شبكة ذي قار
عـاجـل










الأسبوع الأول من تشرين الأول، كان العراق على موعد مع انتفاضة شعبية انطلقت من بغداد وشملت محافظات الجنوب والفرات الأوسط.فمن جنوب شرقه إلى جنوب غربه وعاصمته ، كانت الجماهير التي نزلت إلى الميادين تصدح بصوت واحد مدوٍ، ضد منظومة الفساد السياسي والإداري والاقتصادي التي أولاها الاحتلال أمر إدارة شؤون العراق، ومعها وصل إلى حافة الإفلاس المالي، وانعدام الخدمات وتردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية وارتفاع نسبة البطالة، وتدهور المستوى التعليمي بحيث اسقط الاعتراف الأممي شرعية الشهادة العراقية والتي كانت مفخرة لحاملها قبل غزو العراق واحتلاله، وكما أسره لدى تشكيلات ميليشياوية ترتبط بمركز التحكم والتوجيه الإيراني، بعدما بات النظام الإيراني صاحب اليد الطولى في التحكم بمفاصل الوضع العراقي عقب الانسحاب الأميركي، وتمكينه من الهيمنة على العراق وممارسة دور المحتل المباشر.وهذا لم يخفه أبداً، إذ جاهر به مراراً وتكراراً، بإن بغداد أصبحت واحدة من العواصم العربية الأربع التي سقطت بيده ، وأكثر من ذلك، فإن بغداد ستعود عاصمة "تاريخية" للإمبراطورية الفارسية.

إن القوات الأميركية التي انتشرت على ساحة العراق ووجهت بمقاومة وطنية جعلت الأرض العراقية تموج وتهتز تحت إقدام قوات الاحتلال، بما دفعها للانسحاب نهاية كانون الأول ٢٠١١.

وأن أميركا وطيلة فترة احتلالها كانت تملأ الفراغ العسكري والأمني والسياسي، بوحداتها العسكرية النظامية والأجهزة الأمنية المرتبطة بها وبالإدارة السياسية التي كانت تنفذ إملاءات الحاكم الأميركي.

لقد كان الوجود الأميركي مكشوفاً، لأنه كان يقدم نفسه من خلال الانتشار الميداني للقطاعات العسكرية المتحركة ومن خلال القواعد العسكرية وكل ما هو ذو صلة بأميركا كسلطة قائمة بالاحتلال.وهذا ما جعل كلفة الاحتلال المكشوف والظاهر مرتفعة، لأن قوات الاحتلال كانت هدفاً مباشراً ومكشوفاً للمقاومة الوطنية، وهذا ما جعلها تسرع في انسحابها وتحت جنح الظلام تحسباً لعمليات قد تتعرض لها فيما لو أقدمت على الانسحاب على وهج التغطية الإعلامية التي رافقت عملية الغزو.

بعد الانسحاب الأميركي، حل النظام الإيراني مكان المحتل الأميركي، وهذا الحلول لم يكن مكشوفاً كحال الاحتلال الأميركي، وبمعنى آخر، ان النظام الإيراني لم يقم قواعد عسكرية مباشرة له، ولم يحرك وحدات عسكرية ترفع الشارات الإيرانية في الشوارع والميادين، بل اعتمد أسلوب التغلغل في المفاصل السلطوية العسكرية والأمنية والإدارية عبر أدوات "عراقية" تديرها غرف سرية إيرانية وعبر هذه الأدوات، تم تسخير مقدرات العراق لصالح الاقتصاد الإيراني، وعبر هذه الأدوات، تم توظيف أرصدة هائلة من مردود النفط العراقي في تمويل التغول الايراني في العمق العربي وعبر هذه الادوات تم توقيع الاتفاقيات الثقافية والتربوية والأمنية والتي تبين أنها كانت لتشريع الغزو الثقافي و تعميم الأعراف والتقاليد الفارسية وضخها إلى النسيج المجتمعي العربي في إطار الاستراتيجية لفرض التفريس على العراق.

وعبر هذه الأدوات، تم اتلاف سجلات القيود المدينة والسجلات العقارية، وتنسيب الملايين من الفرس كعراقيين، وتسجيل عقارات بأسماء فرس منسبين و بأسماء شركات عقارية وهمية، في مناطق تتميز بموقع استراتيجي في تقاطع المواصلات أو تلك التي تختزن في باطنها ثروة تغطية وبشكل ملحوظ في المناطق الحدودية.

وعبر هذه الأدوات، تم تشكيل "جيش رديف" تحت مسمى "الحشد الشعبي" وهو تشكيل ، مذهبي التركيب البنيوي، ومرتبط مباشرة بمرجعية القرار لدى ما يسمى "بالحرس الثوري" وعبر هذه الأدوات، تحولت المرجعية الدينية إلى منفذ لتوجيهات "الولي الفقيه".

كما عبر هذه الأدوات حلت رموز الشخصيات الإيرانية محل رموز الشخصيات العربية التاريخية والأدبية والعسكرية في الميادين والساحات و عبر هذه الأدوات التي تدار من خلالها العملية السياسية، ويتربع ممثلوها على رأس المؤسسات "الدستورية"، شرع الاحتلال الإيراني الذي لم يكن منظوراً بتموضعه المباشر، بل كان معاشاً من خلال التثقيل السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي وكل ما له بالشؤون المعيشية.

لقد بات الاحتلال الإيراني ثقيلاً جداً على الوضع العراقي.وهذا التثقيل أرخى ظلاله على كل مناحي الحياة.

وهنا يبدو الفرق بين مشهديات الاحتلال الأميركي وتداعياته، ومشهديات الاحتلال الإيراني ومشهدياته.فالمحتل الأميركي، يريد السيطرة على نفط العراق، وأضعاف مقومات الدولة وتفريغها من قدراتها حتى يضعف من دورها في إدارة أي صراع مع ما يعتبره ثوابت أساسية لأمنه الاستراتيجي وخاصة أمن النفط وأمن الكيان الصهيوني.وتمظهر هذا الاحتلال كان مكشوفاً من خلال وجوده اللوجستي.ولهذا كانت المقاومة تستهدف هذا الانتشار والتموضع والوجود اللوجستي الظاهري باعتباره يجسد الوجود المادي للاحتلال.

أما المحتل الإيراني، فهو لا يريد السيطرة على ما يمكن أن تطال يده من ثروة العراق وحسب، ولا إدارة سياسية وعسكرية هشه وحسب أيضاً، بل يريد وقبل كل شيء تفريغ العراق شعباً ومجتمعاً من مخزونه القيمي، من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، والثقافة الوطنية والقومية، وكل الإرث التاريخي الذي تشكل على مدى القرون قبل قيام دولة الخلافة وما بعدها.

فقبل قيام دولة الخلافة العربية، كانت الحضارة العراقية تتفوق على الحضارة الفارسية بغناء إرثها الفكري ( المادي والروحي ) وملحمة جلجامش تقدمت على الشاهنامة ، وقس على ذلك كل معطى الحضارة البابلية والأشورية.

إن هذا المخزون التاريخي المتراكم لدى شعب العراق ليس نقطة تفصيلية في تشكل الشخصية الوطنية العراقية التي تمتد في بعدها التاريخي إلى الاف من السنين وليس عقوداً وقروناً وحسب.

وإذا كان النظام الإيراني يهدف من وراء احتلاله من الباطن لتفريغ الشخصية الوطنية العراقية من مخزونها الحضاري المتراكم عبر التاريخ فلكي يحدث فراغاً على مستوى السلطة ، كما على مستوى البنية المجتمعية بكل مكوناتها الثقافية والاجتماعية والتربوية وارثها التاريخي الحضاري.

لقد بات واضحاً إن الهدف من الاحتلال الإيراني ليس تجويع البطون وإفقار الشعب العراقي وإذلاله فقط ، بل وبدرجة أهم، إفقار النفوس وتفريغها من مخزونها الحضاري والتعبوي تمهيداً لإعادة إملائها بمنظومة قيمية جديدة تبدأ بتقزيم الإرث الحضاري للعراق قبل الدعوة الإسلامية وإسقاط معطى مرحلة الخلافة العباسية العربية، بكل إنجازاتها النهضوية، ومروراً بتغليب مفهوم "التشيع الصفوي" بكل مشهدياته وطقوسه على "التشيع العربي" وانتهاء بتدمير البنية الوطنية لدولة العراق الحديث.

إن النظام الإيراني في ظل نظامه الحالي يتعامل مع العراق بخلفية الثأر التأريخي من العراق والأمة العربية، وهنا تكمن خطورة هذا الاحتلال الذي يعمل لفرض نمط التفريس على الحياة المجتمعية مع ما يعني ذلك من طمس للهوية الوطنية واستطراداً للهوية القومية.

وكما كل احتلال يواجه بمقاومة، فإن الاحتلال الإيراني لا يشذ عن هذه القاعدة.وأن تأخذ الانتفاضة الشعبية في العراق بعدها الوطني، فلأن جماهير العراق باتت تعي أنها تقع تحت وطأة احتلال خطير يستهدف بنية الدولة وكل المنظومة القيمية للشعب.وأن تطلق شعارات ( بغداد حرة – حرة – إيران برا برا ) فهذا تعبير عن إدراك الشعب لطبيعة الاحتلال الإيراني الذي لا ينتهك السيادة الوطنية وحسب، بل يطال الشخصية الوطنية برمتها، وأن توجه المقاومة الشعبية المدنية سخطها ضد الرموز السلطوية فلأنها مشخصة ومجسدة بهيكيلات منظورة وإن كانت مجرد أدوات تنفيذية.

أن الانتفاضة اتخذت هذا البعد الشامل والانفجاري، فلأن المحتل الحقيقي غير مشخص بهيكيلات، وعليه، فإن انتفاضة شعب العراق هي مقاومة وطنية بامتياز بقاعدة شعبية عريضة و هذه هي الصفحة الثانية من المقاومة التي انطلقت ضد المحتل الأميركي وتستمر اليوم ضد المحتل الإيراني.وهذه المقاومة هي التي تحدد آليات عملها وتكييف ظروفها مع الأوضاع المحيطة بها.وأن تأخذ هذا البعد الشعبي فلكون الاحتلال الإيراني ليس احتلالاً عسكرياً تقليدياً، بل هو احتلال لإرادة الشعب وتشويه تاريخه واسقاط كل مخزونه الحضاري، ولهذا، اتخذت الانتفاضة الشعبية هذا البعد لإدراكها طبيعة الاحتلال الجاثم حالياً على صدور العراقيين.

إنه احتلال يتغول في البيئة المجتمعية فجاءت المقاومة بطابعها الشعبي لتشكل الرد الطبيعي الذي يلاءم طبيعة هذا الاحتلال.

هذه هي الصفحة الثانية من المقاومة الوطنية العراقية وما حصل ليس إلا جولة ستعقبه جولات أخرى وتأسيساً على انتفاضة تشرين وتراكم مقاومة المحتل الأميركي .





الاثنين ١٥ صفر ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / تشرين الاول / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة