شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ ثلاثينيات إلى نهاية سبعينيات القرن العشرين تصاعد ظهور أنماط من حركات التحرر والمجموعات الثورية التي أطلق عليها حينها بالحركات والجماعات الأممية، والتي غالبا ما كانت تعبأ جماعات ، خاصة من فئات الشباب، مزودة ومعبأة بخليط واسع من أفكار ماركسية وثورية وفوضوية، وبعضها كانت جماعات منشقة، أفرادا أو مجموعات، انسلخت عن حركات وتنظيمات شيوعية وخرجت عن انضباط أحزابها التقليدية المعروفة تاريخيا.

وإذا كانت تلك المجموعات قد شدها وجمعها يوماً ما، مثل إيمانها بهدف تحرري في وقت معين، تجلى في سعي بواكير من طلائعها في ثلاثينيات القرن الماضي إلى مواجهة ومناهضة صعود القوى الفاشية في ايطاليا والنازية في ألمانيا ومرحلة أخرى مهدت لصعود الجنرال فرانكو من خلال انقلابه العسكري على السلطة في اسبانيا ، فكانت الحرب التي سميت بــ " الحرب الأهلية" ، رغم التشابك الدولي والإقليمي فيها ، والتي استمرت لثلاث سنوات ( من تموز / جوليه 1936 إلى نيسان / افريل 1939 ) مريرة وقاسية على الشعب الاسباني.

تلك الحرب انتهت بتحطيم واحدة نت الثورات العمالية ومكنا من انتصار قوى الردة والرجعية والفاشية ، وأثبتت أيضا فشل الإستراتيجية الستالينية المتبعة آنذاك من ناحية أخرى.

لقد كانت الحرب الأهلية الاسبانية ( Spanish Civil War واحدة من المحطات الهامة للتأمل والدراسة والمقارنة مع واقع أوضاعنا العربية الحالية، فقد كشفت تلك الحرب ونتائجها عن مدى التناقضات والرياء والنفاق الفاضح في ما يسمى الالتزام الدولي في الاتفاقيات الرسمية الأوروبية الموقعة والمشترطة بعدم التدخل في الشأن الداخلي الإسباني، لقد جرى عكس ذلك بما حدث فعلا على أرض الواقع الاسباني، حيث كان يقف وراء كل طرف في ذلك النزاع أحد البلدان الأوروبية المجاورة، وبالخصوص نظاما هتلر و موسوليني في ألمانيا وإيطاليا، وهو ما سرّع بنجاح حليفهما الجنرال فرانكو وانتصاره في حسم معاركه وبلوغ السلطة في نهاية الحرب، وسيطرته المطلقة بالنار والحديد على اسبانيا من خلال قبضة حديدية فاشية استمرت حتى رحيله عام 1976 .

وإذا كانت القوى اليسارية التي جندها الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية السائرة في ركابه حينها ، بدفع مناضليها وتشجيعهم آنذاك ودعوتهم إلى حمل السلاح والتطوع لاحقا في الحرب الأهلية باسبانيا، قابلهم ذلك الانقلاب الذي قاده الجنرال "بريمو دي ريفيرا" ( 1923-1930م ) وبعدها صعود الائتلاف الجمهوري الاشتراكي ( 1931-1933م ) وقيام انتفاضة عمال المناجم في "أستورياس" شمال إسبانيا سنة 1934، وهي الاحداث التي شكلت نقطة بداية لمسلسل توظيف وتجنيد المغاربة لسحق هذه الثورة، خلال فترة عودة اليمين الرجعي إلى الحكم ( 1933-1936م ) ، حيث قاد العديد من الضباط والجنرالات، وفي مقدمتهم "فرانسيسكو فرانكو"، تمردا على الحكومة الشرعية، انطلاقا من الأراضي المغربية، التي كانت آنذاك خاضعة لنفوذ الاستعمار الإسباني، واعتمادا على عناصر من ما كان يسمى "جيش إفريقيا" خاصة و"الجيش المغربي" المجند ضمن طابور "اللفيف الأجنبي" الذي كان يتكون أساسا من المرتزقة والمجندين الإيطاليين و"الإسبان والأمريكيين .

وهكذا حقق الجنرال فرانكو أحلامه من خلال حلفائه من القوى النازية والفاشية بألمانيا وايطاليا ودعم الكنيسة الكاثوليكية ورهبانها له، من جهة و دعم المغاربة وتجنيدهم في قواته ، مما ضمن له التفوق والانتصار على القوات الجمهورية.

وهكذا أصبحت إسبانيا منقسمة عسكرياً وسياسياً وكانت تتقاتل في معسكرين متقابلين، معسكر القوميين تحت قيادة فرانكو، ومعسكر الحكومة الجمهورية التي ظلت تقاتل من أجل السيطرة على البلاد ولكنها باتت تفقد السيطرة تدريجيا بسبب الإخلال في موازين القوى والدعم لصالح الجنرال فرانكو وتحالفاته .

كانت القوات القومية بقيادة فرانكو قد حصلت على ذخيرة وجنود من ألمانيا النازية ومن إيطاليا الفاشية، بينما كان دعم الإتحاد السوفيتي والمكسيك، بما فيه المتطوعين، الذي يصل لدعم "الملكيين " أو "الجمهوريين".

اتبعت البلدان الأخرى، مثل بريطانيا وفرنسا سياسات مبطنة، فهي ظاهريا تدعو إلى عدم التدخل، بالرغم من أن فرنسا استمرت بإرسال الذخيرة والدعم العسكري للقوميين الإسبان بقيادة فرانكو.

وهكذا تقدم القوميون من معاقلهم في الجنوب والغرب، وأسقطوا معظم الشريط الساحلي الإسباني عام 1937. وحاصروا مدريد والمنطقة الجنوبية والغربية منها معظم وقت الحرب؛ خاصة بعد سقوط مناطق كبيرة من كتالونيا عام 1938 و1939، حتى انتهت الحرب بانتصار القوميين، وتم نفي آلاف الإسبان الموالين لليسار، وقد فر الكثير منهم إلى مخيمات اللاجئين في جنوب فرنسا. وانضم إليهم الجمهوريون الخاسرون، وكل الذين تعرضوا لاضطهاد القوميين المنتصرين.

وبتأسيس دكتاتورية فاشية جديدة بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو وبقاء فرانكو لما بعد الحرب العالمية الثانية، اندمجت الأحزاب اليسارية داخل النظام الفرانكوي الحاكم.

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، وجدت بلدان أوربية معينة نفسها تحت الاحتلال النازي، وحينها لبت مجموعات من الثوريين من مختلف البلدان نداء واجب التحرير ونصرة الشعوب المظلومة فانتظمت أفرادا وجماعات في صفوف حركات المقاومات الوطنية الأوربية، في هذا البلد أو ذاك، وظهرت في مجموعات الأنصار المقاومين في بلدان عدة، منها في جبهات شملت مواقع المقاومة ضد النازية والفاشية في فرنسا وايطاليا واليونان ويوغسلافيا، وفي بلدان أوربية عدة، ومنها كانت هناك فصائل مقاتلة أسهمت فعلا بتحرير بلدان معينة وطرد الاحتلال النازي وأتباعه، كما حدث في يوغسلافيا بقيادة جوزيف بروس تيتو، وفي اليونان وفي إيطاليا حيث تمكنت مجموعات من الأنصار من كتائب المقاومين من رصد وقتل القائد الفاشي الايطالي موسوليني في ميلانو بايطاليا.

وفي أمريكا اللاتينية تكررت نفس الظاهرة بانخراط مناضلين معروفين قدموا من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وشاركوا في ثورات كوبا وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا والسلفادور والارجنتين.

وكان البطل الثوري الاممي أرنستو تشي جيفارا ورفاقه الثوريين الآخرين مثلا وقدوة للنضال الاممي الحقيقي ساهموا من اجل انجاز مهام التحرير في كوبا وفنزويلا ، ومثيلاتها في دول افريقية، أين قادها مناضلون، منهم ، من أصول افريقية وحتى من أبناء المستوطنين البيض، دعموا المناضل الشهيد باتريس لومومبا ومناضلون بيض آخرين انضموا إلى فصائل التحرير في المؤتمر الإفريقي بجنوب افريقيا وروديسيا وناضلوا إلى جانب نيلسون منديلا ورفاقه .

لقد كان من أسباب ظهور بعض المنظمات الأممية التي أعلنت مواقفها الثورية ودعمها لحركات التحرر في العالم، خاصة في الستينيات، بعد انتصار الثورة الجزائرية وانطلاق الثورة الفلسطينية ، وبتأثير دور وموقف التيارات اليسارية الفرنسية، خلال انتفاضة الطلبة والشباب في أيار / مايو 1968،في باريس، التي كان للمنظمات اليسارية دورا بارزا في توجيهها وقيادتها، ولا سيما بعد ما لقيته من دعم وإسناد في أوربا والولايات المتحدة والعالم، في فترة شهدت نهوضا تحرريا واسعا .

وهكذا تطورت الأمور لتتحول إرهاصات الانتفاضة الطلابية في فرنسا إلى حافز لظهور منظمات أكثر عنفا ، في بلدان أوربية وآسيوية أخرى، وخاصة في ألمانيا الغربية بظهور منظمة ( الجيش الأحمر الألمانية ) ، التي عرفت بمجموعة بادر ــ ماينهوف Baader-Meinhof وهي حركة ثورية يسارية، أسسها في عام 1970 أندرياس بادر و اورليكه ماينهوف، وضمت : أندرياس بادر، غودرون إنسلن، هورست مالر، إرمغارت مولر وغيرهم.

يتفق اغلب المحللين السياسيين ان ظهور هذه المنظمة ونشاطها كان نتيجة مباشرة لتصاعد حركات الاحتجاج الطلابية ، وتصاعد نشاط الحركات المناهضة للرأسمالية في أوربا والعالم .
وتعتبر منظمة الجيش الأحمر الألمانية إحدى أبرز وأنشط الجماعات اليسارية التي نشطت في أوربا الغربية في القرن العشرين وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي خلال فترة ما يسمى ( الحرب الباردة ) .

صنفت هذه المنظمة بأنها مجموعة تخوض حرب العصابات المدنية تتبنى الكفاح المسلح منذ ان ظهرت باسمها اختصارا " RAF - ألوية الجيش الأحمر" وقد أعلنت ضمن توجهاتها أيضا رفض الاحتلال الاسرائيلي و دعمها للثورة الفلسطينية والتنسيق مع بعض فصائل الثورة الفلسطينية وخاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الراحل جورج حبش .

سارعت الدول الغربية ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة إلى اتهام ( منظمة بادر ــ ماينهوف ) ، ووصفتها أنها منظمة تسعى إلى ( صناعة العنف أوروبيا ) . وسارع الإعلام الغربي إلى وصفها أيضا بــ ( المنظمة الإرهابية الألمانية ) ، رغم أنها أثارت تعاطف العديد من المفكرين ونشطاء اليسار الأوربي ومنهم الفيلسوف والكاتب الفرنسي المعروف جان بول سارتر و بول هاينريش وغيرهم من رموز اليسار الأوربي آنذاك .

وهكذا خرج «جناح الجيش الأحمر» في أواخر ستينيات القرن الماضي من رحم الحركة اليسارية الأوربية المتطرفة، وانطلاقا من ألمانيا الغربية الرازحة تحت احتلال جيوش المحور الغربي المنتصر ، أطلق الجيش الأحمر الالماني شعارات تعادي ما تعتبره «هيمنة الرأسمالية» على الاقتصاد وهيمنة «الإمبريالية الأميركية» على السياسة الألمانية، وحتى هيمنة «النازيين» السابقين على التركيبة السياسية الحاكمة في ألمانيا الغربية.

وبالتزامن مع تلك الأحداث ظهرت أيضا في عام 1970منظمة أوربية أخرى تحمل عنوانا ( الألوية الحمراء ) ، كان اسمها بالإيطالية Rosse ) : Brigate
[briˈɡate ˈrosse] ، وغالبا ما يختصر اسمها BR، وهي منظمة شبه عسكرية ، يسارية الاتجاه، ثورية الخطاب، ، تبنت الألوية الحمراء" الكفاح المسلح" ، كان مقرها في إيطاليا ، وتعتبر مسئولة عن العديد من حوادث العنف، بما في ذلك عمليات نسبت إليها، كالاغتيالات والخطف والسرقات من البنوك وابتزاز المافيات الايطالية للحصول على الدعم والمال، خلال ما سمى "بسنوات الرصاص".

وفي أدبياتها وبياناتها السياسية لم تخف الألوية الحمراء أنها : سعت إلى تأسيس وإنشاء حالة "ثورية" من خلال تبنيها شعارات الكفاح المسلح. واستمرت بنشاطات متفاوتة الحدة حتى مطلع سنوات التسعينيات من القرن العشرين- حيث أعلن عن إيداع ماريو موريتي، القائد الرئيسي للمنظمة، خلال سنوات السبعينيات، السجن في مدينة ميلانو، كان ذلك إثر قيام منظمته باختطاف رئيس وزراء إيطاليا الأسبق «الدو مورو».

وعلى الطرف الآخر من العالم ، شرقا، ظهرت منظمة أممية أخرى قادتها وأسستها الآنسة فوساكو شيغينوبو في شباط / فبراير 1971 بعد انشقاقها عن إحدى التنظيمات الشيوعية اليابانية، كان من بين أهدافها المعلنة نيتها الإطاحة بالحكومة اليابانية وإنهاء الحكم الامبراطوري، والدعوة إلى قيام ثورة عالمية، ومحاربة اسرائيل. وقد ترجمت ذلك بإعلانها ومساندتها للثورة الفلسطينية، وخاصة بتعاونها التام مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، حيث قامت بمجموعة من العمليات العسكرية.

تعلمت دول الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة والدول الأوربية ومراكز مخابراتها المتعاونة في ما بينها من تلك التجارب الثورية السابقة، وخططت بذكاء وخبرات متراكمة لإجهاض نشاطها، وحتى التسلل إلى صفوفها وتصفية قياداتها في بعض الحالات، والعمل على احتوائها كذلك، قصد تشويهها، وتبرير اتهامها بالإرهاب، فتمكنت من رصدها وطاردت مناضليها الكبار واغتالت البعض منهم عبر العالم، كما تمكنت وكالة المخابرات الامريكية ، بالاستفادة من كثير من تجارب ودروس حركات الأنصار الثوريين والمجموعات الأممية الثورية السابقة، فعملت على نسخها وتكرار تلك التجارب ، ولكن بشكل معكوس تماما، فوظفتها لصالح قوى الثورة المضادة ووزعتها في أجزاء من بلدان العالم. كما وظفت طرائق عملها وتوجيهها بالضد من القوى والحركات التقدمية والثورية ، وخاصة في بلدان العالم العربي والإسلامي، واهتمت المخابرات الامريكية بنقل الخبراء الأمريكيون بما سمي بالتجربة السلفادورية والهندوراسية والبوليفية والكولومبية إلى بلدان أخرى تحت ذريعة " الحرب على الإرهاب"، فكانت ساحة أفغانستان أولا هي التجربة الهامة لتجنيد الألوف من المتطوعين العرب بما سمي "الجهاد الإسلامي" في أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي ، ومنها ظهرت تنظيمات القاعدة وطالبان وغيرها وبمختلف المسميات التي تناسخت وولدت من رحم واحد وفي حضن ورعاية وتربية المخابرات الامريكية في أكثر من بلد وعبر أكثر من قارة .

ارتبط هذا "الجهاد" بإدارة المخابرات الامريكية وتمويلها لهذه المجموعات التي تطورت منها لاحقا صورة تشكيل شركات الحماية ومجموعات المرتزقة والتي قادت ما سمي بثورات الردة والانقلابات ومنها قامت عصابات الجريمة المنظمة بادوار ومهمات مختلفة في العديد من الدول الإفريقية والآسيوية وحتى في دول أمريكا اللاتينية نفسها.

لقد أصبحت التجربة الأممية السابقة موظفة ومكررة في انخراط شباب العديد من البلدان معممة ولكن بشكل معكوس ومغاير تماما لأهداف تلك الحركات الثورية السابقة، لتفريغ شحنة وطاقات الآلاف من الشباب المضلل والعاطل وتوظيفه بالضد من توجهات التحرر الوطني والقومي والاممي الحقيقي وتجنيده تحت شعارات مضللة وجدت في واجهات التطرف الإسلامي المستغل بذكاء ودراية وتوجيهه وإدارته من قبل قوى الاحتلال الأمريكي وأجهزتها خاصة، أولا، وبالتنسيق مع النظام الإيراني وما يتبعه، ثانيا. يتبع القسم الثاني

انتهى في ٢٨ تشرين الثاني / أكتوبر ٢٠١٧





الاثنين ١٥ ربيع الاول ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / كانون الاول / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة