شبكة ذي قار
عـاجـل











في يوم ربيعي من العشر الاول من نيسان ، كانت الامة العربية على موعدٍ مع مولودٍ سياسي ، اطل على الحياة العربية على وقع نشيد بلاد العرب اوطاني ، مؤذناً بانبلاج عصر عربي جديد ، ارتقى بحركة النضال العربي الى مستوى الفعل المنظم الذي اطلقته كوكبة من المناضلين العرب ،التأمت في غوطة دمشقية على ضفاف بردى تحت شعار “امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة “.في ذاك اليوم تفتحت شرايين الارض العربية وانساب منها نهر عربي ، سرت جداوله على مساحة الوطن العربي الكبير من مشرقه الى مغربه وبقيت مياهه جارية في سواقيه حتى في سنوات الجفاف العربي.ذاك اليوم ، كان السابع من نيسان لعام ١٩٤٧ ، واليوم ،بعد ثلاثةٍ وسبعين عاماً على تأسيس حزب البعث ، تستحضر الظروف بكل معطياتها الموضوعية والذاتية التي احاطت بإنبثاق الحركة التاريخية التي اجابت على تساؤل ،من نحن ؟.

وعليه ،وضعت الاسس التنظيمية لضبط ايقاع العمل المنظم ، وصاغت في اختصار مكثف عناوين الفكر السياسي ، الذي يحاكي الوضع العربي انطلاقاً من واقعه ،ويحدد سبيل خلاص الامة بتحقيق ثلاثية الوحدة والحرية والاشتراكية ،والتي تحولت الى اهدافٍ لكل الحركات الثورية العربية التي تؤمن بوحدة هذه الامة ورسالتها الانسانية.في ذكرى التأسيس ،كان العالم على ابواب تحول كبير ،استناداً الى ماافرزته الحرب العالمية الثانية من نتائج ، ويومذاك كانت الأمة العربية على ابواب الدخول في مرحلة جديدة مع بروز تحديات كبيرة ، ابرزها ماكان يدور على ارض فلسطين وارتسام معالم اغتصابها باقامة كيان استيطاني ،تحميه مظلة دولية ، انفاذاً لمقررات مؤتمر كامبل بانرمان عام١٩٠٧ وما سبقه من توصيات المؤتمر الصهيوني في بازل ،قبل ان يطوي القرن التاسع عشر سنواته الاخيرة.واليوم ، يقف العالم على ابواب تحولات كبرى ،بعد ثلاثين عاماً على انهيار مرتكزات النظام الدولي الذي افرزته الحرب الكونية الثانية ، ومعه يقف الوطن العربي على عتبة مرحلة جديدة ، ليست منعزلة بمعطياتها عن المتغيرات الدولية ،نظراً للأهمية الاستراتيجية التي يشغلها موقعه وغناء ثرواته ومحتوى مخزونه التاريخي ،كحاضن لحضاراتٍ ومهدٍ لاديانٍ وتراثٍ علمي وارثٍ فكريٍ ادبيٍ وفلسفيٍ، ترك اثراً واضحاً في منظومات الثقافة والعلوم الانسانية.استناداً لهذه الميزات، كان الوطن العربي ومنذ بدأت تتبلور معالم الهوية القومية للامة، ارض صراع فيه وعليه ،حيث تداخلت مؤثرات الصراع في داخله مع مؤثرات الصراع من خارجه ، مماجعل نهوض الامة يواجه تحديات عوائق الداخل التي تشكلت عبر قرون من الزمن ،واتضحت مشهدياتها مع قيام النظام الاستعماري الجديد، وتحديات التدخل من الخارج الذي تدرج تصاعدا الى مستوى العدوان والاحتلال ، واخطره الاحتلال ذي الطبيعة الاستيطانية.

على مدى السنوات الفاصلة مابين التأسيس والوقت الراهن ، لم تسر الامور وفق خطٍ بياني تصاعدي ، لأن الامة التي يسجل لها ،عبور محطات مضيئة ، شهدت ايضاً انتكاسات في محطات اخرى، والحزب لم يكن بمنأى عن ذلك ، حيث وضع منذ انطلاقته ضمن دائرة الاستهداف المعادي ،تخريباً من الداخل ،وانقضاضاً من الخارج.واذا كانت ابرز محطات التخريب والتآمر من الداخل تجلت بردة ٢٣ شباط ، يوم حصل الانقلاب على الشرعية الحزبية ، فإن ابرز محطات الاستهداف من الخارج تمثلت بالعدوان الذي توالى فصولاً على العراق بدءاًمن الايام الاولى لثورة ١٧ - ٣٠ تموز عام ١٩٦٨ ووصل ذروته بغزوه واحتلاله عام ٢٠٠٣ ، بحيث كانت اولى القرارات التي اتخذها المحتل الاميركي ،حل الجيش العراقي واجتثاث حزب البعث.وكان واضحاً ان الهدف من هذين القرارين هو تقويض بنية الدولة الوطنية في العراق ،نظراً لكون مؤسسة الجيش وخاصة مؤسسة الجيش العراقي هي المؤسسة الارتكازية الأهم في بنيان الدولة وعنوان قوتها ، كما ان حل حزب البعث واصدارقرار باجتثاثه ، انما كان يرمي الى اضعاف عناصر المناعة الوطنية لدى البنية المجتمعية ،باعتبار ان حزب البعث فكراً وتنظيماً وممارسة نضالية وسياسية ، هو الاداة المؤهلة لتحقيق وتفعيل حالة الانصهار الوطني التي يقدم الشعب نفسه من خلالها ، ليس باعتباره كماً عددياً تتجاذبه الفئويات المتفلتة من ضوابطها الوطنية ، ولا باعتباره مجموعاتٍ طوائفية تنسب لنفسها هويات سياسية خاصة ، وهي هويات قاتلة بطبيعتها ، بل يقدم نفسه باعتباره مكوناً ينشد الى جاذبية هويته الوطنية العابرة للمناطق والطوائف ، والتي بها يعرف ويعرّف.

وعندما تأتي سياقات الاحداث التي اعقبت اجراءات الحل للجيش العراقي والاجتثاث لحزب البعث ، لتبرز المشهدية السياسية والمجتمعية التي خيمت على واقع العراق والامةالعربية بعد الحل والاجتثاث ، لتأكد دون مزيد من الادلة والبراهين ، ان ضرب العراق لم يكن استهدافاً لمشروعه السياسي وحسب ، بل كان استهدافاً وبدرجة اولى لبنية الدولة وللأداة السياسية التي قوّت مرتكزات الدولة الوطنية، وحملت مشروعاً سياسياً يتجاوز حدود الدولة الوطنية العربية الى رحاب الوطن العربي الكبير.ان الحملة العدائية اشتدت على الحزب ، لأنه الوحيد الذي طرح مشروعاً متكاملاً للنهوض القومي ، انطلاقاً من تحديده لمصادر الخطر على الامة ،وتشخيصه للأمراض التي يعاني منها الجسم العربي ، وهو اذ طرح الوحدة كرد على واقع التجزئة ، والاشتراكية كنظام اقتصادي لاقامة دولة الرعاية والحمايةالاجتماعية، وتوظيف مقدرات الامة في خدمة تنميتها القومية ، فإنه اعطى اولوية ايضاً للحرية في منظومته الفكرية وخطابه السياسي.وهذه الحرية التي شدد على نواميسها لم يرَ سبيلاً غيرها لانهاء الاستلاب بعنوانيه القومي والاجتماعي.

واذا كان الحزب اعطى مساحة واسعة للحرية بتعبيرات ديموقراطيتها السياسية عندما كان يلعب دورياً قيادياً ضد النظم الرجعية وسياسية الاحلاف التي وسمت الخمسينيات بسماتها ، فإنه اعطى ايضاً مساحة واسعة للحرية بتعبيرات ديموقراطيتها الشعبية يوم قيض له ان يقيم سلطة ،قدمت نفسها من خلال انجازاتها التي استفزت القوى التي تناصب الامة العداء وشكلت تحالفاً دوليا واقليمياً لضربها واسقاطها.وهذا الحزب ،يوم تم تأسيسه لم يتشكل بقرار سلطوي كي يسقط بسقوط السلطة التي اقامها ، و لذا يستمر بالحياة طالما استمرت الحاضنة التي ولد من رحمها وترعرع ونما في بيئآتها ،على قيد الحياة ، وهذه الحاضنة ليست نظاماً ولا اية سلطة بعينها ، بل هي امة والامم لاتموت وان تعسرت في مسيرتها.وعليه فالحزب الذي ولد من مخاضها ،لايموت طالما بقي قلب الامة ينبض بالحياة ويضخ الدم في شرايينها.ألم يقل الشاعر : محال ان يموت وهو حي فكيف يموت ميلاد وجيل.

فبعث الموت امر مستطاع وموت البعث امر مستحيل.ان نبض الحياة في الامم هوفي حراك شعوبها ، وهذه قاعدة عامة، والامة العربية لاتشذ عن هذه القاعدة ،وإلا لما كانت الحياة السياسية اختلجت فيها توقاً لابراز شخصيتها القومية منذ قرن من الزمن.ويوم اعلن حزب البعث عن نفسه قبل نيف وسبعة وعقود، كانت الامة تختلج بحيوية شعبية عبر ت عن نفسها بالاستعداد الذاتي للدخول في عهد الاستقلال عن دول الانتداب ،وانطلاق الثورات الشعبية للتحرر من نير الاستعمار.

وعلى مدى عقد ونصف من تاريخ التأسيس هيمن البعد القومي على خطاب الحركة الشعبيةالعربية التي كان الحزب احد ابرز محركيها ، انطلاقاً من اولوية معركة التحرير الوطني انتصاراً لثورات في ساحات عربية وابرزها ثورة الجزائر ، وفتح الآفاق امام انطلاق ثورات اخرى كان ابرزها ثورة فلسطين.واذا كانت هذه الثورات لم تأخذ كامل ابعادها القومية لاسباب ذاتية وموضوعية ، الا انها تركت بصماتها في مسيرة النضال العربي ،بحيث شكلت مع الثورات الوطنية الاخرى ذات الابعاد القومية ،وابرزها ثورة البعث في العراق المحطات المضيئة في التاريخ الحديث للامة العربية.وفي كل هذه المحطات كان البعث حاضراً كرافعة للمسيرة النضالية العربية بكل الامكانات المتاحة في السلطة كان ، اوفي المعارضة وفي صلب الحركة الجماهيرية خارج السلطة.واليوم ،وفي وقت تشتد فيه الهجمة المعادية على الامة لتدمير بنى دولها الوطنية، وتخريب البنى المجتمعية من اعداء الخارج الدولي والاقليمي، وقوى تخريب الداخل لتقسيم المقسم وتفتيت المفتت ،والنزول بواقع التجزئة الكيانية دون ماهو قائم ، تتمخض الاختلاجات في الامة عن انتفاضات شعبية ، بعضها جاء من خارج سياق التوقع وبعض آخر جاء ضمن سياقاته الطبيعية بعدما طفح كيل منظومات الارتهان للخارج واستفحل فسادهاالسياسي والاقتصادي.ان الانتفاضات الشعبية التي انطلقت في العديد من الساحات العربية وتشابهت في شعاراتها ، ابرزت حقيقتان.

الاولى ،انها اعادت الاعتبار للحركة الشعبية العربية التي علبت وهمش دورها لعقود.والثانية، انها اعطت الدليل العملي على الحيوية النضالية التي تختزنها الامة في ذاتها.وبطبيعة الحال، ان الاحزاب التي تعتبر الجماهير مادة الثورات ، تكون موجودة حيث تكون الجماهير في نضالها ، وهذا ماكان يؤكد عليه القائد المؤسس الاستاذ ميشيل عفلق دائماً : نكون حيث تكون الجماهير.ولذا فإنه من بديهيات الامور ان يكون البعث حاضراً في الانتفاضات الشعبية، وهذا الحضور لايقرأ انسجاماً مع طبيعته ودوره وحسب ، بل يقرأ ايضاً من خلال الرد العملي في الساحات والميادين على من حاول اجتثاثه بقرار ، ولتأكيد المؤكد، بأن من لم يلد بقرار لن يجتث بقرار.

وهو اذ يثبت وجوده من خلال النضال الجماهيري وبالتعبيرات الديمواقراطية ،ففي ذلك عودته للبدايات ،واعادة الاعتبار لدور الجماهير في صياغة خياراتها السياسية على مستوى التصدي لكل من يناصب الامة العداء القومي، وعلى مستوى التصدي لنظم الاستبداد والقمع ومنظومات الفساد بكل اشكاله وبكل رموزه وشخوصه وهيئاته.

وبهذا يأخذ النضال الجماهيري بعده القومي كما بعده الاجتماعي ، وهو الذي شكل اساساً لنظرية البعث العربي الاشتراكي ،التي ربطت بجدلية تفاعلية بين اهداف التحرير الوطني والتحرر الاقتصادي و الاجتماعي.هكذا انطلق البعث يوم اعلن عن نفسه قبل ثلاثة وسبعين عاماً ،وهكذا يستمر منخرطاً في النضال الجماهيري مستفيداً من معطى تجربة غنية ،شابتها ،ولا شك بعض السلبيات ، إلا ان الايجابيات التي افرزتها مسيرته ،هو مايؤسس عليه مجدداً كي يبنى عليه للدخول الى رحاب مرحلة جديدة من حياة الامة ،تتبوأ فيها الحرية والديموقراطية موقعاً مركزياً في النضال العربي .. هذا هو البعث عندما اعلن نفسة في يوم التأسيس ، وهكذا يستمر في نضاله لتحقيق اهداف الامة في الوحدة والحرية والاشتراكية.





الاثنين ١٣ شعبــان ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / نيســان / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب كلمة الطليعة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة