حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب وُلِدَ في ظروف مجتمعية سياسية واقتصادية كان لها دورها الكبير في صياغة أهدافه ، وبرامجه السياسية حيث كانت سوريا ما تزال تحت الانتداب الفرنسي ، أما العراق فرغم أنه كان قد حقق نوعاً من الاستقلال منذ عام ١٩٣٠ ، إلا أنه كان مرتبطاً مع بريطانيا بمعاهدة تحد من استقلاله ، وتجعله تابعاً سياسياً ، واقتصادياً لبريطانيا ، فما هي هذه الظروف التي ساهمت في وجود هذا الحزب وما هي تداعياتها على أهدافه ، وبرامجه السياسية ؟ ، هذا ما سيتوضح لنا في أيديولوجية حزب البعث وعقيدته السياسية والاقتصادية في تفسيره ، وتحليله للمجتمع العربي بشكل عام ، والعراقي بشكل خاص ، وتفسير هذه الأيديولوجية على ضوء أفكار منظر البعث ومؤسسه الأول أحمد ميشيل عفلق ( رحمه الله ) من خلال عرض أهم آراءه حول تناقضات المجتمع ، وحلولها من وجهة نظره ، على أساس أنه يعتبر المفسّر الأول والأخير لأيديولوجية حزب البعث ، إضافة إلى تعززها من بعض المنطلقات النظرية للحزب ، تلك المنطلقات التي صاغتها المؤتمرات القومية للحزب خلال فترات انعقادها.
منذ رفض العرب لسياسة التتريك ، التي اتبعتها الدولة العثمانية ،بعد انقلاب جمعية الاتحاد والترقي عام ١٩٠٨ ، ومن ثم توافق العرب بجميع طوائفهم الدينية ، على تجاوز خلافاتهم حول فكرة القومية العربية ، واتفاقهم على برنامج عملي عربي قومي ، بدأت الأحزاب القومية في الظهور فكانت كلها تنادي بالقومية العربية ، وضرورة قيام كيان عربي موحد , رغم أن الظروف لم تكن مواتية , إلا أنهم سعوا إلى أن تكون لهم شخصيتهم القومية المتميزة في ظل الدولة العثمانية ، فقد اشترك قسما من السياسيين العرب في المؤتمر العربي في باريس يونيو ١٩١٣ , وقرروا الأمور التالية :
١ - اشتراك العرب في الحكومة المركزية للإمبراطورية العثمانية.
٢ - اشتراك العرب يجب أن يكون فعالا وليس اسميا.
٣ - اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية والاعتراف بها كلغة ثانية
في البرلمان العثماني.
٤ - اقتصار الخدمة العسكرية على حاجات الولايات العربية باستثناء الحالات العادية.
٥ - إقامة نظام لا مركزي في جميع الولايات العربية.
٦ – مشاركة العرب للأرمن حول نظام لا مركزي مماثل.
ومنذ ذلك الوقت بدأت الآراء القومية تجد لها مريدين في الدول العربية وخاصة تلك الدول التي عانت من التقسيم الاستعماري لها , وهي دول الهلال الخصيب حيث قاست من هذه المنطقة بين فرنسا ، وبريطانيا , فكان نصيب فرنسا كل من سوريا ولبنان ، أما نصيب بريطانيا فكل من العراق والأردن وفلسطين ، ورغم ما كان يربط هذه المنطقة يبعضها البعض من روابط سياسية ، وعشائرية ، واقتصادية ، إلا أن نظامي الانتداب الفرنسي والانكليزي عملا على حل هذه الروابط ، فنشأت فيها موجات متصاعدة من الصراع الداخلي.
وقد تميزت هذه المرحلة بعدة سمات أهمها :
١ - اجتماع القوى بغض النظر عن انتمائها الطبقي ، وتكوينها الفكري على
مكافحة الاحتلال من منطلقات ومواقف ومصالح مختلفة.
٢ - هيمنة الطابع الإقليمي على الحركات الاستقلالية وتركيزها على تحقيق الاستقلال
السياسي ضمن حدود القطر العربي الواحد.
٣ - ظهور وتنامي الشعور القومي مقترنا بوعي قومي خالص اشتراكي.
٤ - سيطرت الفئات البرجوازية على قيادة الأحزاب ، والمنظمات السياسية.
٥ - بدء بروز الطبقة الوسطى عن طريق المثقفين ، والضباط ، وقيادات الأحزاب ،
والحركات السياسية.
٦ - بروز دور النخبة المثقفة على حساب المشاركة الواسعة والفعالة للجماهير.
٧ - إهمال الأحزاب الوطنية التي تتزعمها البرجوازية للمطالب الاجتماعية ، وعزلها
لطلب الاستقلال , والحرية عن مطلب التغيير الاجتماعي والتطور الرأسمالي.
وفي هذه الظروف اتسم المجتمع العربي في بنيته الاجتماعية
بعة سمات أهمها :
١ - هيمنة الظاهرة الاستعمارية وتأثر المجتمع العربي بتطور النظام
الرأسمالي.
٢ - طابع التخلف المسيطر على القطاعات الأساسية الثلاث ( البدوي ، الريفي ، المدني
) للبناء الاجتماعي ، وارتفاع نسبة السكان في القطاعين البدوي والريفي ، وانخفاضها
في القطاع المدني.
٣ - غلبة العلاقات الإقطاعية في الريف ، والنمو النسبي للعلاقات الرأسمالية في
المدن ( البرجوازية التجارية ، والصناعية ).
٤ - بدء بروز الطبقة العاملة وصعود الطبقة الوسطى ( الملاكون , وصغار التجار ، وأصحاب المهن الحرة ، والمثقفون الوطنيون ، والعناصر الوطنية في الجيش والشرطة .. الخ ) , وخاصة بعد بدء إنتاج النفط العراقي الذي اكتشف في عام ١٩٢٧ , بالقرب من شمال مدينة كركوك العراقية ، ثم في بقية أجزاء العراق.
٥ - انتشار الأيديولوجيات الليبرالية ’ والاشتراكية والفاشية إلى جانب الوعي القومي ، ونمو النزعات الاستقلالية والتحررية.
وعلى هذا الأساس رأي الكثير من المثقفين إن التكامل العربي من الوحدة الاقتصادية الغربية , وهوا لهدف الرئيس وهو السبيل والأساس المادي للوحدة العربية الشاملة , وإن تجاهل هذه الأهداف يجعل التكامل الاقتصادي بين الدول العربية ليس سوى شكلا من أشكال التكاملات الاقتصادية العادية التي هي شكل من أشكال التنظيمات الإقليمية ’ للقضاء على التمييز في المعاملة في محيط الدول الأعضاء , وان السياسية الاستعمارية عمدت إلى تجزئة الوطن العربي , من اجل القضاء على الوحدة العربية , واستنزاف ثروات الأمة ، والاستفادة من الموقع الاستراتيجي للوطن العربي , وإضعاف الروابط بين اقتصادياته , وربطها بالغرب الاستعماري ، والحيلولة دون قيام الصناعات الوطنية , إلا بما يخدم أغراضها الاستعمارية.
لهذا كان للنموذج الوحدوي جاذبية كبيرة في الدول العربية ، وخاصة في دول الهلال الخصيب ، بسبب ما تعانيه هذه الأقطار من تشرذم سياسي ، وعدم تجانس ثقافي ، ووجود الو لاءات الطائفية ، والقبلية والإقليمية ، فلا وفاق جماعي داخلها في القضايا الأساسية التي تواجهها , لذلك رأى الكثير من السياسيين في هذه الدول ضرورة التطلع خلف حدود هذه الأقطار من اجل حل المشاكل المتعلقة بهوية هذه الدول , بسبب ما تعانيه من أزمة الهوية داخلها , حيث حاول الاستعمار أن يصنع لها هوية مختلفة عن هويتها الأصلية , وجعلت تلك الهوية عمداً لصالح الأقليات سواء كانت أقليات طائفية أو عرقية أو طبقية أو غير ذلك , لذلك فقد أخفقت حكومات ما بعد الاستقلال , التي كانت سياستها قطرية , وإقليمية إلى حد بعيد في جذب مشاعر الولاء , والطاعة من الشعب كله , من هنا كان دور الصفوة السياسية التي جعلت من أولى مهامها البحث عن الهوية الوطنية من خلال إقليم يتجاوز حدود هذه الدول , فكانت مشاريع سوريا الكبرى , أو الهلال الخصيب , أو الوحدة العربية الشاملة , تلك المشاريع التي دعت إلى وجوب وجود هوية جامعة خارج كيان هوية الدولة القطرية.
وكان فشل السياسيين السوريين التقليديين , الذين تزعموا نضال الشعب السوري ضد الانتداب الفرنسي في المفاوضات , مع سلطات الانتداب الفرنسي , قد ساهم في سلب لواء الاسكندرونة السوري لصالح تركيا عام ١٩٣٩ , كما أنهم تميزوا في فترة ما بعد الاستقلال الرسمي عام ١٩٤٣ , بعدم القدرة على قيادة هذه المرحلة , بسبب نقصهم للكفاءات الإدارية , وعدم قدرتهم على حل المشاكل الاقتصادية , والاجتماعية , إضافة لعدم قدرتهم على تحقيق التضامن العربي , كبديل لسد عجزهم عن كبح جماح التسلط الصهيوني على فلسطين التي يعتبرها الكثيرين إنها جزءا من الوطن السوري بشكل خاص , والعربي بشكل عام , كل ذلك أدى إلى ولادة أحزاب جديدة سواء كانت تقليدية , أو يسارية.
كما كان ظهور جماعة مساندة للثورة العراقية عام ١٩٤١ , واشتراك عدداً من القوميين السوريين فيها , ودعمها مادياً , خاصة إن هذه الثورة كانت قد دعمت لتحرير سوريا , والعراق معاً , مما زاد من مريدي الأحزاب القومية في كل من سوريا والعراق , حيث رؤوا أن التجزئة الحاصلة بين الدول العربية , هي تجزئة تحاول أن تكون ثابتة وشرعية , بخلاف العهود قبل سايكس بيكو.كما أن وجود الجامعة العربية منذ عام ١٩٤٣ , وقيام دستورها منذ عام ١٩٤٥ قد أثار القوميين العرب , الذين رؤوا فيها مؤامرة غربية بريطانية تهدف لمنع تدخل الحكام العرب في شؤون بعضهم البعض , واحترام كل منهم لحدود الدول العربية الأخرى , وإقامة الصلات الدبلوماسية مع بعضهم البعض كما لو كانوا دولا أجنبية , مما حذا بهؤلاء القوميون إلى السعي , لإقامة أحزاب تدعوا إلى الوحدة العربية , بغض النظر عن الجامعة العربية.
هذه الظروف اجتمعت مع بعضها البعض لتساهم في ظهور حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا التي كانت الساحة العربية التي تمثل الواقع العربي كله.