شبكة ذي قار
عـاجـل










حرصت الامم المتقدمة عبر التاريخ الانساني على تعزيز دور العقل في نهجها وعملت على ترسيخ قيمه في ثقافتها ، وذلك لدوره المحوري في تحقيق ما وصلت اليه من رفعة وسيادة وتقدم. لذا فإن اول ما يستهدفه العدو، هو تحطيم هذا الأساس الراسخ لنهوض الشعوب ومنعه من ان يكون حجر الاساس في البناء النفسي لافرادها، من خلال اشاعة ثقافة وقيم منافية للعقل وللتفكير العقلاني ومنع اي ارتباط بينه وبين القيم الروحية والايمانية التي يؤمن بها افرادها. ولقد ادرك بعض مفكري الامة هذه الحقيقة فسخروا كل حياتهم للتنوير في هذا المجال وحمل رسالته السامية عبر الاجيال .

ومن بين تلك الرايات التي نجحت في صياغة ملامح هامة على هذا الطريق هو المفكر العراقي الكبير الاستاذ الدكتور عبدالامير الاعسم الذي رحل عن هذه الحياة قبل ايام لكن اشعاعات فكره وما دعى اليه ستبقى خالدة تتناقلها وتثريها الاجيال تلو الاجيال.

ولد الاستاذ الدكتور عبدالامير الاعسم في منطقة الكاظمية في مدينة بغداد عام 1940 ، وانجز دراسته الاولية في العراق ، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبردج في بريطانيا في العام 1972 . وعاد الى وطنه العراق فانتظم في العام نفسه استاذاً في قسم الفلسفة بجامعة بغداد حيث تخرج على يديه وتحت اشرافه عدد كبير من طلبة الدراسات الاولية والعليا من العراقيين خصوصاً والعرب عموماً من الذين انتشروا في الوطن العربي ينقلون ما نهلوه منه من العلم الى اجيال واجيال في عموم الوطن العربي .

كما واصدر خلال مسيرته العلمية والثقافية جملة مؤلفات فاق عددها الثلاثين كتابا شملت عدة مجالات منها الفلسفة والتراث والتاريخ والادب، وانجز عشرات الابحاث والدراسات الرصينة . تقلّد الدكتور عبد الامير الاعسم العديد من الوظائف الاكاديمية في التعليم العالي ، عميدا لكلية الاداب في جامعة الكوفة ورئيساً لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة في بغداد ، وانتُخِب رئيساً لجمعية العراق الفلسفية .

كان الدكتور عبد الامير الاعسم باحثاً فلسفياً بامتياز ومحققاً ومدققاً من طراز متقدم. ورغم انشغال الدكتور عبد الامير الاعسم بقضايا التراث ، فإن ثمة رؤى فلسفية عرض من خلالها رأياً في العديد من المشكلات التراثية والمعاصرة ركز خلالها على قضية محورية وجوهرية هي العقلانية العربية وما تتطلبه من إشتراطات تمكّنها من معالجة تحديات الواقع العربي المعاصر ، لكي يستطيع الانسان العربي أن يعرف دوره الحقيقي في السياق الانساني على قدر المساواة مع الانسان الغربي.

وكان يرى ان تحقيق ذلك يقضي بضرورة إجراء مصارحة حقيقية وصادقة مع الذات والموضوع، لتشكيل بناء الانسان العربي ، لكي يصنع السلطات التي يقرّها العقل العربي، وعندها فقط تكون العقلانية العربية قادرة على تجاوز محنتها، والعودة الى ممارسة الدور الانساني الكبير في التاريخ كما يجب، لاكما يتمنى الحالمون الذين لم يستطيعوا حتى اليوم تقديم منهج محدد للعقلانية العربية .

ومن جهة اخرى فان العقلانية التي عمل الاعسم على تعزيزها لم تكن معزولة عن الحياة وعن الواقع الذي يعيشه الانسان العربي ، فهي تتبع تبادلية العقل والحياة نفسها ، وخاصة بين الانسان والقيم الاخلاقية من جهة ، وبين الايمان بالعقل من جهة اخرى ، فهو يرى ان هذه التبادلية الجدلية بين الفكر والواقع قادرة على حل الكثير من المعضلات البنيوية في مجتمعنا العربي، تلك المعضلات الناشئة عن تصادم مفاهيم الحرية والاستبداد ، والتقدمية والرجعية ، والتنوير والتحجر، والمعاصرة والتراث.

وقد أدرك الدكتور الاعسم مأزق ما يواجهه العقل العربي من تحديات ومن محاولات منظمة لتغييبه. ولإدراكه بمحورية ترسيخ العقل ودوره لدى الفرد العربي كأساس لنهوض الامة فقد راح يفتش عن منهج جديد اطلق عليه (عقلانية تجديد الفكر الفلسفي العربي المعاصر) ونجح في بلورة بعض معالمه

وكترجمة عملية للتحليل العقلاني للواقع العربي فقد آمن الاستاذ عبد الامير الاعسم بوحدة الامة العربية وبجدلية ارتباط وحدتها بحريتها . لذا فبالقدر الذي كان يدعو فيه إلى الوحدة العربية ، فإنه كان يعتبر ان حرية الانسان العربي وحرية الامة هي المدخل الحقيقي لبناء المجتمع العربي الواحد ، مع التحذير الدائم من التمييز العرقي والطائفي من جهة ومن الظلم الاجتماعي من جهة اخرى .

ولمواجهة آفة التخلف وتحقيق نهوض الامة فقد كان يؤكد على ضرورة تحكيم العقل النقدي حيال التحديات الخارجية منها والداخلية على حد سواء . فكان يرى انه بقدر وعي ابناء الامة العربية لأهمية تراثهم الحضاري فانه يتعين عليهم ان يدركوا في الوقت نفسه حقيقة الحاضر، والوعي بمتطلبات المستقبل . بعبارة أخرى ، كان يرى انه يتعين علينا العودة إلى الذات واستعادة الهوية وفي الوقت عينه الذي نكشف فيه تناقضات الواقع ، ومعرفة الطريق إلى الغد .

و على الرغم من كل ما يمر به العراق وتمر به الامة من صعوبات وتحديات جسيمة يأتي في مقدمتها استهداف العروبة و اجتثاث الفكر العروبي، وحملات التجهيل والتغييب المنظم للعقل، بقي عبدالامير الاعسم حتى آخر لحظات حياته يؤمن بعظمة أمته العربية وبتاريخها الكبير وبامكانية نهوضها وحتمية انتصارها ومواصلة دورها كجزء حيوي وفاعل في التراث الانساني .

تحية الى روح الراحل الاستاذ الكبير عبد الامير الاعسم وعهداً بان يبقى نهجه في ترسيخ العقل رسالة تنهض بها الاجيال العربية الصاعدة كأساس للانتصار على التحديات التي تستهدف وجود الامة ومسيرتها الحضارية .

مكتب الثقافة والاعلام القومي
 ١٨ / حـزيران / ٢٠١٩





الثلاثاء ١٥ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / حـزيران / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة