شبكة ذي قار
عـاجـل










بعد هزيمتها الكبرى في حرب الفيتنام في منتصف سبعينيات القرن الماضي أعادت الإدارات والحكومات الأمريكية المتعاقبة النظر في مجمل سياساتها المستقبلية، فوضعت من جديد سيناريوهات التدخل في البلدان المختلفة، كي ترسم لنفسها صورة الحكومة الداعية إلى إشاعة الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان والحريصة على السلم العالمي ومصالح الأمن القومي الأمريكي والأوربي ، وهي صورة جديدة لأشكال تدخلها في شؤون بلدان العالم المختلفة، تظهر تارة بتقديم المساعدات الإنسانية والدعم لحكومات معينة، وتارة في التدخل في ما يسمى "مكافحة محاور الشر" التي يحددها الإعلام الأمريكي، كيفما شاء خدمة وتمهيدا لما سيأتي بعده من تنفيذ لاحق .

كتب " لارس شولتز" Lars Schoultz المختص الأكاديمي في حقوق الإنسان، والباحث في جامعة نورث كارولينا، قبل قرابة ثلاثين سنة دراسة قيمة حول ما يسمى بمساعدات الولايات المتحدة لدول أمريكا اللاتينية، والتي كانت تغطي الوجه القبيح للسياسات الأمريكية للتدخل والإساءة إلى حقوق الإنسان في تلك البلدان . ومما قاله لارس شولتز : ( ... تتدفق المساعدات الأمريكية بصورة غير متكافئة على حكومات أمريكا اللاتينية التي كانت تعذب مواطنيها إلى افضع حالات منتهكي حقوق الإنسان في نصف الكرة الأرضية آنذاك ) .وفي الوقت الذي كان الدعم الأمريكي يذهب إلى جيوب الحكام الفاسدين كانت الخبرات الأمريكية المتسللة إلى أجهزة مخابرات ووزارات الداخلية في تلك البلدان تنقل أبشع وسائل التعذيب كي تحمي تلك الأنظمة الفاسدة من نقمة شعوبها.

لم تختلف مرامي السياسات الأمريكية وغاياتها من التدخل أبدا في شرق الكرة الأرضية أو غربها ، لأنها تخدم في أول الأمر، وفي نهاية المطاف، الاستثمارات الأمريكية وتحسين مناخ التسلل إلى تلك البلدان.

وقد وجدت في شعار " الحرب على الإرهاب" محور سياستها الأول منذ إعلان الرئيس الأمريكي ريغان ، وبما ركزت عليها تصريحات وزير خارجيته آنذاك جورج شولتز في ما اسماه ( بلاء الإرهاب الخبيث ) ، والذي وصفه: بأنه ( الطاعون الذي نشره المعارضون الفاسدون للحضارة نفسها ) ، وهو أيضا حسب توصيف شولتز نفسه: ( عودة إلى البربرية في العصر الحديث ) .

وتابع شولتز قوله ( ... لا بد من التعامل مع الإرهاب بالقوة والعنف، وليس بالوسائل الطوباوية الشرعية، كالتوسط والمفاوضات وما إلى ذلك ) .

وقد حددت إدارة ريغان منذ ذلك الوقت ساحة تدخل وصراع الولايات المتحدة من خلال تصريح إدارة ريغان : ( ... ينبغي تركيز الحرب على منطقتين، حيث الجريمة أشد، وهما أمريكا الوسطى والشرق الأوسط ) .

يشير الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه " القوة والإرهاب" وجذورهما في الثقافة الأمريكية الصادر عام 2003 : ان الإدارات الأمريكية المتعاقبة ركزت على أمريكا الوسطى والشرق الأوسط في ثمانينيات القرن العشرين بشـأن " الحرب على الإرهاب"، ( ... حيث حولت أمريكا الوسطى إلى مقبرة، ذبح خلالها مئات الآلاف من الناس، حوالي مئتي ألف ضحية ، وأصبح اكثر من مليون نسمة لاجئين وأيتاما، وكتلا من العذاب، وارتكبت كل ما يمكن تصوره من أعمال وحشية ) .

وهكذا نفذت الولايات المتحدة اكثر من هجوم مدمر وقاس على بلدان معينة كانت غير قادرة على رد القوة الأمريكية الغاشمة مثل السلفادور وغواتيمالا والهندوراس، كما استهدفت نيكاراغوا في هجوم خلف مئات الألوف من القتلى وتم تدمير البلاد تدميرا كليا.

ولم تنفع نيكاراغوا ما حصلته من إدانة المحكمة الدولية للولايات المتحدة بالإرهاب الدولي و بسبب " استخدامها اللا شرعي للقوة" ولانتهاكات المعاهدات، وأمرت المحكمة حينها الولايات المتحدة ان تنهي الجرائم ،وتدفع تعويضات كبيرة لنيكاراغوا ، ولكن الولايات المتحدة رفضت حكم المحكمة الدولية واستمرت وبتأييد من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبأوامر رسمية بمهاجمة البنى التحتية للبلاد وما سمي بــ " الأهداف اللينة" مثل المستشفيات والمستوصفات الصحية، حتى وصل بوش الأب إلى الحكم عام 1990 فتوقف الرعب في بلدان أمريكا الوسطى لينقل ذلك الرعب إلى العراق والشرق الأوسط.

بعد رفض الولايات المتحدة حكم المحكمة الدولية أفشلت أيضا مسعى نيكاراغوا لإدانتها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة باللجوء إلى استعمال حق النقض " الفيتو" ( ضد قرار يطالب جميع الدول بمراعاة القانون الدولي ) .

ومنذ ذلك الوقت أضحت الولايات المتحدة، الحكومة الوحيدة المدانة بالإرهاب، لكنها ظلت تدعي أنها زعيمة " الحرب على الإرهاب".

منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي استخدمت الولايات المتحدة مبررات الحرب على ما تسميه " الإرهاب " ووضعت له ما تشتهي من تعاريف، في الوقت الذي شنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة حروبا قذرة بالتنسيق مع الحكومات الفاسدة في بعض بلدان أمريكا اللاتينية ضد ما سمي حينه بــ " لاهوت التحرير" ، ذلك الشعار الذي انتظم حوله الملايين من الفقراء والمعدمين في عدد من البلدان الأمريكية اللاتينية استجابة لنداء تبنته الكنيسة الكاثوليكية من خلال نشاط قام به بعض الرهبان والقساوسة المتأثرين بدعوات قوى اليسار من أمريكا اللاتينية كان يدعو إلى ( ... إيلاء الأولوية إلى حقوق الفقراء ) ، فكان ان شنت الأجهزة القمعية في تلك البلدان حملة دموية شرسة بتعاون مع خبرة وأجهزة الولايات المتحدة السرية التي قادها السفير الأسبق نيغرو بونتي، وكانت السلفادور وحدها قد شهدت مقتل رئيس الأساقفة، وانتهى الأمر بمقتل ستة من المفكرين اليسوعيين البارزين من أمريكا اللاتينية، إضافة إلى مصرع اكثر من سبعين ألف قتيل معظمهم من الفلاحين والمعدمين .

" الحرب على الإرهاب" أضحت سياسة ثابتة ومعلنة للحكومة الأمريكية منذ الغزو واحتلال العراق ربيع 2003 الذي قاده عسكريا دونالد رامسفيلد، كوزير دفاع في حرب مدمرة استهدفت العراق والمنطقة.

وليس صدفة ان يكون رامسفيلد قبلها هو نفسه مبعوث الرئيس ريغان إلى الشرق الأوسط مشاركا وداعيا في "الحرب على الإرهاب" ، في حين كان الجانب الدبلوماسي من " الحرب على الإرهاب" قاده جون نيغروبونتي John Negroponte الذي عين سفيرا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة ليقود "الحرب على الإرهاب" ، كان في تلك الأعوام سفيرا للولايات المتحدة في وهندوراس التي كانت قاعدة الولايات المتحدة لعمليات الإرهاب الأمريكي في المنطقة، وبصورة محددة، من اجل إعداد تلك الحرب على نيكاراغوا والإشراف عليها.

وبعد نجاح غزو العراق 2003 نقلت الإدارة الأمريكية على الجانب الدبلوماسي والقمعي خبراتها في القمع والتصفيات الجسدية والتخريب وإشعال الفتن والحرب الأهلية على يد سفرائها ببغداد أمثال بول بريمر و زلماي خليل زاده نيغروبونتي نفسه ، وأصبح شعار " الحرب على الإرهاب" الذي تبنته القوات الأمريكية الغازية طريقا وأسلوبا لإشاعة الرعب وممارسة الإرهاب بكل إشكاله، والذي انتقل إلى بلدان الجوار العراقي ، سوريا ومنها نحو بقية بلدان الشرق الأوسط على يد عصابات ومليشيات متنوعة المشارب والأهداف، وفي مقدمتها تنظيمات القاعدة وداعش وماعش، الممثلة في المليشيات الطائفية التي لازالت تتلقى الدعم والتسلح من القوات الأمريكية، إضافة إلى التدريب والدعم والتوجيه من طرف الحرس الثوري الإيراني.

وكما تروج الولايات المتحدة في حربها الإعلامية ضد الإرهاب ومصادر تمويله وتضع التحالف الدولي الذي تقوده أمام مسؤولية مكافحته فإنها تحرص على التخلص من أدوات الإرهاب المنفذة، سواء بقتلهم أو تهريبهم إلى ساحات أخرى.

كانت وستبقى إسرائيل صاحبة السبق في نقل تقنيات تفجير السيارات المفخخة وكذلك ايران وأتباعها، وان اكبر الأعمال الإرهابية المنفذة منذ تفجير السفارة العراقية في بيروت، وتفجيرات بيروت 1982 وما بعدها باستهداف الأسواق ودور العبادة والكنائس والتي تمت وفق خطط انتقائية كانت تمهد للحروب الطائفية، وما هي إلا صناعة أمريكية إسرائيلية إيرانية.

ان الحرب على الإرهاب، وفق المنظور الأمريكي تجلت في ركام المدن المدمرة في الشرق الأوسط، كحلب والموصل والرقة ودير الزور والفلوجة والرمادي، وهو تاريخ مكرر لتاريخ الاستعمار الذي غالبا ما برر غزوه لحجة " الحرب العادلة وجلب الحضارة والإعمار إلى بلدان المتوحشين"، وما شابه ذلك من الأقوال.

واليوم فان صورة المتوحشين تصفها عشرات الفضائيات التي تنقل صور الذبح والقسوة والدماء والتنكر للقيم الإنسانية يقوم بها وحوش بشرية تدربوا في معاهد ومراكز تدريب خليل زاده ونيغروبونتي، ومنهم من أطلق سراحهم نوري المالكي من سجون أبي غريب وبوكا بعد قضائهم دورات تدريبية متخصصة في الإرهاب ليعلنوا قيام ولاية الدولة الإسلامية على مدن هامة في العراق والشام .

ان الحرب على الإرهاب تتحجج بنفس الحجج النازية: بان قوات التحالف والقصف الجوي والصاروخي إنما يستهدف تحرير وانقاذ السكان؛ في حين ان الإرهابيين باتوا يعرفون مواقع الإحداثيات التي تسلم من القصف، ويصبح السكان دروعا بشرية ، وهم الضحايا والجثامين المحاصرة والمدفونة تحت أنقاض المدن العربية المحترقة والمحطمة.

ان الحرب ضد الإرهاب ليست عادلة كما يروج لها الأمريكيون وأتباعهم طالما ان القتلة والإرهابيين هم قادة الدولة العظمى الأولى في سلم قضايا الإرهاب.

كيف تكون الحرب على الإرهاب قائمة وتسمى " عادلة" وهناك حكومات إرهابية تتلقى الدعم والسلاح والتمويل كالنظام العراقي الحاكم اليوم الذي أسسه بول بريمر في بغداد ، ودرب قياداته الإجرامية ومليشياته وقواته الأمنية المجرم نيغروبونتي؟ .

كيف تكون الحرب على الإرهاب مشروعة عندما يصل التجهيز والتسليح والدعم اللوجستي إلى الدواعش بطرق عدة، كما يصل نفس الدعم إلى المليشيات الطائفية وحشدها الطائفي؟.
وكيف تكون الحرب على الإرهاب عادلة والقصف الجوي الأعمى لقوات التحالف الدولي ينال أهم المنشئات الحيوية في المدن المنكوبة من بنايات ومدارس وجامعات ومستشفيات؟؟ .

وخلاصة القول ان " الحرب على الإرهاب" باتت شركة تجارية دولية مساهمة عابرة للقارات، أرباحها تدفع إلى مصانع السلاح وتنقذ الرأسمال الأمريكي والروسي من الانهيار، وتدعم مرتزقة الحروب وتهدد كيانات الدول الوطنية ووحدة المجتمعات وانهيار أسس الثقافات والحضارات الإنسانية.





السبت ٢٢ رمضــان ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / حـزيران / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة