لقد كان البعثيون ينظرون الى الماضي العربي وكانه مستوى روحي بالغ الرفعة تحققت فيه الفكرة العربية او بعبارة اخرى حققت فيه الامة ذاتها تماما وهذا التحقق الكامل للشخصية العربية في التاريخ رافقته في الوقت نفسه رسالة سماوية تمثلت بالإسلام وهنا نتساءل عن ما تعنيه الرسالة العربية في مفهوم البعث . ان شعار البعث الرئيسي ( امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) وكان هذا الشعار يثير في الواقع احاسيس المثقفين والجماهير معا وبه كانت ولا زالت تفتتح وتختتم الاجتماعات الرسمية للحزب في كافة المستويات ويأتي في مقدمة المراسلات الداخلية وكانت تذيل هذه المراسلات بعبارة ( والخلود لرسالتنا ) .
ان الرسالة العربية الخالدة هي أحد الموضوعات المركزية في أيدولوجيا البعث وقد أعطاها القائد المؤسس الاستاذ ميشيل عفلق رحمه الله معنى صوفيا كان يعتقده البعض نزعة تعصبية ولكنها في الحقيقة رسالة انسانية لان امتنا عانت الكثير من الاضطهاد والويلات على يد الغزاة والمستعمرين فلا بد ان تكون انسانية بمعناها واهدافها ورفض القائد المؤسس ان تكون فكرة البعث ورسالته تتبع رسالات اجنبية فأيدولوجيته ايدولوجية قومية من صميم الواقع العربي بواقعه المر والمؤلم التي اساسها الايمان بالرسالة الخالدة . من ناحية ثانية نلاحظ ان ( دستور البعث اي البرنامج السياسي والعقائدي للحزب الصادر عام ١٩٤٧ اكتفى بالقول ( الامة العربية ذات رسالة خالدة ) تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ وترمي الى تجديد القيم الانسانية وتحفيز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الامم ) نستخلص مما تقدم ان الامة العربية امه عظيمة عبر التاريخ بأشكال مختلفة ويدعو مؤسس الحزب على ( ان تخرج هذه الامة من نطاق النشاط المادي والانانية الضيقة وترتفع الى مستوى التوجيه الانساني والاشعاع على غيرها من الامم ) وان النزعة الروحية للامة العربية في مفهوم البعث لم تختفي ابدا وهي ان مرت بمراحل ضعف الا انها كانت تبقى كامنة ومستعدة دائما للانطلاق من جديد وبشكل جديد وفقا لمقتضيات الزمان والمكان لكونها امة حية لذا فان المقصود بالرسالة الخالدة ( إيمان قبل اي شيء آخر واما صفة الخلود التي تقترن بها الرسالة فإنها في نظر القائد المؤسس التشديد على الاستمرار والتجدد فهي لا تعترف بواقعها السيء وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها الاصيلة بين الامم بل تصر على انها هي في جوهرها تلك الامة التي بلغت في ازمان متعددة ومختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالتها فهي اذا بصلتها بماضيها لاتزال واحدة فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها مؤقتا ) فرسالة البعث تدعو قبل التعرف على المجتمع ينبغي التعرف على الذات وقبل السيطرة على هذا المجتمع ينبغي التحكم بالنفس ( فالرسالة العربية الخالدة هي ان نقبل بتجربة لهذه الحياة بتجربة عميقة صادقة ضخمة جسيمة متكافئة مع عظمة الامة العربية متكافئة مع عمق الالام التي يعانيها العرب ) .
إن الرسالة العربية الخالدة ليست شيئا منفصلا عن العرب في هذه المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض ، الرسالة العربية بدأت منذ ان بدأ العرب وخاصة منذ ان بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي ان حياة الامة العربية لا يمكن ان تستمر في هذا الطريق المنعوج المنحدر .
ان هذه ( التجربة الصادقة والعميقة ) هي التي تحدو بالعرب ان يكافحوا ضد كافة الاوضاع الشاذة في مجتمعهم كالظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي والاستبداد والتجزئة والتبعية للأجنبي فاذا سار العرب في هذه التجربة الروحية الداخلية حتى نهاية الشوط فانهم لن يتوصلوا الى تحقيق كيانهم القومي فقط بل الى تقديم خدمات جل للإنسانية وهم في هذه التجربة ( سيعرفون من جديد ما معنى الحق ،ما معنى الصدق ، ما معنى الاخلاص ، ما معنى العمل والتضحية ، ما معنى التفكير السليم المستقل الذي لا يخاف ضغط الغوغاء ففي كل عربي صادق وغيور تكمن الكنوز الروحية والخلقية والفكرية للنوع السليم من العرب وفي كل عربي تكمن بذور السلامة والنهضة والتقدم .
