شبكة ذي قار
عـاجـل










فعل القتل الذي نفذه مواطن استرالي ضد المصلين في نيوزلندا، هو جريمة سنداً للتوصيف القانوني ، وهو مجزرة سنداً للتوصيف السياسي ، ومنذ وقوعه تمت مقاربته من زاويا مختلفة . البعض ادرجه تحت عنوان الارهاب الموصوف، وبعض اخر ادرجه تحت فعل القتل ، واياً كان التوصيف لهذا الفعل الذي هز الوجدان الانساني فان مايجب التوقف عنده مسألتان. الاولى ردة الفعل المستنكرة بشقيها العفوي وكان ابلغ تعبير عنه اقدام احد الشباب الاستراليين على رمي احد دعاة الكراهية المشحونة بالحقد العنصري بالبيض ، وبشقها السياسي والانساني وكان ابلغ تعبير عنه تصرف رئيسة وزراء نيوزلندا. اما المسألة الثانية ، فهي الغموض المحيط بشخصية الفاعل - المجرم، والغموض لايتناول هوية جنسيته وهي معروفة ، كما مكان الجريمة وهو معروف ايضاً ،بل يتناول الجهة التي تقف وراءه . ان الملفت للنظر ان من نفذ جريمته كتب على اداة الجريمة اسماء وتورايخ لايدركها الانسان العادي وانما المطلع على التاريخ وعلى محطات اسياسية فيه وكان لها تأثير على سقوط دول وامبراطوريات . لقد بينت الكتابات على اداة الجريمة استحضارها لاحداث وتواريخ واسماء لها علاقة بالفتوحات العثمانية في البلقان وبشعارات ورموز ذات صلة باحدى الحملات الصليبيةالتي قادها ريكاردوس قلب الاسد الى فلسطين . هذه الاشارات الرمزية التي دونت على ادة الجريمة وبالبعد التاريخي الذي تم استحضاره في ارتكاب جريمة مكتملة الاوصاف القانونية انما هي مقصودة وموجهة بخلفية سياسية لتؤدي وظيفتها في خلق مناخ يرمي الى رفع درجة التوتر بين مكونات مجتمعية تعيش في بيئة مواطنة واحدة مع تعددية في الانتماء الديني الايماني .

ان هذا ان دل شيء فإنما يدل بأن هذه الجريمة ليس باعثها انفعالاً ذاتياً عند شخص معبأ بالكراهية ضد المسلمين واقدم على تفريغ شحنة العداء المختزنة في نفسه بتوجيه سلاحه الناري الى المصلين في المساجد وفي يوم الجمعة الذي له وقعه الخاص عند جمهور المسلمين وحسب بل الارجح ان من يقف وراء هذا الفعل الاجرامي وهي جهة منظمة بطبيعة الحال ،لاتريد فقط قتل اكبر عدد ممكن من الناس الذين صادف انهم مسلمون بل توجيه رسالة بأن جواً مشحونا بالعدائية ضد الاخر المستهدف بات يتشكل عند من يستحضر عدائية تاريخية كانت سياسيةبطبيعتها لكنها مغلفة بلبوس ديني ليسقطها على الحاضر الذي يختلج بصراعات حادة وبعضها يعطى بعداً دينياً ومذهبياً . واذا صحت الاشارات الاولية حول شخصية المنفذ بإنه حضر الى تركيا مرتين وربما اكثر وان صوراً نشرت له مع مجموعة داعشية ، لتاكد من خلال ذلك حقيقتان. الاولى ان داعش كما غيرها من التشكيلات الدينية والمذهبية انما هي منتج لقوى هيمنة دولية وإقليمية تريد خلق بيئة لتفجير المجتمعات بأثارة المحفزات الدينية وما شهدته بعض الساحات العربية والشرق اوسطية نموذجاً ، وهذا لن يحصل الا اذا وصلت المجتمعات التي تحكمها التعددية الى انشطار عامودي وعلى اساس ديني وطائفي ومذهبي . في مثل هذه الحاله تعود المكونات المجتمعية التي تنعدم فيها شبكة الامان التعايشي الى التحصن خلف الجدران والحصون الدينية والطائفية والمذهبية ،ومعها يصبح لكل دين ولكل طائفة او مذهب هويته السياسية . ومعها تبدأعملية صراعية في استحضار لكل الصراعات التاريخية التي استغلت الشعار الديني في التعبئة الشعبية لتحقيق الاهداف السياسية والمصالح الاقتصادية. ان الهويات التي تتشكل على اساس الصفاء الديني والمذهبي والعرقي هي هويات قاتلة للاخر لانها تقوم بالاساس على نفي الاخر.وهذا كان دائماً الاساس الذي بنيت عليه الدولة الدينية وانه ليس عرضاً سن قانون يهودية الدولة في الكيان الصهيوني .وهذه قاعدة عامة تنطبق على كل من يعتمد الصفاء الديني والمذهبي في بناء الدولة السياسية.

من هنا فإن استحضار محطات من التاريخ الانساني بكل مؤثراتها الدينية والمذهبية لاسقاطها على الحاضر تحت مبرر الثأر التاريخي هو مؤشر خطير على البعد الصراعي الذي خطط ويخطط له لاعادة وضع اسس جديدة لفرز المجتمعات الانسانية ليس على اساس هوية المواطنة المدنية العلمانية التي تستقيم بفتح امداءات التواصل والتفاعل بين المكونات المجتمعية ،بل فرزها على اساس ديني ومذهبي .

انه مهم جداً ادانة الجريمة التي ارتكبت في نيوزلندا ، ومهم جداً محاكمة مرتكبها ، لكن الاهم من كل ذلك النظر الى خطورتها انطلاقاً من كونها تشكل مؤشراً خطيراً على مايرسم في الدوائر السرية لتوظيف نتائج الصراعات المذهبية التي ادارتها قوى سلطوية وغير سلطوية لتوفير مناخات لصراع ديني يأخذ بعداً دولياً بعدما استنفذت اشكال الصراعات الاخرى اهدافها ولم تعد تلبي الحاجة المطلوبة . ان الذين دفعوا لارتكاب هذه الجريمة يراهنون على ردات الفعل ، ولذلك حذار الوقوع في الفخ المنصوب والرهان هو على تنامي الوعي المدني في مساحة الحريات السياسية وتنامي الحس الانساني العابر للاديان والطوائف والمذاهب والاعراق.





الثلاثاء ١٣ رجــب ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٩ / أذار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة