شبكة ذي قار
عـاجـل










على مدى سبعة أشهر يعيش السودان واحدة من أهم الثورات الشعبية العربية التي تتمحور أهدافها حول التغيير وإنتاج سلطة جديدة.

إن ميزة هذه الثورة أنها حافظت على سلمية حراكها رغم ما تعرضت له الجماهير من قمع مارسته الأجهزة السلطوية التي كانت تمسك بمفاصل الحكم قبل أن يسقط البشير، وتستمر قوى وتشكيلات أمنية وعسكرية موتورة في التعرض للتظاهرات والاعتصامات التي كان أشدها فظاعة فض الاعتصام في السادس من حزيران وإطلاق النارعلى التظاهرة المليونية في الثلاثين من حزيران للتأكيد على مدينة الدولة.

كما أنه من ميزات هذه الثورة أن القوى التي تحركها وتقود جماهيرها وحدت صفوفها وخطابها وبرنامجها السياسي للتغيير الوطني الديمقراطي، وبما مكنها من اكتساب شرعية التمثيل الشعبي والسياسي لشرائح واسعة من شعب السودان. وهذه الشرعية التي اكتسبتها جعلت منها رقماً صعباً في معادلة الوضع الداخلي لا يمكن تجاوزه في أي بحث عن مخرجات سياسية لحل الأزمة كما لقطع الطريق أمام المجلس العسكري لتقديم نفسه ممثلاً حصرياً للسلطة الشرعية بعد سقوط حكم البشير.

إن تمسك القوى المحركة والموجهة للثورة الشعبية بموقفها الداعي لنقل لسلطة للهيئات المدنية في سياق المفاوضات الجارية للاتفاق على إدارة المرحلة الانتقالية، فلأنها لدغت مرات عديدة من وعود كان تقطعها المؤسسة العسكرية على نفسها بتسليم السلطة للمدنيين بعد سقط حكم معترض عليه ثم ما تلبث أن تنقض عهودها وتقيم نفسها سلطة تمارس من خلالها كل أشكال القمع السياسي والنهب الاقتصادي والذي أدت تراكمت معطياته إلى تفجير الثورة التي ما تزال على زخمها .

إن نقض المؤسسة العسكرية للعهود والوعود التي تقطعها على نفسها ليست خاصة بما يجري في السودان بل هي سمة عامة لكل المؤسسات العسكرية التي تمكنها الظروف بطريقة أو بأخرى من استلام دفة الحكم في لحظات احتدام الصراع على السلطة .
من هنا، فإن أصرار قوى الحرية والتغيير السودان على تسليم السلطة للقوى المدنية، هو الطريق الصحيح نحو إقامة سلطة مدنية تدير البلاد خلال المرحلة الانتقالية وتحول دون إعادة إنتاج النظام المتهاوي لنفسه تحت أسماء جديدة تربت ونمت في ظل النظام السابق.

إن "العسكر" ومهما رفع من شعارات براقة في تبنيه لمطالب الحركة الشعبية وفي بعض الأحيان المزايدة عليها، لا يمكن له أن يخرج من جلدته، وتجربة حكم النميري والبشير خير مثال على ذلك.

إن مهمة الجيوش هي بالأساس حماية الأمن الوطني من التهديدات الخارجية، وأن يكون خاضعاً للسلطة السياسية المنبثقة من إرادة شعبية تعبر عن نفسها بالأطر التمثيلية التي ينص عليها الدستور الوطني. أما إذا أصبح القرار السياسي الذي يدير السياسية الخارجية كما الإدارة الداخلية في يد المؤسسة العسكرية، فإن هذه الإدارة ستدار بالعقلية الأمنية ولا تعود السلطة الحاكمة تنظر إلى القضايا العامة إلا من خلال المنظار الأمني، وهذه واحدة من سمات الدولة الأمنية التي تصادر الحريات العامة بدءاً من حرية التعبير وانتهاء بكل الحريات ذات الصلة بحقوق المواطنة.

على هذا الأساس، فإن التغيير السياسي كي يأخذ كامل مداه، يجب أن يكون محكوماً دائماً بضوابط الخطاب السياسي الذي يحفظ لكل قطاع موقعه ودوره في البناء الوطني وحماية المقومات الوطنية ومنها المؤسسة العسكرية . وأن تؤكد قوى الحرية والتغيير في السودان على ثبات موقفها بعدم تسليم السلطة "للعسكر" تحت مسمى المجلس العسكري الذي بدأ لعابه يسيل على ممارسة السلطة بعقلية الاستئثار ومصادرة قرار الدولة ، فاللحؤول دون انقضاض مبكر على شعارات الثورة ومطالب الحركة الشعبية .

إذاً، لتبق قوى الحرية والتغيير على أصرارها بنقل السلطة للقوى المدنية، ولتبق حركة الضغط في الشارع قائمة إلى أن ينتصر الاتجاه الوطني داخل المؤسسة العسكرية الذي يعتبر أن بناء الدولة التي تصان في ظلها الحريات العامة وتسود حقوق المواطنة، لا يستقيم مع قوى تريد أن تدير البلاد بالعقل الميليشياوي الذي يعيد إنتاج النظام لنفسه.

إن جماهير السودان لم تثر وتقدم التضحيات لأجل إعادة نزع النظام القديم لجلدته والحفاظ على مضمونه بل لإقامة الدولة المدنية النقيض الموضوعي للدولة الأمنية وتداركاً لتدمير بنيوي يطال كل مقومات الدولة والحياة المجتمعية كما حصل في ساحات عربية أخرى .





الاثنين ٢٨ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / تمــوز / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحرر السياسي لموقع طليعة لبنان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة