شبكة ذي قار
عـاجـل










تمر علينا الذكرى الحادية والثلاثون لوفاة القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق الذي رحل عن عالمنا في ٢٣ حزيران عام١٩٨٩، فترك لنا إرثاً فكرياً وإنسانياً وأخلاقياً، فكان بحق ثروة قومية فكرية متجددة، كانت اسهاماته في تطور الفكر القومي العربي، ولن أجعل ورقتي هذه مرثية له، فهو لا يحتاج مرثيتي، ولكنه بحاجة إلى التحليل والتشريح في البعد الفكري للمستقبل، وما هو مفهومه للإسلام بصورة خاصة والدين والتراث بصورة عامة، وما هي المعارك التي خاضها إثر محاضرته الشهيرة في ذكرى الرسول العربي التي قال فيها :

"ولسوف يجئ يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الإسلام، ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصاً إذا أرادوا أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء".

إن القائد المؤسس رحمة الله عليه تبنى الإسلام منذ ذلك التاريخ والذي كان يدعو المسيحيين العرب إلى أن يتفهموا الإسلام، وهو أعظم ثروة في تاريخهم وأن يتصرفوا على هذا الأساس.

ويخطئ من يظن أن القائد المؤسس تبنى الإسلام نتيجة ضغوط، بل كان إيمانه بالحرية " حرية أن يختار الإنسان ما يختاره، فميشيل عفلق تبنى الإسلام من خلال الحرية، وعدم ضغط الميراث الطائفي عليه أبداً" ( ١ )

فكان رحمه الله روحانياً وعقلانياً وكان واقعياً وعملياً، فكان مناضلاً لم تغريه السلطة في يوم ما "لذلك لا يعلن إسلامه عام ١٩٤٣ حتى لا يوظف هذا الإيمان توظيفاً سياسياً ضيقاً، وعندما أعلن إسلامه بعد وفاته كان من أجل رفع التباس ممكن أن يحدث، وهو أن يوظف الدين من أجل السياسة، هو نفسه كان صادقاً مع نفسه كل الصدق في اختياره هذا" ( ٢ )

وهذه المسالة تسجل للقائد المؤسس وليس ضده، أي إنه لم يرضخ للابتزاز الديني، الدين مسالة شخصية علاقة الإنسان بربه ومن خلال جهده وجهاده.

لقد كان القائد المؤسس يذهب دائماً إلى التراث الثقافي للأمة العربية _ والإسلام هو الجانب الهام فيه، الجانب الإلهي المقدس _ هو الذي يحدد المستقبل للأمة العربية، وهو الذي يكتب للأمة العربية التسامي والخلود.

يقول في إحدى مقالاته : " ان الأمة لا يمكن أن تنشئ مستقبلاً جديراً بها، مستقبل في مستوى عظمتها، إذا لم ترجع إلى تراثها، وإذا لم تكتشف عن طريق النضال والثورة _ الجديد والخالد في هذا التراث.تراثنا ليس شيئاً مضى وانقضى، وليس شيئاً للتاريخ والمتحف، تراثنا سجل عبقريتنا، والثورة العربية التي لا تستلهم هذا التراث مقضي عليها بالفشل ، شعبنا العربي لا يتحرك ، ولا يؤيد ، ولا يندفع في النضال والتضحية إلا وراء حركة فيها نفحة الرسالة ، وتكون ميزتها الأولى _ الأخلاقية " ( ٣ ) ، وعلى ضوء هذه الوقائع والأحداث تؤكد أن الشعب العربي والشعوب في العالم لا تبحث عن الاسم والرسم لتحتضنه وتقبله وتختاره، وإنما تبحث عن الرمز والنموذج المتقدم في السلوك والقيم والقول والفعل لكي ينتشلها من الضياع الروحي والمعنوي الذي تعيشه البشرية اليوم بعد أن تحولت المادة في حياتها كل شيء، ولنا في التاريخ ثورة الإسلام أفضل مثال على ذلك ، حيث كان الرسول العربي القريشي الهاشمي صلى الله عليه وسلم الذي كان نموذجاً في الإشعاع ، والإشعاع يعني أن يرى الإنسان هدفاً يتحقق أمامه، أي تحول الهدف من أمنية إلى واقع ، وبما "أن الروح هي الأصل في كل شيء، وأن الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب وإنما يخلقها أيضاً" وإن "الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشرية منذ أقدم العصور إلى اليوم هو شيء أساسي في حياة البشر".

وانطلاقاً من هذا المبدأ نعلن نحن القوميون العرب التقدميون ونعلنها بوضوح إن ما يجري في العراق بعد الاحتلال الأميركي وتأثيراته وانعكاساته على الساحات العربية والإسلامية والعالمية باسم الدين يطرح جانباً ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين وبحكم سطحي عابر، ولكن يجب أن نفرق بين الدين وحقيقته وأبعاده ومراميه الإنسانية والحضارية وبين الدين كما يتجسد أو يظهر في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح وتصرفات.

وهنا نطرح السؤال الكبير :
كيف نحدد الدين في حقيقته ومرماه، وكيف نميز بينه وبين المفاهيم والعادات والتقاليد التي تجسد مظهره السطحي؟
فيجيب القائد المؤسس : "لادين مع الفساد والظلم والاستعمار، وإن الدين الحقيقي هو دوماً مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد"
إذن، الدين الحقيقي إنما وجد ليشجع المحبة والإخاء، ليحمي الضعيف، ولكن أصبح بممثليه سياجاً لكل هذه المساوئ، مساوئ الظلم والفساد والإلحاد.

كما علينا أن نفرق بين ظاهرة التدين وحقيقتها، ونحذر أيضاً من الفهم السطحي للدين الذي يقوم على "أن نستنتج بسرعة، إنه مادام مظهر الدين في هذا الوقت ومادام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد وليس في صف الثورة على الفساد، فإذن الدين من أساسه فاسد لا وجوب له ولا خير فيه، لذلك يجب التخلص من الدين لأنه سلاح بيد الظالمين والمفسدين"

إلا أن البعث يرفض هذا النوع من الفهم السطحي للدين قائلين "هذه هي النظرة السطحية والاستنساخ الخاطئ جداً، وهذه النظرة التي توقفت عندها الشيوعية" التي ترى : إنه ومادام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة خاصة خلال التاريخ الحديث، حيث تفاقمت الفروق الطبقية والاستغلال الطبقي، مادام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه .. لذلك رأت الماركسية أن تنسفه نسفاً، "فنحن البعثيون نرفض هذا الموقف رفضاً قاطعاً ونقول : " نحن لا نقر هذا الواقع على ما فيه من واقعية، إذ ينبني على ضعف ثقة الإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة"، لذلك " فعلى رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعماً للظلم والتأخر والعبودية، نثق على رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين وعلى هذا النوع - من التدين الكاذب والمشوه وأن يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه".

من هنا كان رفض موقف الشيوعية من الدين يستلزم ايضاً رفض موقف الرجعية الدينية، ذلك أن " الرجعية الدينية، تؤلف مع الرجعية الاجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، إنها أكبر خطر على الدين"، ولذلك "فمقاومتنا الرجعية الدينية من دون اعتدال ومن دون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة منها تنقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد" ونقول : نحن "لم نتوقف عند هذه النظرة السطحية السلبية، لكننا نتجاوزها، وقلنا : ليس قدراً على الدين أن يبقى متحجراً دوماً، الدين قادر أن يعود إلى حقيقته إذا وجد أفراداً مؤمنين يعيدون إلى الدين صفاءه الأول، الدين شيء أساسي وسيرجع إلى جوهره منقلباً على النقمة".

فالإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية ثائرة ضد المعتقدات والتقاليد البالية والمصالح الأنانية والفردية، نادى بها فرد واحد في البدء وآمن بدعوته أفراد قلائل، واحداً بعد الآخر، وأفراد أكثرهم من المسحوقين والفقراء والكادحين والضعفاء بالنسبة إلى مجتمعهم، وأنهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى.

فنتساءل اليوم قائلين لحكام المنطقة الخضراء المأجورين " فلو تخيلنا أن المسلمين الأولين الذين عرفوا النضال من أجل المبدأ وذاقوا كل مرارته واجتازوا امتحانه ودفعوا ضريبته، هذه الفئة أو بعض أفرادها، لو جاؤوا اليوم وهبطوا على حياتنا العربية الحاضرة، أي وسط سيشعرون إليه بالقرابة؟ "هل يكونوا مع الظلم والفساد والقتل والتشريد والتهجير والاحتلال والمستغلين وسارقي قوت الشعب؟

ويجيب البعث وبلا تردد " إن المسلمين الأولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش إلا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين والمستعبدين، إلا في السجون مع المناضلين، فأصحاب دعوة الحق دائماً إلى جانب الحق" حيث قال إمام المتقين وسيد العارفين ويعسوب الدين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه : " لوكان الفقر رجلاً لقتلته" وقال : "كاد الفقر أن يكون كفراً".

ونرى أن معنى هذه الأقوال والحكم العميقة بأن الأوضاع الفاسدة تخرج الإنسان من دينه.

فعلى أساس هذا الفهم لمسألة الدين لأنه" تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وأنه يمكن أن يتطور ويتبدل في أشكاله، وأن يتقدم أو يتأخر لكنه لا يمكن أن يزول".

هذا الموقف العام والإيجابي من الدين، وبالمقدمة منه الإسلام الذي هذب القومية العربية وأعطاها الأبعاد الإنسانية والحضارية، الذي يرفض في آن واحد الإلحاد واستغلال الرجعية الدينية.

وخلاصة ما تقدم، ما تزال ذكرى غياب القائد المؤسس حية في الأذهان والنفوس، فقيد العروبة والإسلام، فكان مفكراً من طراز متميز يقول : " لسنا إلا نتاج أمتنا " ( ٤ )
فالقائد المؤسس فهم الإسلام فهماً صحيحاً وحقيقياً من ناحية و" فهم الينبوع الأول لفكره، وهو الأمة بواقعها وحقيقتها وهي تنهض وتنبعث من جديد في عصر جديد، فروح الأمة، والتي هي ثورة متجددة، وروح العصر، والتي هي بالدرجة الأولى، ثورة الحرية وثورة حقوق الإنسان"، يشكلان المصدر الأول لهذا الفكر، وإلى هذا الينبوع الأول كان النضال والمعاناة والألم، ثم الثقافة تضاف كلها كمصادر رافده، فكلمته رحمه الله "النضال هو الذي أوجد فكر الحزب".

المصادر :
( ١ ) الرفيق الدكتور إلياس فرح ميشيل عفلق قضايا الفكر والممارسة ص٢٢٢
( ٢ ) نفس المصدر ص٢٢٣
( ٣ ) في سبيل البعث ص٤٦
( ٤ ) في سبيل البعث الكتابات السياسية الكاملة ج١ ص٥٠
( ٥ ) انظر روح الأمة وروح العصر الكتابات الكاملة ج ٣ ص٩٣
( ٦ ) المصدر نفسه ج٤ ص٤٤٥





الاثنين ٨ ذو القعــدة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / حـزيران / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب جابر خضر الغزي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة