاد وطاعة الله تعالى؛ فأذلهم الله حتى عاد النصر من جديد على صيحة "وا إسلاماه" على يد قطز رحمه الله في موقعة عين جالوت. فالتاريخ فيه عِبَر وعظات، والمواقف تتكرر ونراها حتى يوم القيامة {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43]. يقول المؤرخون: حتى كان الطفل الغلام الذي لم يبلغ الحلم من المسلمين يَقتُل من الفرس من شدة هوان الفرس عليهم؛ حتى إنه رُئِي غلامٌ من قبيلة النخع اليمنية يقود ستين فارسًا من الفُرْسِ ويأخذهم أسرى، والفرس يرفعون أيديهم عالية.

وخَلَتْ ساحة القتال تقريبًا من الفرس، وأصبح الجيش الإسلامي هو الموجود فقط في المنطقة، وبدأ المسلمون في حصر الشهداء، فكان شهداء المسلمين ثمانية آلاف وخمسمائة شهيدٍ طوال أيام القتال، وصدق فيهم قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170]. أما في يوم القادسية فلم يستشهد من المسلمين عدد يذكر مع شدة هجوم المسلمين على الفرس، إلا أن الله I مَنَّ بالنصر على المسلمين دون شهداء في ذلك اليوم، وقُتِلَ من الفرس من بداية القتال وحتى نهايته نحو أربعين ألف قتيل. بطولات الصحابة y في القادسية: في هذه الموقعة أسقط ضرار بن الخطاب t راية "درفش كابيان"، وهي راية الفرس العظمى ذات الشمس البنفسجية والقمر الذهبي، وهي راية كبيرة وضخمة، وهي من أشهر وأكبر الرايات في التاريخ، وهذه الراية لم تسقط حتى هذه اللحظة، والذي أسقطها ضرار بن الخطاب t؛ فسقطت ولم ترتفع مرة أخرى في هذا اليوم. ويأتي أحد المسلمين وهو زيد بن صُوحَان t وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله ويده مقطوعة، ويجري فرحًا ويده قد قطعت من القتال؛ فأسرع إليه المسلمون حتى يعالجوه، فذكر لهم وتذكر معه الصحابة أنهم كانوا في غزوة مع رسول الله، فغفا رسول الله غفوة، ثم أفاق فقال: "زيد وما زيد! يده تسبقه إلى الجنة".

ولم يعرف الصحابة y ساعتها من هو زيد الذي عناه رسول الله، فرجع من يوم القادسية فرحًا؛ لأنه علم أنه المقصود بهذا الرجل الذي تسبقه يده إلى الجنة، ثم لحق به جسده الكريم في موقعة الجمل، فلقد استشهد في موقعة الجمل t بيدٍ واحدة. تتبع الفارِّين: وبعد أن انتهت هذه الملحمة الشديدة على المسلمين، بدأ سعد بن أبي وقاص t كما كان يفعل خالد بن الوليد t، وكما كان يفعل المثنى بن حارثة t من قبل في تتبع فلول الهاربين من الجيش الفارسي، إنه إصرار شديد على محق الإمبراطورية الفارسية؛ حتى يُعْبَدَ الله وحده. وفرَّ الهرمزان إلى الجنوب الشرقي حيث سيعبر بعد ذلك نهر الفرات متجهًا إلى الأهواز جنوبي إيران، وهذه المنطقة فيها عز الهرمزان وفيها ملكه، وكان الهرمزان قبل ذلك قد عاهد رسول الله أن لا يقاتل المسلمين، ولكنه خان عهده مع رسول الله وقاتل المسلمين في القادسية، وها هو يهرب الآن من موقعة القادسية بعد هزيمة جيشه، وينتقل بجيشه إلى منطقة الأهواز. وفرَّ الجالينوس إلى ناحية المدائن في اتجاه النجف، وهي المنطقة التي عسكر فيها جيش الجالينوس قبل أن يدخل القادسية مباشرة.

وفَرَّت فرقة أخرى من الفُرس في اتجاه الشمال بجوار نهر العتيق، فأرسل سعد بن أبي وقاص t القعقاع بن عمرو التميمي وأخاه عاصم بن عمرو التميمي حتى يتتبعا الهرمزان جنوبًا، وأرسل شُرَحبيل بن السِّمْط ليتتبع الفريق المتجه شمالاً في مطاردة سريعة قصيرة، حتى يلحقوا بالفُلُول التي هربت من الجيش الفارسي، وبالفعل في أقلِّ من ساعة كانت الجيوش الإسلامية قد لحقت بعدد كبير من الناحيتين، ثم عاد القعقاع وعاصم رضي الله عنهما إلى القادسية وعاد شرحبيل بن السِّمْط، فأبدلهما سعد بن أبي وقاص المهمة، أي أبدل كل واحد منهم مهمة الآخر، وقال سعد للقعقاع وعاصم : اصعدا إلى الشمال. وقال لشرحبيل : انزل جنوبًا. وسعد t بذلك يحفز القواد على اللحاق بالفرس؛ حتى يتداركوا فلولهم، ويَجِدوا في البحث عن الفرس، y أجمعين. ثم أرسل سعد بن أبي وقاص t مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحُوِيَّة t لمتابعة الجالينوس؛ فتقدم زهرة بن الحوية t ليلاحق الجالينوس، وكان الجالينوس قد عبر نهر الحضوض المتفرع من نهر العتيق، وعبره الجالينوس على الردم، وكان هناك قنطرة في هذا المكان على نهر الحضوض بعيدة، ولكن الجالينوس عبر بجيشه كله من فوق الردم، وبعد أن عبر فتح فجوة في الردم؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يلحقوا به. فجاء زهرة بن الحوية t فوجد الفجوة واسعة فاستعد بخيله، واستعد وقفز من فوق هذه الفجوة الواسعة، وتبع زهرة بن الحوية t في مثل هذه اللياقة البدينة العالية ثلاثمائة فارس من المسلمين استطاعوا أن يعبروا هذه الفجوة، وبقيت مقدمة المسلمين لم تستطع العبور فعبرت من فوق القنطرة، وتقدمت الجيوش الإسلامية بقيادة زهرة حتى لحقت بالجالينوس على حدود النجف ( نحو أربعة كيلو مترات من القادسية )؛ فوجدوا أن الفرقة كبيرة، وجلست في هذا المكان تستريح من القتال وتنتظر حتفها، ووجد الفرس المسلمين على رءوسهم؛ فقاتل المسلمون هذه الفرقة من فرقة الجالينوس وقتلوا منهم الكثير، وقتل زهرة بن الحوية t الجالينوس بنفسه، ولم يكن يعرف أنه الجالينوس، وبعد أن قتله أخذ سلبه وعاد به إلى سعد بن أبي وقاص، فعرف أسرى الفرس ملابس الجالينوس، وعرف زهرة أنه قتل الجالينوس نفسه. وهذا ثالث قائد من القواد الذين تحت رستم يُقتل في موقعة القادسية، وكذلك قُتِلَ مهران الرازي في الميسرة، فكل قواد الفرس قد قتلوا باستثناء الهرمزان فقط الذي فَرَّ من موقعة القادسية ناحية الأهواز؛ فلقي سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحُوِيَّة t بعد أن عاد من هذه الموقعة القصيرة بالقرب من القادسية وقد لبس لباس الجالينوس، وهذا اللباس كله أبهة وعظمة وجواهر ثمينة، فقال له: هل أعانك أحد على قتله؟ وذلك حتى يوزع سلب الجالينوس بالعدل؛ لأن سلبه كثير. فقال زهرة بن الحوية t: نعم. فقال سعد: مَنْ؟ فقال زهرة t: الله!! فسكت سعد بن أبي وقاص، ولكنه أعاد النظر، وقال: ولكنَّ هذا كثير. فأخذ سعد منه جزءًا من السلب، وأرسل به إلى عمر بن الخطاب t؛ فرد عليه عمر بن الخطاب t الرسالة: أنا أعلم بزهرة منك، فأعِدْ له سلبه، وأعطه خمسمائة درهم من عندي من بيت مال المسلمين. يأخذهم زهرة بن الحُوية ردًّا لاعتباره.

عاد المسلمون إلى القادسية وبدءوا في معالجة الجرحى، وتأتي النساء اللاتي خرجن مع الجيش لطول المسافة بين المدينة المنورة وبين القادسية، وكن في "عذيب الهجانات" في القادسية بالمياه لسقي الجرحى المسلمين، ولتضميد جراحهم، وبدأن يقمن بدورهن. وطلب سعد بن أبي وقاص t من هلال بن علفة أن يحدد له المكان الذي قتل فيه رستم، فيذهب هلال بن علفة ويأتي برستم من بين البغال، فيأمر سعد بن أبي وقاص هلال بن علفة t أن يأخذ سلب رستم، وكان سلبه ثمينًا جدًّا، فقد باعه هلال بن علفة بسبعين ألف درهم ( هل كان رستم ذاهب إلى الحرب أم إلى النزهة؟! )، وضاعت العباءة التي كان يلبسها رستم وتقدر بمائة ألف، وفي الغالب جرفها تيار الماء عندما قذف بنفسه في نهر العتيق. وتأتي صلاة العشاء وكان يومًا طويلاً، وعندما قام المسلمون لأداء صلاة العشاء اكتشفوا أن مؤذن المسلمين في القادسية قد استُشهد في الموقعة، فبدأ الصحابة y يتسابقون إلى الأذان، حتى إنهم يكادون أن يقتتلوا، مع أنهم كانوا من لحظات يسيرة في جهادٍ في سبيل الله؛ ولكنهم يدركون فضل وقيمة الأذان وأجره العظيم، أما نحن الآن فنتباطأ في رفع هذه الشعيرة الإسلامية الكبيرة، بينما كان يريد كل واحد من الصحابة أن يأخذ هذا الشرف، ويصبح من أطول الناس رقابًا يوم القيامة؛ ولشدة خلاف الصحابة y حول من يقوم برفع الأذان، قام سعد بن أبي وقاص t بعمل قرعة بين الصحابة لمن يرفعه.





الاربعاء ٢٤ جمادي الثانية ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / أذار / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي عبد الله الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة